تردد النهر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

من “باب الرواح”، إلى “ساحة بيتري”، مروراً بالسفارة المصرية في “حسان”، ثم إلى “الوِلجة”، في الطريق للعبور للضفة الشرقية من نهر “أبي الرقراق”، راحت السيارة تنهب الطريق نهباً. كان يقودها متعجِلاً، على غير عادته، من غير أن يعرف لماذا؟. عند منحنى “الولجة” الخطر، حيث يضيق الطريق، الذي شقه الفرنسيون في قلب الجبل، ويتلوى كثعبانٍ ناعس، ألفى نفسه مُجبَراً على تخفيض السرعة. رفع عينيه إلى الجبل المشقوق لنصفين، والمكسو بغابات البلوط والصنوبر عن اليمين وعن اليسار، وأخذ يتنفس بعمقٍ وصعوبة. بدا كالمُلاحَق، الذي يعدو هارباً بأقصى ما لديه من عزمٍ وتصميم، من دون أن يتبين ممن، أو من ماذا؟ أحس بعضلات ساقيه وذراعيه مشدودةً عن آخرها، وبتلاحق أنفاسه التي شارفتْ حد اللهاث. أخيراً، اجتاز ممر “الوِلجة” الجبلي، لينفتح الطريق، أمام ناظريه، عن مدخل القنطرة الحديدية العتيقة، المحفوفة عن جانبيها بالغابة، والواصلة بين ضفتي النهر. نظر في ساعة يده. رآها تشير إلى الخامسة إلا الربع.

– لا يزال أمامي ربع الساعة، فلا داعي للعجلة!

حدَث نفسه، عالماً أنه لا يُفكر، حقيقةً، فيما يقول، وأن عجلته ما كانت، أبداً، خوفاً من أن يذهب متأخراً على موعده معها، بذلك المطعم والكافيه الراقي، المستريح فوق لسانٍ بريٍ صغير، يلوح كنتوءٍ صخريٍ عابث، يشي بتردد النهر قُبيل مصبه القريب في المحيط. ركن السيارة عند المدخل، شِبه الخاوي، واتجه، من فوره، إلى تلك الطاولة، النائية، التي اعتادا الجلوس إليها. لم تكن قد سبقته لهناك. سحب مقعده، وحيَا النادل المبتسم، الذي يعرفه معرفةً جيدة، بهزةٍ خفيفة من الرأس، فذهب الرجل ، من غير كلامٍ، ليحضر له فنجان القهوة التركية المضبوطة. استغرق في مراقبة الشمس، وهي تتراجع، بطيئةً متمهلة، لكن حثيثة، باتجاه الغرب، ثم تشرع في الغطس بمياه المحيط عند مصب “أبي الرقراق”، ومن فوقها تشمخ “قصبة الأوداية”، بأبراجها وبجدرانها الحجرية السميكة، وكأنها تسخر من المشهد، الرتيب الحزين، كله.

– كنتُ أرقبُ شروقَ الشمس عند الأفق. عيناي مثبتتان على أسوار سلا القديمة، التي يتحمق أبناؤها ابتداءً من ساعة العصر، وحتى انبلاج الفجر التالي، مخافة المبيت في العراء، تحت الجدران العالية، وخلف البوابات الثقيلة الموصدة. فجأة، جئتني أنتَ! لا أعلم من أين؟ ربما من شرقك البعيد، مع الشمس، لكنك كنتَ أسرع منها بالظهور!

– بالطبع! ألست ابنا للإله “رع” رب الشمس المصرية الخالدة؟!

جاوبها، مداعِباً، متفاخِراً، ومتثاقِفاً. لم تلتفت لتباهيه، الزائف، تلك المرّة. كانت قد تعلمتْ الدرسَ بشأنه، فقرأته قراءة صحيحة؛ أن يتبجح، معها، على هذا النحو، فهذا يعني أنه مرتبك، وأنه يحاول مداراة ارتباكه وخجله وسروره، الذي يستعظمه على نفسه، بالتهكم على ذاته، وعليها!

– لو لم أكن متزوجة، ولو لم تكن متزوجاً، ماذا كنتَ ستفعل؟

– ماذا كنتُ سأفعل؟ كنت سأسجد شكراً للإله “رع”!

– أنا أتكلم بجد. “باراكا” هزل.

ميَز شعوراً، وليداً، بالمهانة في نبرة صوتها، قبل أن يميّزه في محتوى كلامها الذي يأمره بالكف عن الهزل، فأجابها، بجدية، هذه المرّة:

– كيف لي أن أعرف يا صديقتي ماذا كنتُ سأفعل؟ أنت تطرحين علي سؤالاً افتراضياً، تماماً، وتريدين إجابةً قطعية، تماماً! ربما كنت سأجثو على ركبتي أمامك، أتوسَل قبولك الزواج مني، وربما كنت سأفِر منك وأختفي، حتى أحزم حقائبي وأرجع لبلدي، أو ربما كتبتُ فيكِ بعض القصائد وتضاجعنا في الفراش، وحسب!

– نعم، نعم، كنتُ أعرف، أظنكَ مُحِقاً!

في الفراش، بدا متجلداً، ومتخشِباً، على نحوٍ ما. هل كان ذلك ما ظل يحلم به وينشده، طول تلك الشهور، وعبر كل تلك الليالي، الطويلة المسهدة، التي بات فيها وحده، خاوياً إلّا من وحدته، يشتهي ضمة جسدها اللين المحبوك؟! أخذتْه إليها بقوة، وراح عُريها المُشتَهى يتوامض في نور الشارع، الشحيح، المتسلل من خصاص الستائر المسدلة بإهمال. لهثتْ:

– ضمّني. خُذني إليك. لا تُفلِتني من بين ذراعيك.

روت له عن أبيها، الذي كان قائداً بالجيش، وكيف لُفِقت له تهمةٌ كاذبة بالتورط في محاولةٍ انقلابية فاشلة ضد “الحسن الثاني”. كانت محاكمة أبيها العسكرية، ثم اختفاؤه، النهائي، عن أعينهم عقب الحكم بالمؤبد، جُرحاً غائراً في روحها لم تجرؤ على كشفه لعينيه إلا بعد سنتين من اعترافهما، المتبَادل، بحبٍ يقضُّ مضجعيهما. وبالرغم من جسارتها، التي لم تخطئها عينه منذ اليوم الأول، رآها لا تملك إلا أن تتلفت حولها، متحسسةً من واشٍ ذائبٍ في هواء الجلسة يتنصت عليها، كلما نطقت باسم المليك الذي رحل قبل ما يزيد عن عشر سنوات! أخيراً، قالت، وكأنها تتطهر، أو كأنها تعلن براءتها من الذنب لقاضٍ ماكرٍ يتربص بها عند طرف الطاولة التي يجلسان إليها، بالذات:

– الحمد لله، كلُ ذلك صار ماضياً، والأوضاع اليوم تغيرتْ.

رفع فنجان القهوة ليرشف رشفةً أخيرة. كانت الشمس قد غرقت، نصفياً، في المحيط الآن، وبدت كنصف قرصٍ من الخبز، المحمر، يطفو على صفحة الماء السوداء. لم تكن قد وصلت، بعد. نظر في ساعته مجدداً، فرآها تشير إلى الخامسة والنصف. فكًر أنه سيبقى جالساً بانتظارها، مهما تأخرت اليوم، فبعد أربع سنوات ونصف السنة، ما عاد بحوزتهما سوى هذه الأمسية! تشاغل بالنظر باتجاه الضفة الأخرى من النهر، فاصطدمت نظراته “بصومعة حسان” المهدمة، والتي ترقد عند أقدامها شواهد وقبور الأسرة الملكية، بأبهةٍ وعظمةٍ، تَخالُ نفسها باقيةً، أبد الدهر، غير منتبهةٍ إلى شاهد العظمة الأكبر، أمامها، والذي انحنى، كُرهاً، للزمن، لعوامل التعرية وللزلزال، ليغدو طللاً! استعاد في ذاكرته، بابتسامة ساخرة ومُرة، صوت السفير الجديد، بُعيد وصوله الرباط قبل بضعة شهور، وهو يقول بفخامة ورضا وامتلاء بالذات:

– سنشتغل على تعظيم قوة مصر الناعمة، فما أفكاركم؟

اقترح عليه برنامجاً، تفصيلياً، من الندوات الأدبية والدينية والمعارض الفنية والأثرية والمهرجانات الموسيقية والسينمائية والتليفزيونية وغيرها، مرفوقاً بقائمة، وافية، بأسماء مقترحة في كل تخصص. ألقى الرجل نظرةً عابرة على الأوراق، ثم أزاحها جانباً. قال:

– الفنانة يُسرا….

بحلق فيه، غير فاهم، منتظراً أن يُكمِل الجملة، لكن السفير لم يُكمِل. سألَ:

– مالها يا فندم؟

– ستكون عضو لجنة تحكيم مهرجان مراكش السينمائي.

– صحيح يا فندم.

– أريد أن أعرف إن كانت متزوجة، أم لا؟

لم يفهم السؤال، لن يفهمه، أبداً! وهل ثمة ضرورة لأن يحاول المرء فهم ما لن يُفهَم قط؟ مثلاً؛ بعد أربعة مليارات عام، ستبتلع مجرة “أندروميدا” العملاقة شقيقتها الصغرى مجرة “درب التبانة”. “أندروميدا” تسافر باتجاه مجرتنا، المسكينة هذه، بسرعة مائتي كيلو متر في كل ثانية، أي أنه في اللحظات القليلة، التي طرح فيها السفير سؤاله، ربما كانت “أندروميدا” قد اقتربت منا، أو اقتربنا نحن من مصيرنا الدراماتيكي، ألف كيلو متراً أخرى، فهل من معنى، بأي معنى، لمحاولة فهم ما في هذا من اللا معنى؟! قال لها:

– هي بلادُنا، مشرق ومغرب، أو مغرب ومشرق، أو ما شئتِ، تُشبه قطعة الحلوى، القديمة رديئة الصنع منتهية الصلاحية، والمطبوع على سوليفان تغليفها البراق تاريخٌ زائفٌ مزور. فلنتعلم كيف نلوكها بلهفة جوعنا وحرماناتنا، ولنتعلم كيف لا نسائلها، ولا ننتظر منها، مذاقاً غير ما تعطينا إياه بنفسها، ووفق هواها، أن نرتد أطفالها المحرومين، غداً وأمس وما قبل بعد اليوم.

– أنت شخصية سوداوية وسواسية عدمية.

– نعم، أنا كذلك.

– سترجع بلدك وتنساني.

– سأرجع بلدي.

– وتنساني؟

ألحَت بالسؤال.

– وأنساكِ.

حدًق في المصب العريض “لأبي الرقراق” قبل ذوبانه في لجة المحيط. بطريقةٍ ما، بدا له النهر بطيئاً هادئاً ومتردداً. فكًر في مسيرة النهر، الطويلة المظفرة، نزولاً من أعالي جبال الأطلس وحتى المحيط الأطلسي. عشرات الغدران والجداول، الشابة الفتية، وهي تندفع، في عزمٍ وتصميم، لتخط مجاريها، وتحفر قدرها الذاهب بها، بعد عشرات مئات،  ربما آلاف، الكيلو مترات، ليبتلعها المحيط، فهل دار بخاطرها، ولو لدقيقةٍ عابرةٍ وحيدة، إلى أين يمضي بها قدرها؟ وهل فكَر النهر في أن يلتفت، ولو لمرّةٍ واحدة، ليتحسر على كل تلك المسيرة الرائعة أن تغدو خاتمتها إلى البحر؟ ربما قُبيل النهاية، فقط، يفعل النهرُ! وها هو يفعل، أكان مُحتّماً أن يفعل؟!

نزل الليلُ، بعباءته المظلمة، على قلبه، الآن. تجاوزت الساعة التاسعة بدقائق. لم يجد في نفسه استعداداً لمهاتفتها، وتهيأ للرحيل. أشار للنادل الذي وصل حاملاً مظروفاً صغيراً في كفه، وابتسامة مشفقة على شفتيه. طلب فاتورة الحساب، فمد له الرجل يده بالمظروف المغلق. همس بأدب:

– من “اللالة”. أعطتني إياه قبل مجيئك بساعة. أوصتني أن أسلِمه عند رحيلك، وأدَت ثمن المشروبات مقدماً. قالت إنكَ ضيفُنا، وإنك سترجع بلدك غداً. مع السلامة أستاذ.

مد له يده مُسلِماً، ثم تحرك باتجاه السيارة. جلس إلى عجلة القيادة، متهالِكاً وُحراً. امتدت أصابعه لتفض رسالتها الأخيرة له. كانت قد خطت له كلمة واحدة لا غير؛ لا تنسني!!

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون