“تغريدة” .. “كولاج” ملوّن لفنان يريد أن يطير !

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

منذ سنوات، لم أقرأ رواية متمردة تنطلق الى آفاق التجريب دون أن تتخلى عن المعنى مثل رواية "تغريدة" للكاتبة فلسطينية أثير صفا (طبعت الرواية دار ميريت ورشحتها الدار للمنافسة على جائزة البوكر العربية فى دورتها القادمة )، هى المرة الأولى التى أقرأ لأثير التى نسجت حكايتها على نول من خيوط معلوماتية وشعرية، واقعية وأسطورية ودينية، فامتزج السرد بمقاطع من أشعار وكتب، وبلوحات فنية وخطوط وأشكال هندسية .. "كولاج" من أجزاء شتى تتكامل لتحكى عن فنان أثقلته موهبته، وعذبه اختلافه، فى مجتمع يتحول فيه البشر الى أرقام، فعاش مطاردا من الأغبياء، اعتبروه خطراً لأنه متفرد.

“تغريدة” تجربة هامة جدا تقول أشياء تستحق التوقف عندها عن الإنسان وخالقه، وعن الفن والفنان، عن المختلف فى مواجهة العادى والمألوف، ثم تتغزل غزلا صريحا فى فضيلة الحرية المتمردة .. أرجو أن يصبر القارئ على الرواية (200 صفحة) قراءة وتأملا، وأن يأخذ فى اعتباره أن رواية عن التمرد لا يليق بها إلا هذا الشكل المتمرد . انتقمت أثير لبطلها الفنان، فاختارت أن تقدم تجربته الفنية والإنسانية الجامحة بأكثر أساليب الكتابة جموحا، وسّعت من زاوية الرؤية كثيرا باستشهادات تؤازرها وتؤازره، وتنقل أزمة الفنان الى آفاق إنسانية رحبة، تربطها بانفجار النجوم، ونشأة الكون، ومعاناة فان جوخ، وثورة نيتشة، ومأساة نجيب سرور، صرخةٌ هى وليست تغريدة، بل إن بطلنا “علّام” هو “أثير صفا” نفسها، تقنّعت به، واستعانت بنصوص متمردين آخرين، لتصنع الكاتبة تمردها الشخصى، ألوان الطيف المتعددة على قرص نيوتن، يدور فيصنع لونا واحدا من نور أبيض.

 فى الروايات الناضجة، لا ينفصل شكل الرواية عن مضمونها، “تغريدة” لم تجعل التجريب الشكلى منفصلا عن المضمون، جعلت دهشتنا من غرابة الشكل “الكولاجى” وسيلة للاندماج فى تجربة علاّم الذى تم تقديمه بصورة أقرب الى القداسة، بدا البناء كما لو كان تجميعا لقصاصات لكتابات دوّنها أكثر من سارد، وأضيفت  قصاصات عن أقوال ولوحات، ثم نثرت فوق حدوتة، فامتزجت الحكاية بالصور والشهادات، وكأننا أمام زجاج ملون يقبع وراءه طيف إنسان ضبابى ليس كالبشر، ومع ذلك تستطيع أن تتبين خيوط حكاية شخص له اسم وأصل وتفاصيل رغم هالته الأسطورية النابعة أساسا من موهبته، “علام عبد الجبار” الذى فقد والده مبكرا، كان طفلا غير عادى فى مجتمع عادى للغاية، الصبى أصبح نحاتا يصنع وجوها يمكن أن تنطق، الصبى يلتهم الكتب ويترك بيته لكى يكتشف حدود “آخر الدنيا”، الصبى نبتت له أجنحة تحلق به فوق واقع مؤلم وعليل: بقايا بشر دمرتهم الحرب، ومن أفلت منهم من الرصاص والقنابل، حصده السرطان بسبب مبيدات الزروع، علاّم بصيص نور فى ظلام مدلهمّ، صورة أكثر تمردا من خاله الطبيب المثقف، الذى عاش وسط الأشلاء والبطون المفتوحة، يرتق ويجبّر الكسور، ومات متأثرا بزيارة السادات الى القدس.

يهرب علّام/ الفنان المقدس الى المدينة ، يتحول الى عامل فى مطاعم الوجبات السريعة، يتبناه جمال الممثل المسرحى الذى اشتهر بأداء دور يهوذا، مأساتهما واحدة، الاثنان ممنوعان لأن فنهما خطر، علّام أصبح أيضا شاعرا، ينحت شعره على تماثيله، قطعٌ متمردة مثله تصدم مدينة غافية تأكل وتنام، جمال فصلوه من المعهد أثناء الدراسة، منعوا مسرحياته، جمال وعلّام أب وابنه، معرض علّام يحطمه الغوغاء، المؤسسة تكره التفرد، يهرب علّام الى “دنيا “، فاتنة وملهمة، امرأة عمره، ولكنها لا تمتلك إلا جسدا تقدمه له، والدها يرفضه، العالم يعاديه، وجمال / يهوذا يسلمه الى المتربصين به، لا يموت علّام، ولا يصلب  على مذبح الفن، ولكنهم يدخلونه المصحة النفسية (مثل نجيب سرور)، يقرر فى النهاية أن يعاقب الجميع بادعاء الجنون، وكأن العقل لا يصلح مع مجتمع غير عاقل.

خطوط الحكاية كما سردتها لك ليست مباشرة ولا مرتبة، تقطعها كما ذكرت لوحات واقتباسات، السرد نفسه تتعدد أصواته من شقيقة علّام الى صوت جمال، وكذلك بعض الكلمات على لسان جمال ودنيا، يتداخل الخاص مع العام، تفاصيل واقعية وأخرى أسطورية، طبيب فى مستشفى وسط البنج والمشارط، وقصة سقوط شمشون بإغواء دليلة، أشعار أراجون ومحمد عفيفى مطر وبدر شاكر السياب، ومعلومات عن النظرية النسبية ونظريات نشأة الكون، علاقات إنسانية معقدة، وعلاقات بين الإنسان والكون وخالقه، التمرد هو اللحن الأساسى، والتنويعات متعددة ومركبة، غامضة وواضحة، بل وصادمة أحيانا، نستطيع أن نستعير هنا لتقريب الفكرة تجربة سترافنسكى التى تتصارع فيها النغمات لترسم ملامح “طقوس الربيع”، أو ليخرج من قلبها “عصفور النار” فى بعث جديد، يصل فيه التمرد الى غايته، مثل نجم انفجر فأصبح نجوما مستعرة فى كل مكان.

هنا طموح تقنى يستحق الإشادة، أنسنة معاناة الفنان منح الرواية عمقا مدهشا، هذا المحيط المعرفى الذى يتداخل مع السرد، يجعل مأزق الفنان جزءا من مأزق الوجود الإنسانى، هذا الكائن الذى يشقون بطنه فى حجرة العمليات ليس كائنا بسيطا، إنه يختزن العالم فى جوفه، ولكنه لا يستطيع أبدا أن يرتاح، مأزق الفنان جزء من مأزق الأنسان، ولكنه أصعب لأن الفنان كائن مختلف، لديه أجنحة وسط بشر بلا أجنحة، و النورس لايستطيع أن يتوقف أبدا عن الطيران، الفنان نبىّ إنجيله الخيال ، تتوالى الإقتباسات لتشرح الأزمة : ” إن الحياة بدون خيال مجرد ظاهرة بيولوجية” (بول ريكور)، ” وإن النمو لمجرد النمو هو نفس مبدأ الخلية السرطانية” (إدوارد آبى)، و “مانفع الدنيا الواسعة، وحذاؤك ضيق” (جون وليامز) ، علّام، الذى قرأ ليس لأنه يجد فى القراءة متعة، ولكن لأنه وجد فيها اثنين : الله ونفسه، تقدمه “أثير صفا” كمسيح معاصر، يصنع المعجزات، ينحت تماثيل تستحق الحياة، ويقول شعرا يهجو فيه أوغاد الزعماء، ويخونه أحد الحواريين، فيسلمه الى مستشفى المجانين، مأساة علّام هى مأساة العالم الثالث التى جعل من الفنان “وردة فى المزبلة”، مأساة تجعل الفنان حافيا ” تنبت من تحت قدميه الحجارة، وتمطر عليه الدنيا حصى”، رفض علّام أن يكون تحت الرعاية، تحت العناية، تحت أىّ تحت والسلام، أراد فقط أن يعبر عن نفسه بطريقته، أحب أن تكون تماثيله صرخات، الكتكوت تمرد، نقر فخرج من قشرته، وقف على قدميه، ثم دفع الثمن.

فى تجربة علام شىء من تراجيديا برومثيوس سارق النار، علّام سرق الجمال، أراده دينا وسط جاهلية القبح، حتى مفهومه للفن، كان دوما متحررا: لايوجد عمل فنى كامل، كل عمل هو استكتش لأعمال قادمة، تمهيد لأصداء أخرى فى أعمال قادمة عابرة للأزمان، كل ما يمتلكه المجتمع البليد، والمؤسسة الأكثر بلادة هو المطاردة والاتهامات الجاهزة، و أحيانا اللامبالاة مثلما وضع الأستاذ الكبير كوب الشاى فوق مشروع تخرج تلميذته، التى ابتكرت نظرية فى ستمائة صفحة، تمزج بين رؤية الفنان للمنظومة الكونية ورؤيته الفنية.

رواية “تغريدة” فى إحدى أجمل معانيها هى حكاية الفرد المغترب فى وطنه، أقسى أنواع الاغتراب كما وصفها “أبو حيان التوحيدى”، ولكن “أثير صفا” تؤمن فى النهاية بقيامة جديد للفنان، إن لم يكن بشخصه فليكن بأعماله، مثل خطوة محفورة على الأرض للمثّال جمال السجينى ما زالت تلهمنا، مثل عرايا مايكل أنجلو الذين تشبثوا بمكانهم على سقف الكنيسة، على سقف السماء، أما يهوذا فقد شنق نفسه، سقط في جحيم دانتي، وكذلك فعل جمال، أمل دنقل صار أيقونة، وعيون إلزا تتحدى الموت، “هو الفن المتفرد بذاته وجلاله” الذى يراوغك ليجعل شخصيات مثل علّام وجمال ودنيا متأرجحين بين الحقيقة والخيال والأسطورة، يجعلهم ثلاثة ثم يثير فى نفسك الشك  بأنهم واحد فقط متعدد الوجوه، طاقة الفن “قوة سحرية”، أقوى من الطاقة المتولدة عن حاصل ضرب الكتلة فى مربع سرعة الضوء، الفن تمرد  ينطلق من لوحة جرافيتى، تصور إنسان الكهف أن رسم الحيوانات المفترسة يجمدها ويمنع سطوتها، الفن صرخة هائلة يغذيها السجن ولايقهرها، نارٌ ونور ، الكون نفسه ليس إلا أوتارا تعزف على هارب باتساع الملكوت، ليتهم يدركون.

أثير صفا” تمتلك لغة شعرية آسرة، ومخزونا معرفيا لافتا، وقدرة على توظيف ما تعرف وتشعر فى إطار بناء استثنائى، أحسب أن أفضل دفاع عن الفن والتمرد هو أن نصنع فنا متمردا يعيش ويبقى . 

وقد فعلت.. وقد فعلت

مقالات من نفس القسم