ثلاث حكايات من شارع بسادة

ثلاث حكايات من شارع بسادة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سيد الوكيل 

(1)

الغانية العجوز التي صارت عَرّافة لعشاقها القدامى، فيدفعون لها لقاء حكايات قديمة تخبئها دوما في فنجانها

رسمها بقلمه الرصاص فوق ورق "البريستول" الذي اشتراه خصيصًا من مكتبة المعاهدة. امرأة ورجل يتحادثان، وفتي نحيل بساقين مكشوفتين ينام بجوارهما، جعلهما في مساحة صغيرة من الظل، تحت مظلة خيش لا أكثر. تتوه بين عشرات المظلات في السوق. إنها ـ في الحقيقة ـ مميزة بطريقة ما. فلا أحد من رجال السوق يخطئها. النسوان فقط يتجنّبْن المرور بجوارها حتى لا يطولُهن شيء من لسانها الطويل. ثم جعل خلفية المشهد غائمة، كأنه عفار تسبح فيه رؤوس حمير وبقر وبشر.

هذا يعني أن السوق الذي طلب منه مدرس الرسم أن يرسمه لا وجود له من غير سيدة آلاجا.

الملاك الذي تعرّف عليه يوم كتب رسالته الأخيرة لأمه قال: والله أنا لا أفهمك يا ولد. كيف ترسم وجهًا فيه كل هذا القبح، وتظنه جميلا؟.

حتى النساء لا يقلن عنها إلا سيدة القحبة.

الرجل ذّو الشارب الكبير الجالس يحادثها هذا، يقسم أن وجه سيدة كان أجمل من وجوه الخواجات، وأن ريقها مسكرٌ، وريحها معنبرٌ، والزمان هذا غادر وابن وسخة.

 ـ اسألوني أنا عن آلاجا.

هذا الرجل اعتاد يجلس في خص البوظة ساعة أو ساعتين. هناك سيسمع شيئا من أخبار السوق، ويري وجوها لتجار قدامى يدينون له ببعض النقود. هو لا يطالبهم بشيء. فقط يشرب معهم قرعتين أو ثلاثا حتى يُذهب ما بنفسه من سأم، وإذا ما انتهى من قرعته يلعق شفتيه بلسان طويل، ويمسح شاربه ببطن كفه، يغمز بعينه ويقول: يا سلام.. حلاوة رباني بنت الكلب.

يقف بجلباب أزرق يحدق بنظرة طويلة من باب الخص. نظرة مسكونة بوجع وحنين وذكريات تطير كعصافير رمادية. يوجهها مباشرة في اتجاه مظلة الخيش التي تجلس تحتها سيدة. يمد يده في السيالة؛ فتشخلل النقود قبل أن يخرجها ويمدها للواقف وراء البرميل. يجول بخاطره أن يقول بصوت عال: لا شيء يبقى على حاله. فقط يتجشأ ويتحرك في اتجاه الباب. لكن لحنًا رتيبًا يتردد في نفسه بكلمات لها طعم الرثاء:

دنيا غرورة وكدّابة

زيّ السواقي القلاّبة

صوت ـ كهذا ـ يأتي رخوا وممطوطا وخافتا؛ فيتوه في أصوات الحمير والجمال والبقر والبشر التي تجعر في السوق.

هي ـ أيضًا ـ لا تبارح مظلتها في ساحة المواشي، تمر عليها؛ فتحيطها بالعفار والبول والروث؛ حتى يعفّ عليها الذباب، فتلعن أصحابها واحدًا واحداً. ربما تتحرك للوراء قليلاً، تتحرك ولا تجاوز مساحة الظل الصغيرة التي تصنعها مظلة الخيش والجريد.

الآن تقول لحسونة: إن يوم السوق هذا يوم خير فعلاً.

فهؤلاء عشاقها القدامى، تجار المواشي الذين ضاجعوها واحدًا واحدًا، يجيئون من كل البلاد، يحطون رحلهم على المرفأ المهيأ للغرباء. صحيح هم الآن عجائز مثلها، لكنهم إذا جاءوا للسوق لا يبخلون عليها ـ أبداًً ـ بما قُسم: هيييييه… لا شيء يبقى على حاله.

قد يجلس الواحد منهم بجوارها يرتاح في الظل قليلاً، يدخن سيجارته فيما تعد له فنجان القهوة على “منقد” لا تنطفي النار فيه أبدا، وعندما ينتهي من فنجانه يقلبه في الطبق ويقول:

ـ بختي يا سيدة.

ـ بختك من بختي يا خويا.

هذه عبارة تقليدية ترد بها قبل أن تمسك الفنجان، أو حتى تبصّ فيه. سيجلس صامتاً وكأن مصيره يتحدد الآن.

ـ حملك تقيل يا أبو العيال.

سيدفعون لقاء حكايات قديمة تخبئها دوما في فنجانها.

يتنفس الواحد منهم بعمق؛ فتطير روائح بُنّ ودخان، وتطير أفكار وذكريات عن الأيام الخوالي.

سيبدأون ـ حتمًا ـ بشيء من التأسي، ولكن حتى الذكريات الأليمة ستبدو من بعيد شيئاً طريفاً وربما مضحكاً. وفي غمرة نشوتها تغني بصوتها الذي ما زال صافياً:

يا سي عنتر يا غالي ..ياللي شاغللي بالي..

قد تحتاج فقط لتغير اسم الواحد منهم لكن الأغنية ذاتها لا تتغير. فالأغاني باقية، وصالحة لكل الأسماء، وإذا دمعت عيونهم، أو اهتزت رأس الواحد منهم، فإنها قد تنهي الأغنية بكلمات جنسية وقبيحة، وتفعل أشياء يخجل الإنسان من ذكرها. تغنج، وتلهث، أو تمص شفتيها. حتى يضحك أبو العيال ويلقي بحمله عن كتفيه.

وهذا كله لا شيء. فبإمكانها أن تمد يدها بين فخذي الواحد منهم. لكن حتى هذا لا يمكنه إيقاظ الحواس القديمة. فلا شيء يكون صوراً. فقط معان مجردة، وهواجس غامضة تسكنهم كمزحة قديمة، تثير فيهم الضحك بقهقهات داكنة، أو تشعرهم بالألم في مواضع حساسة.

سيدفعون الآن بسخاء، ويعودون إلي بيوتهم بأكتاف خفيفة.

هم الآن أكثر كرماً حتى من ذي قبل، من تلك الأيام التي كانوا يدفعون فيها لقاء أشياء حية، وهذا يمنحها الفرصة أن تشتري شيئاً قبل انقضاء السوق. عقداً من الخرز الملون، أو منديل رأس مطرزاً بخرج النجف، أو زجاجة من عطر الحبايب. بالتأكيد ستشتري حمل برسيم أو دراوية لأرنبين وليفين في بيتها، وربما تشتري لحسونة رغيفين وبعض الفلافل.

كالعادة سيقول حسونة:

ـ خيرك كتير يا سيدة.

ـ من عرق جبيني يا روح أمك.

ضحكت، فبانت أسنانها الذهبية، وضحك، وأزاح سلة السوداني في الشمس قليلاً؛ ليبقي ساخنا، ويعجب الزبائن. جلس في مساحة الظل الصغيرة بجوارها. مدد ساقيه، ورفع ذيل جلبابه قليلاً؛ فظهرت ساقان ناحلتان بعروق زرقاء نافرة.

هي بنفسها اشترت له كيلة فول سوداني، وأخذت سلة صغيرة من تاجر مقاطف أعجبتها طلعته، حتى إنها  تمنت لو أنها لقيته وهي أصغر من هذا.

قالت له: حسونة ولد يتيم يسعي علي رزقه.

فرد التاجر قرشين كانت قد دفعتهما وقال: ادعي لنا يا خالة.

تدعو له فعلا، وكأن ملاكا يقف خلفها يسجل ما تقول.

(2)

زوج أرانب

يتناسلان تحت سرير الغانية العجوز ليلاً،

ويرعيان في الحلفاء نهارًا

عندما جلس حسونة بجوار سيدة آلاجا، سمعتْه يئن، ولمحت دمعة تسيل بين عماس عينيه. قالت:

ـ مالك يا خويا؟.

ـ تعبان.

ثم مال برأسه على حجر كبير وأغمض عينيه، فوضعت كفها على كتفه وطبطبت عليه. 

صحيح أن سيدة ضاجعت رجالا كثيرين، لكن الله لم يمنحها ولدا واحدا، وذات مساء قائظ أرسل لها حسونة حتى باب بيتها. كان ولدا صموتا اعتاد الصبيان أخذه إلى أرض أبي خليفة ليمنحهم متعا سرية بعيدًا عن عيون الملائكة. رأته لأول مرة يشرب من زير جعلته سبيلا أمام بيتها، فعرضت عليه أن يبقى معها بشرط أن يسعى على رزقه، فهي لا يمكنها أن تحمل سوى هم نفسها وزوج أرانب يتناسلان تحت سريرها ليلا، وفي النهار يرعيان في الحلفاء غير بعيد عن البيت خشية الثعالب.

في الحقيقة هو لم يكن بيتا، مجرد خص كبير جعله أبو خليفة على رأس أرضه، يقيّل فيه حتى اصفرار الشمس ويأكل لقمته، ولما مات، أهمل أولادُه الأرض؛ فأكلتها الحلفاء، وسكنتها الفئران والسحالي والثعالب والأولاد الهاربون من عصا الأستاذ رزق الله.

الآن.. لا أحد يعرف متى سكنت سيدة الخص؟، ولا متى وسعته ودهكته بالطين وجعلت أمامه مصطبة وزيرًا حتى صار في كامل هيئته كبيت يقول الناس عنه: بيت سيدة القحبة؟.

كل صباح ينفتح باب البيت ليخرج ولد صموت وزوج أرانب، يتحسسان الأفق في حذر ثم يمضي كل منهما إلي طريق. وفي المساء كثيرا ما يتفق أن يعودا معًا فيما تكون سيدة على المصطبة تجلس.

فقط يوم السوق، تضفي سيدة على المشهد تغييرا. تغير طفيف ولكنه يخصها ، ثم أنه  سيكون محور كل شىء فى ذلك اليوم ، منذ الصباح تختار مكانها المفضل فى مواجهة خص البوظة ، لتكون فى مرمى بصر الملطوشين فى دماغهم ، ستقاتل من أجل هذا المكان المميز، لهذا سيشهد السوق عدة معارك صباحية ، تكون محوراً لمسامرات رجال البوظة وقفشاتهم ، وهم يستعيدون المشهد الذى طاردت فيه الشيخ مرسي بائع الكتب ، والشتائم الجديدة التى ابتكرتها هذا الصباح ، وسيتوقفون طويلاً أمام المشهد الذى خلعت فيه ملابسها ، حتى لايجرؤ أحد على الاقتراب منها وهى عارية . 

في طريق العودة سيكون ثمة أفق صامت، وظلمة خفيفة تذوب فيها الملامح، حتى الضوء الشحيح المنبعث من مبنى “الاسبتاليا” لن يكشف ملامحهما، غير أن تفاصيل أخرى لا تخطئها العين. امرأة قصيرة وممتلئة قليلا تزكُ فى مشيتها، تمسك بُقْجَةً في يدها وتزكُ، وولد نحيل يعلق سلة في ذراع ويسند بالآخر حمل برسيم علي رأسه، فيما يقعي زوج أرانب حذرًا أمام الباب. ولولا فراؤُهما الأبيض، لما تمكن حسونة من رؤيتهما، وفيما هي تحدق بعينين متعبتين يقول:

ـ متخافيش.. ولادك قاعدين يا سيدة.

تضحك وتقول: يعني مين حيعرّص عليهم غيري.

في أمسيات مثل هذه، حكت سيدة للولد النحيل كثيرا من قصص العشق، كل عشاقها القدامى. وستتوقف كل مرة بتفاصيل أدق عند حكايتها مع عنتر عبد الهادي.

ستبدأ حكاياتها  ـ عادة ـ هكذا:

ـ مش قلت لك يوم السوق ده يوم الخير.. تعرف زارني مين النهاردة..؟ ثم تحكي..

بالنسبة لولد أمرد بساقين نحيلتين وعروق زرقاء نافرة، فيوم السوق هذا هو يوم شقا ووجع قلب. غير أن الفتي المسكين الذي ينهكه اللف في السوق وتؤذي مشاعره رذالة الفلاحين، سيجد ملاذا آخر النهار. فهناك سيدة بجوار ساحة المواشي تجلس، سوف تلقاه حتماً ببشاشة، تبتسم وتكشف أسنانها الذهبية، وسوف تمسح رأسه بكفها الخشن المصبوغ بالحناء، والأظافر الطويلة القذرة، وتلك الأساور البلاستيكية التي اشترتها من السوق ـ نفسه ـ تشخلل في يدها، وهي تهش الذباب عن عينيها الملتهبتين اللتين بلا رموش، وكحلة داكنة الزرقة حولهما، تطبطب براحتها على الأرض.. تعالي يا ضني أمك.. استريّح يا خويا.

يقول: دوخة وحياتك يا سيدة.

ـ يا واد استرجل شويه.. مش كده.

يريح سلة السوداني عن ذراعه، يرفع ذيل جلبابه وهو يجلس.

وعادة تدس يدها في بقجة بجوارها، وتمنحه شيئاً يأكله، كثيراً يرفض ويقسم أنه غير جائع. في الحقيقة ..هو عادة يكون على لحم بطنه، غير أنه لا يحب أن يقول الناس: إن حسونة يستقطع ولية غلبانة ولا أحد لها في الدنيا.

ثم إنه لا يستطيع أن يمنحها شيئاً في المقابل، فأسنانها ـ حتى الذهبية منها ـ لا تقوى على طحن السوداني، ومع ذلك فقد يمنحها سيجارة أو سيجارتين. هو بالطبع لا يدخن، ولكنه أخذها من هؤلاء الذين اختلوا به في طريق جانبي، في وقت لا يسمح بحدوث شيء، غير أنه كاف لإثارتهم، بحيث يمكنهم إذا عادوا لبيوتهم، أن يستعيدوا تلك اللحظة، فيضفون على عاداتهم السرية شيئاً من الإثارة الحية، وهم في مقابل ذلك لا يبخلون بسيجارة، أو يشترون بقرش سوداني، والأهم من ذلك أنهم يغامرون ـ وهو في الحقيقة ثمن فادح ـ إذ يعرّضون أنفسهم لفضيحة لو رآهم من يعرفهم، وهو يقبل عطاياهم باعتبارها عربون محبة، وتهيئة لموعد آمن لا يجيئون فيه عادة.

(3)

خاتم فضي كبير،

وعصا لها كعب نحاسي يلمع في الشمس

حين خرج من البوظة ووقف أمامها بجلبابه الأزرق وعصاه؛ امتد ظله طويلاً حتى غطاها. هي لم تلحظه وهو يتأملها بابتسامة غائمة.

الكحلة الزرقاء.

الأسنان الذهبية.

كفان مخضبتان بحناء أرجوانية.

وعطر ثقيل فواح في كل مرة كان يكلفه غطساً في الترعة، قبل أن يعود لبيته.

– إزيك يا ألاجا؟.

رفعت رأسها وضيقت عينيها حتى تراه. بدا في ضوء الشمس الذي يعشي عينيها مجرد قامة طويلة، وصوت عميق متهدج خفق له قلبها فابتسمت، ولما تربع بجوارها في مساحة الظل، وأراح عصاه على فخذيه، مد يده في صدره وأخرج علبة الدخان المعدنية.

ـ والله ما عرفتك يا عنتر.

ـ الكبر عبر يا سيدة.

قالها بإذعان وهو يهز رأسه، وينظر ناحية حسونة الذي بدأ شخيرُه يعلو.

– الولد ده لازق لك على طول كده؟.

– غلبان والنبي.

ـ إنت اللي طيبة وعلى نياتك. يكونش ابنك يابت!

ـ يعنى لو ابنى ، حيكون أبوه مين غيرك ياعنتر!

تقولها وهى تضحك ، كمجرد جس نبض ، لكن نظرة غضب من عينين متعبتين ، مازالت قادرة على تذكيرها بالعُلق التى أخذتها منه ، كبداية مثيرة لمضاجعة مجنونة ، ينشب كل منهما أظافره فى الآخر، هذيان محموم بأصوات اللذة والألم، وسوائل تجرى بينهما، لها طعم دموع العين وملمس لعاب الفم ورائحة الجسد .

مد يده بالسيجارة، فرأت الخاتم الفضي الكبير، وفصًّا أزرقَ مموهًا بخيوط دخانية، وأصابع طويلة جافة شوهها الروماتويد. صدت كفَّه بدلال فلامست الحناء زرقة الفص بخفة.

ـ خد مني واحدة ماكينة.. لساك بتلف؟

ـ اللف كيف يا سيدة.. مانتي عارفة.

قالت: طول عمرك كييف الحلو.

ثم رقصّت حاجبيها المزججتين وقالت: يا حلو أنت يا حلو.

ابتسم حتى بانت سنتاه الوحيدتان.

ـ ياه . لسه فاكره يا بت ؟

كلمة السر بينهما كلمة واحدة فقط، كان يرددها، وكانت هي تردد نفس الكلمة. كلمة واحدة كانت كافية لتصاحب إيقاع لذة اللحظات الأخيرة، ستكون مسبوقة بلحظة صمت خاطفة، تنقطع فيها أنفاسها قبل أن تدخل فى هزة عنيفة وصرخات متلاحقة، وبنفس الصوت العميق المتهدج يهمس فى أذنها .حلو يا بت ؟

وبنفس الصوت المرتعش تلهث تحته: حلو.

وفي لحظات ذروتها ترددها بسرعة.. حلو.. حلو.. حلو يا  ابن الكلب.. حلو. وفي لحظة كهذه فقط؛ يَسمح لامرأة أن تشتمه.

فجأة قالت:

ـ إزاي مراتك يا عنتر؟.

ـ يوووه. تعيشي إنتي.

غالبت ابتسامة بمكر جميل، ونظرة انتصار قديم في عينيها، لكنه لم ينظر إليها، كان منهمكاً في لف سيجارته، أو هكذا ادّعي، ولما وجدته صامتاً قالت:

ـ تلقاها ماتت بحسرة ليلتها.

وكادت الضحكة تنفلت منها، أما هو فظل صامتاً للحظة، مرر فيها سيجارته على لسانه، هز رأسه وقال:

ـ افتكري لها الرحمة يا ولية.

غالب ابتسامة شجية وهو يضع سيجارته بين شفتيه، يشعلها بهدوء، يحدق في اللهب الصغير قبل أن يلقي بعود الثقاب على الأرض، ينفخ دخاناً كثيفاً، ويسرح بعينيه في زمان بعيد.

ـ فاكرة يا سيدة لما عملتي لي عمل؟.

ـ أنا؟. تنقطع إيدي يا خويا. دا أنت الغالي.

يلملم شروده قليلاً.

ـ غريبة.. دا أنا قعدت تلات تشهر مربوط بعد الجواز.

تبتسم نفس الابتسامة الماكرة. 

ـ مربوط ولا نفسك مسدودة. حد برضو بعد الحلو يروح للمش؟.

تضحك، ويضحك، ويتصاعد دخان كثيف، دخانه ودخانها، ويحوم بطيئاً تحت المظلة، فيهيج الذباب اللصيق بالخيش والجريد، ويحط حول فم حسونة المفتوح على آخره، تهشه فتشخلل الغوايش في يدها. ينظر إليها وتنظر إليه، لحظة طويلة تمر، أشواق قديمة تتفتح بدلال، فتلمع وراء زرقة الكحل في عينيها، ويلعق شفتيه بلسان فيه صفرة الدخان، ثم فجأة تنفجر الضحكة من جديد، واحدة عميقة متهدجة، وواحدة رنانة صافية، فيما كانت مساحة الظل تتراجع، والشمس تزحف نحومساحة الظل، فتطول ساقيْن نحيلتين بعروق زرقاء، ويد بخاتم فضي كبير ممسكة بعصا لها كعب نحاسي يلمع في الشمس.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون