ترويض شياطين الإبداع

ترويض شياطين الإبداع
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد خير

منذ تجربة الكتابة الأولى، وهو بعد في الثامنة، لقصيدته الأولى، بدأ صراع الأشكال الإبداعية للتعبير في حياة محمد خير. بدأت الكتابة في منافسة موهبة الرسم، في صراع امتد حتى نهاية سنى مراهقته، بين التعبير بالكتابة، والتعبير بالرسم. لتتوارى في خلفية الصراع بين كتابة الشعر، وسرد الأقاصيص. وهي الصراعات التي لطالما رافقته لسنواتٍ أخرى بين اختيارات لأشكال الكتابة، بين الشعر والقص، بين قصيدة عامّية أبناء جيله، والفصحى التي لطالما أبهرته معلقاتها السبع.  وانتصر الشعر، مؤقتاً، على منافسيه من أشكال الكتابة، حتى نجح في ترويض شياطين إبداعه، وامتلك زمامها، متنقلاً بخفة بين أنماطٍ عدة من الكتابة الإبداعية، بدأت بالشعر، يصاحبه كتابة الأغاني، منتقلة للحكي بكتابات صحافية لطالما حملت نكهة أدبية، منذ تجارب كتابته الصحافية الأولى، وصولاً لاستسلامه لمطالبات شياطين السرد المحكي بالقصة القصيرة والرواية.

الفترات المتباعدة بين إصداراته ليست عن إقلالٍ في الكتابة، بل لتردده في النشر. فمقابل كل عملٍ يرضى بنشره؛ هناك كتابات حبيسة أدراجه تتنافس على حجز أماكنها في العمل الذي يحسم قراره بنشره، ولولا ارتباطه من آنٍ لآخر بمواعيد للنشر لما استقر أبداً على ما سيضّمنه في العمل الصادر. فبعد ديوانه الأول “ليل خارجي” 2002، امتنع لسنواتٍ ست عن نشر أية كتابات أخرى. حتى صدرت له دفعة واحدة مجموعته القصية الأولى – المنشورة – “عفاريت الراديو”، وديوان عاميته الثاني “بارانويا” في 2008. وانتظر عامين حتى أطلق سراح ديوان فصحته الأول “هدايا الوحدة” 2010، لينتظر ثلاثة أعوام قبل إصدار تجربته الأولى في الرواية “سماء أقرب” 2012، ثم ينتظر عامان  قبل إصدار مجموعته القصصية الثانية “رمش العين” 2014. وكل ديوان أو مجموعة منشورين يقابلهم قصائد وقصص  تكفي لدواوين ومجموعات أخرى، ليس عن قناعة ثابتة لديه بضرورة السماح فقط بنشر الأكثر تكثيفاً من كتاباته الإبداعية، بل أيضاً لتأرجحه الدائم بين سوادوية كافكاوية بأن ما كتبه لا يصلح، ورحابة محفوظية تؤمن بحق نصوصه في رؤية النور.

يرجع قسم كبير من عدم استساغتي لقراءة الشعر إلى أخي محمد، الذي طالما عودني على سماع الشعر، لا قراءته. فهو مذ قرأ المتنبي، شاعره المفضل، وهو بعد طفل، حفظ قصائده عن ظهر قلب، وظل يرددها ويفسر لي، أنا أخيه الذي يصغره بثلاثة أعوامٍ ونصف، ما صعب علي فهمه من معانيها. ومنذ ذلك الحين وأنا أجد صعوبة في تلقي الشعر – أي شعر – إلا لو ردده هو على مسامعي. ولحسن الحظ فقد اعتدت قراءة القصة والرواية قبل أن تستحوذ عليه حواديت “ألف ليلة وليلة” التي قص عَلَيّ غالبيتها، هي وغيرها من الأقاصيص، منذ وقعت يديه على نسختها الكاملة لأول مرة في منتصف التسعينيات، وأصبحت منذ ذلك الحين مهووساً بها، ويصعب عَلَيّ حتى الآن قراءتها دون الوقوع في أسر تخيل الكيفية التي كان سيقص بها هذه الحدوتة أو تلك. وإن كنت نجوت من فخ سماع الأدب محكياً بصوته وأداءه، فلا يزال هو مرشدي الأول في عالم الأدب، حتى وإن اختلفت ذائقتنا حول نص أو كاتب، فهو دوماً قادر على تمييز ما أستسيغه ويرشحه لي.

خلال تجربة كتابته للصحافة، لم يتمكن “محمد خير” مطلقاً من الإلتزام بأطر كتابتها “النموذجية”، بل استحوذت عليه دوماً لغة كتابة الأدب. فقبل استقراره على فن كتابة المقال الصحفي، لطالما حوّل كل مساحة للكتابة إلى قطعة فنية. فمن زاوية كتابته الأولى في ملحق شباب السفير اللبنانية، التي كان يرسم فيها وجوه لشخوص القاهرة، لزاويته في الإصدارة الثانية لجريدة الدستور الأسبوعية عن تاريخ معشوقتي القاهرة، التي أبهرني تحويله مرويات المقريزي وعلي باشا مبارك عنها إلى حواديت جذابة عن شوارعها، في ذلك كله لا يمكن إلا ملاحظة أن هذه النصوص تصلح أكثر لأن تكون فصولاً في نصٍ أدبي يتمتع بخفة الكتابة الصحافية. وما لحق ذلك من كتابة عن أفلامه المحببة في زاوية لا تتجاوز المئتي كلمة في الدستور اليومية، محولاً هذه المساحة إلى إعادة قراءة بنظرة نقد سينمائي مخضرم، تدفع المرء لإعادة التفكير في أفلام لطالما سبقت له مشاهدتها وحفظها عن ظهر قلب.

في مجموعته الأخيرة “رمش العين” التي نشرها وهو على أعتاب عامه السادس والثلاثين، يبدو أنه قد أمسك بزمام شياطين إبداعه، وأصبح قادراً على قيادتها، مدجناً ملكاته الإبداعية، ومسيطراً على صور الشعر الرمزية عند تحوله لسرد الحكايا، محولاً إياها إلى صور مكتوبة سرداً في بنية قصصية. ففي قصة “غفوة” لغة الشعر طاغية ليس في النص فقط، لكن أيضاً في منطق السرد، من زاوية تقطير الحدث، وانتقالاته سواءً في سرد الحدوتة أو انتقالها بين النوم والصحو، هناك تمازج رائع في بنية الحكي بلغة شعرية مقطرة، ولكن أيضاً مع الالتزام بقواعد السرد القصصي، وولوج عوالم القصص داخل القصص، الذي يقضي على أي يقين بكون المرء في لازال في القصة ذاتها إلا لو ظل يتأكد أنها لم تنتهي بعد. بينما في قصة “الكلام” نلتقي منطق “محفوظي” جديد. بدون أسماء يمكن تذكرها، سوى اسم حسناء، والذي يمكن أن يكون اسم وصفة، وتحميل اسم “الغاياتي” مضامين محملة بالكثير من “مرايا” محفوظ، بوتيرة سرد سريعة، ولا تمنح القارىء أية فرصة لالتقاط الأنفاس، ولكنها في الوقت نفسها رخيمة بصورة كافية لأن تظل عالقة بالذهن. في قصة “35 ملم” يلخص محمد خير، في رأيي، خلاصة تجربته الإبداعية في عبارة “ويظهر شبح ابتسامةٍ على وجه أمي التي تضع قدمها على دواسة مكنة الخياطة، ويدها على القماش تحت الإبرة، وطرف عينها يراقبنا وأنفها يراقب رائحة النضج في المطبخ” بدمجه كل هذا القدر من المؤثرات البصرية والحسية في عبارة واحدة مكتوبة، تعكس رحلته المستمرة بين أجناس مختلفة للتعبير.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم