“حائط غاندي”.. جدارية بخيوط الحرير

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 60
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عزة مازن

بداية أود أن ألمح إلى السمات العامة التي تربط المشروع الإبداعي عند الدكتورة عزة رشاد، ويتجلى في قصصها القصيرة. فقصصها منمنمات سردية تغيب عنها الأحداث الكبرى بحضورها المباشر، ولكنها تتخلل ثنايا السرد وتستدعيها التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة، تلك التفاصيل التي تغزلها الكاتبة بخيوط من حرير. يظهر ذلك في مجموعتها السابقة “بنات أحلامي” (2013). فعلى مدى إحدى عشر قصة قصيرة تغزل الكاتبة الحياة الإنسانية البسيطة في منمنمات سردية، تؤطرها أجواء سريالية أحيانًا وكوابيس كفكاوية أحيانًا. تغيب الأحداث الكبرى عن السرد وتتشابك تفاصيل الحياة الصغيرة، تتحاور وتتقابل، في تكثيف درامي تحيطها غلالة شاعرية شفافة تغلف معاناة البشر في بحثهم المضني عن الحق والعدل، بل عن أبسط مقومات الحياة.

في مجموعتها القصصية الأحدث “حائط غاندي” تواصل عزة رشاد منمنماتها السردية التي تتشابك فيها التفاصيل الحياتية الصغيرة وتواصل بحثها عن الحق والعدل وحق البسطاء في حياة كريمة. في المجموعة الجديدة تنسج الكاتبة جدارية واسعة، وحداتها 22 قصة قصيرة على مدى 156 صفحة من القطع المتوسط. وفي إتقان ودربة من يستخدم خيوط الحرير تنسج قصصها، فيمتزج فيها الواقع والخيال، وتتداخل الأزمنة، وينفتح السرد على التناص الأدبي والتاريخي، دون تزيد أو إفتعال. تنفصل قصص المجموعة من حيث اختلاف المضمون وتنوع تقنيات السرد، ولكن يربطها خيط فكري وإحساس مرهف بالهم القومي والإنساني، تتوارى ملامحه في ثنايا النصوص.

تُستهل المجموعة بقصة “رسائل بظهر الغيب”. تحفل القصة بقدر كبير من التناص الأدبي والتاريخي، الذي توظفه الكاتبة ببراعة فائقة ودربة كبيرة على التحكم في خيوط السرد. تبدأ القصة باستدعاء “بوسطجي يحيى حقي”، فيبدو كإله من آلهة الأولمب في الميثولوجيا الإغريقية القديمة، يحمل في حقيبته رسائل تحدد مصائر البشر، فهو، كما جاء في النص: “… يوزع أظرفًا مغلقة، لكن بمجرد تسليمها للمرسل إليه، يدرك “البوسطجي” من ملامحه وأفعاله ما كان يحمله له: هناك جوابات تُفرح الناس، وأخرى تفعل العكس، يتنهد البوسطجي … الحقيبة أكبر من حجمها، الحقيبة مستودع أسرار”. ينفتح السرد على مشاهد إنسانية مختلفة، تتنقل الكاتبة بينها في كادرات منفصلة، كمشاهد سينمائية. فمن الفتاة التي تبتاع حقيبة بيضاء تحرص أن يكون بها جيب سري تخبئ فيه شريط حبوب منع الحمل، إلى جوف التاريخ حيث “يفتح غاندي “مخلاته” ويطيَّر حمامة، ظلت شريدة سنوات قبل أن تجد من يستقبل رسالتها”. ترتد الكاميرا إلى الحاضر لتقرن مخلاة غاندي ببقجة من الدمور: “تحملها المرأة الأربعينية بيد وبالأخرى تمسك بيد ابنتها أم ضفيرتين طويلتين، وتقطعان طريقًا رفيعًا بين الغيطان في غبشة الفجر… ينتهي بافتراقهما عند باب المدرسة”. في الظهيرة تستقبل الأم ابنتها عند باب المدرسة، بينما تمد يدها بالمناديل الموجودة في “البقجة الدمور” تبيعها للمارة. تعود الكاميرا لتلتقط مشهدًا واسعًا في المنتزه العامة، يظهر فيه الجميع: فتاة الحقيبة البيضاء وبائعة المناديل وابنتها، وعجوز، لم يحتمل عقله قسوة الزمان، يصحب حفيده وقد أعد له حقيبة من طعامه الشهي المفضل، وشاب مثقف يرتدي نظارات طبية سميكة، مغدور في حبه، يتمرد على تصديقه لرومانسية جوته في زمن “نيرون”، فيمزق خطاباته الغرامية وأشعاره، التي أعادتها له الحبيبة واضعة النهاية لعلاقتهما. يدوس الفتى أوراقه بقدميه، فيراها العجوز زهورًا داستها الأقدام. يعود السرد إلى إله الميثولوجيا الإغريقية القديمة – بوسطجي “يحيى حقي” – وقد تشابكت الخيوط في يده، فاختلطت مصائر البشر، يقول السرد: “كانت سيدة المناديل الورقية ما زالت تدور، فيما توقف بوسطجي يحيى حقي في مكان وزمان بعيد وفتح الرسائل لتسرية الوقت، لكنه عجز عن إغلاقها فاشتبكت الحكايات واختلطت المصائر”. بيد أنه في النهاية يخضع الجميع لمصير واحد – الموت بقنبلة “منزلية الصنع” في حقيبة “نيرون”، يدسها إرهابي، تحت مقعد من مقاعد الحديقة العامة. وفي الختام نقرأ: “أُغلق المنتزه الآن لأن هناك من تسلل ووضع بين صفوف المقاعد الخشبية حقيبة “نيرون”. كان بداخلها قنبلة منزلية الصنع حسب خبراء المتفجرات. وجدوا بجوار الأشلاء بقايا بقجة دمور، وعدسات طبية سميكة وشريط من حبوب منع الحمل، وورد دهسته الأقدام”.

في قصتها “حائط غاندي”، التي منحت المجموعة عنوانها، تستحضر الكاتبة مرة أخرى شخصية غاندي، بقلبه الذي يتسع لكل البشر، حتى العصاة منهم. تمنت الفتاة أن يكون لها “جسد “كلوديا كاردينالي” وعقل “أينشتين” وقلب “المهاتما غاندي””. حرمتها الأمومة من جسد “كلوديا كاردينالي” وحرمها الإخفاق المتعدد في الحصول على الدكتوراة من عقل “أينشتين”، ولكن منحها القدر قلب “غاندي”. خطف طفل حقيبتها بينما تهم بدوخول سيارتها، رأته تصدمه سيارة وهو قابض على الحقيبة، فلم تترد في نقله بسيارتها إلى أقرب مستشفى، رغم اختفاء الحقيبة، نقرأ في الختام: ” حملت، بصعوبة، الصبي وسارت نحو سيارتها، وضعته على الكرسي فيما ذراعه لا تزال مثنية إلى صدره عدا أن الحقيبة لم تكن موجودة، تحيرت لحظة: هل تنزل لتبحث عنها؟ هل تدور بالسيارة؟ لكن رؤيتها لارتجافه وشحوبه جعلتها تحسم أمرها، أدارت السيارة باتجاه المستشفى ثم… ابتسمت لغاندي”.

يعود غاندي يلح على الكاتبة في قصتها “رسالة علياء”، ليقف في مقابلة صارخة مع الإرهاب الذي لا يعبأ بأن يتلقى الأطفال رصاصاته، نقرأ: “الدراجة الهوائية… تسابق – في مشوارها القصير – السيارات فتسبقها، وتصدم حائط غاندي ويدخلها الهواء المُنعش من كل الجهات، فيرتفع هرمون الأدرينالين لدى سائقها الشاب محققًا نوعًا من النشوة، لن تنسيه أن يُحكم ضم أطراف لثامه التي طيَّرها الهواء”. ويكشف السرد أن حائط غاندي، الذي صدمه قائد الدراجة الهوائية، يتماهى مع طفلة أصابها رصاص ذلك السائق، الذي لم يكن سوى قناص إرهابي استهدف أحد الجنود. يأتي وصف المشهد دقيقًا بارعًا فنقرأ: “عندما وصل الباص كان الباب الخلفي لسيارة الإسعاف مفتوحًا لاستقبال المحفة التي كانت الملاءة فوقها تغطي جسدًا صغيرًا، فيما راح يتأملها شخص “بلباس ميري” جالس على حافة الرصيف، يتنفس بصعوبة، لم يُصدق بعد أنه كان مستهدفًا وأنه نجا، فقط يتذكر “علياء” ابنة جيرانه الصغيرة التي طالما تبرم من صخبها ودبدبتها على السُلم، لم يسمعها وراءه هذه المرة ولم يتصور أن مريولها المدرسي الصغير سيتلقى كل الطلقات التي كانت موجهة إليه عندما رأى فوهة الرشاش يصوبها نحوه المُلثم سائق الدراجة الهوائية، فبرك على الأرض”.

تتواصل قصص المجموعة وتتصل بإدانتها لقسوة الواقع وخسة الإرهاب وشتى أشكال المعاناة الإنسانية، من فقر وخوف، وقهر عام وآخر خاص تعانيه المرأة في مجتمع لا يحترم إنسانيتها. تنتهي المجموعة بقصة “الشارع” وفيها يومئ السرد إلى أن من يملك الحقيقة إما يخشى البوح أو هو أخرس عاجز عن الإفصاح. يدور السرد حول طبيبة تذهب إلى حي عشوائي، بحثًا عن سبب ما أصاب مريضها بحالة من الذعر. تعرف أن أم فاروق، بائعة الجرائد، وحدها من شهدت الواقعة، ولكن حين تصل إليها، بعد مشاهدات من الفقر والبؤس لسكان المنطقة، تجدها خرساء عاجزة عن البوح. في لغة تصويرية مكثفة مشحونة بالإيحاءات، يختلط الواقع بالخيال ويحفل السرد بمشاهد من الفقر والبؤس في الحي العشوائي، فيخرج الناس عن عقولهم وتنفجر كوابيس اللاوعي. تقول الساردة: “تنفجر الضحكات. لا أعرف من أين أتى كل هؤلاء الناس، وكيف اختلط النور بالظلام بألوان الطيف، ولا كيف انبثق كل هذا القلش والقهقهات والصيحات، ويبدو أن مطرًا تساقط واندمج بالدموع وبتيارات شبيهة بالبول فوق الرؤوس، وأشارت امرأة أتت من خلفي إلى وريقات شفافة، وقالت إنها أغشية بكارة جنيات منذورات لأحلام تعسة”.

تؤطر الفانتازيا بعض قصص المجموعة ولكنها تلقي بظلالها كثيفة على قسوة الواقع. ففي قصة “حرير منزلي” يتساقط شعر الأم ويسقط صدفة في إصيص زرع فتنمو. ويتوالى الشعر المستزرع من رأس الأم فتبيعه البنتان مختلطًا بروائح عطرية مختلفة. تستثمر إحدى البنتين الصفقة ويتوالى نزع شعر الأم رغم الألم: “مع كل نزع لشعرة كنت ألمح تقطيبة بوجه ماما لكن فوفا طمأنتني لكون الأمر غير مؤلم، وصدقتها لأنها أكبر مني، رغم أني لمحت دموعًا بعيني ماما، مع كل نزع لشعرة تظهر دمعة أكبر حجمًا وأكثر لمعانًا من سابقتها…”. ولكن سرعان ما نفد شعر الأم الحقيقي، فتجلى المأزق للفتاتين فبيع الشعر المزروع كان مصدر دخلهما الوحيد. ورغم معاناة الأم من نزع شعر الرأس “ظهرت غابة من الشعر في منطقة تحت الإبط: تعلق الساردة: “شعر أسود ناعم وطويل يكفي لدفع مشروعنا الاستثماري دفعة قوية”.

تكشف كل قصة من قصص المجموعة عن ثراء خاص وبراعة فائقة في التحكم في خيوط السرد وتوظيف تقنياته، تستحق معه دراسة منفردة وقراءة مستفيضة، مما تعجز عنه تلك المداخلة القصيرة. بمجموعتها “حائط غاندي” تتبوأ الدكتورة عزة رشاد مقعدًا وثيرًا بين أساطين القصة القصيرة في العالم.

……………….

* من قراءة للمجموعة في كتاب “من تجليات السرد في القرن الحادي والعشرين: المشهد المصري” الصادر عن هيئة قصور الثقافة.

 

مقالات من نفس القسم