ترحال

ترحال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;} خالد عبد العزيز

مفتتح

ليس لظهورها علامة محددة او بادرة تنبئ بقدومها ، وكما تظهر فجأة تختفى ايضا ً فجأة، يكفى أن تسمع صوت خبطات عصاها على ارض عربة المترو، أو حتى صوت زعيقها ومحاولتها ولادة كلمات يعجز لسانها المبتور عن انبثاقها ، لتدرك حضورها المباغت الذى يطغى على ما حولها ، ليست كباقي الشحاذين يحكى حكاية مفتعلة كانت ام صادقة ليستدر عطفك ويدفعك لإخراج ما تجود به نفسك، هي شيء مختلف ، مغاير عن ما سواها .

(1)

تمكنت من اللحاق بآخر مترو قبل أن يحين موعد إغلاقه اليومي ، وصلت إلى محطتي، بعد عبوري ماكينة التذاكر سمعت صوت شجار ، تبعه صوت زعيق ، صوت أدركه جيدا ً، صوت مبتور منه حروف كلماته، يود تجميع شتات زعيقه لتكوين مفردات تُفهم لكن محال الفهم، فلم يتبق سوى الاشارات والتشويح بالأيدي.

ظلام يحيط بالفناء المحيط بالمحطة، شبحان يتعاركان، لم أتبين ملامحهما، فقط حركات اجساد تتدحرج على الارض وصوت سباب وزعيق، لم أدرك سبب الشجار، فقط بضع كلمات تتردد بين السباب والزعيق كلها صادرة من طرف واحد، كلمات وعيد وتهديد بكشف المستور !

فجأة توقف كل شيء وهدأ الزعيق ، لا حظت حركة رؤوسهم تتجه نحوى حيت كنت أقف متابعا ً ما يجرى، قام الشبح الأول يسوى ملابسه، تبعه الشبح الثاني … هي كما توقعت، تناولت عصاها من على الارض واتكأت عليها، وخطوا خطواتهم، شعرت بمزيج من الرهبة وانتشاء من مقدم على مغامرة … تغلب إحساسي الاول على الثاني فأطلقت ساقى للريح .

 (2)

لم تتوقع بحال من الأحوال أن تصل بها مسارات الحياة إلى هذا المنعطف، كانت تظن دروب الحياة ممهدة أمامها دون نتوءات تُذكر ، ما الذى دفعها الى طرق وعرة ونهايات لا يحيط بها سوى الغموض .

تخرج وفقا لميعاد محدد لا يدركه أو يعلمه سواها ، قد تبدأ جولتها فى الصباح حيث الزحام فى المترو أثناء ذهاب الموظفين الى اعمالهم ، يصبح رزقها غزيرا ً ، وتنهال عليها قطع النقود المعدنية و أحيانا ً الورقية اذا كان الراكب فى حالة مزاجية رائقة أو أثرت فيه حالتها الرثة .

أو تختار الليل ، يكون العمال عادوا من أعمالهم وجيوبهم مليئة ، فيخرجون ما تجود به نفوسهم ، فى كل الاحوال تدرك كيف تقبض على المال وتصل اليه أى كان ما ستواجهه فى سبيله .

 (3)

ألححت على صديقتي الرسامة أن تأتى معى لتراها، تود أن ترسم بورتريها عنها، فى إطار المعرض الذى تحضر له، أخبرتها أنها لا تظهر بشكل يومى أو لها موعد محدد حتى يتسنى لها التقاط صورة لها أو  حتى رسم مبدئى بالقلم الرصاص .

ركبت المترو بصحبة صديقتي أثناء عودتى من العمل ، كانت تحدثني بحيويتها المعتادة ، فجأة توقف المترو فى إحدى المحطات فترة طويلة دون مبرر، ظلام يحيط بعينى لا ادرك سببه، رفعت رأسي محاولا استكشاف مدى السواد المحدق بي، كانت هى بعباءتها السوداء مستندة بعصاها ، تقف أمامى ترسل نظرات حائرة بين المودة والضغينة ، أنتابتنى خشية مباغتة ، شعرت بسخونة تنتقل من رأسى الى كل جسدى فى لمح البصر ، نظرت الى باب العربة وجدته أ ُغلق ، فأدركت أستحالة هروبى من قبضة نظراتها التى نسجتها بمهارة حول عنقى .  

 (4)

 

تجلس وحيدة مرتجفة ، حبيسة حجرة نومها الكئيبة ، تنظر للامام نظرات شاردة ، بين حين واخر تسمع صيحاتهم بالخارج ، أعتادت الا تنصت لما يجرى خلف باب حُجرتها ، أى كان لا تطأ قدماها للخارج ، هكذا تبينت أوامره لها من هدير الكلمات المنفرط من ببن شفتيه بينما تنهال يديه لطما وضربا وحشيا ً فوق جسدها المتكور كالجنين .

تُذكر اللقاء الاول كانت فى ادارة المرور لتجديد رخصة السيارة الخاصة بها ، كان يجلس بجوارها متململا ً من بطء الخدمة ، نشأ بينهم حوار لا تدرى كيف نبت أو بدأ ،  فجأة وجدت نفسها منهمكة معه فى تبادل الاراء حول أنواع السيارات ، يتوجه اليه أحد العاملين يُقدم اليه رخصة سيارته على غيرالمعتاد حيث يتوجب عليه أن يتسلم رخصته من الشباك المخصص لذلك ، يخبرها العامل ان الباشا يغير سياراته كما يغير حذائه ، ابتسمت وعلى وجهها علامات لامبالاه مالها ومال سياراته ؟ لو عرفت لماذا يُبدل سياراته كما يُبدل أحذيته لما حدث لها ماحدث !  

 (5)

وجدتها تدخل مكتبى مهرولة ، وعلى جهها علامات اثارة تُشى باحرازها حلم طال امده ،

ـ خير ؟ أسالها وحالة ترقب تجتاحنى من أثر أقتحامها المفاجئ لعزلتى ،

ـ لن تصدق أخيرا ً لاقيتها !

ـ من ؟

ـ هيكون من ؟ الشحاذة

كان قد مر حوالى شهر لم أرها فيها ،كأنها فص ماح وذاب ، ظننتها أختفت الى غير رجعة أو انتقلت الى العالم الاخر لعله يكون أكثر رحابة ورحمة من دنيانا ، تركت ما كنت أؤديه من عمل والتفت منصتا الى صديقتى تصف لى كيف وجدتها صدفة كأنها بُعثت فجأة من اللا معلوم .

” كنت فى مقهى البورصة فى انتظار بعض الاصدقاء ، التفت يمينا ً بُغت بجلستها وحيدة منزوية على احدى مقاعد المقهى فى ركن قصى لا يُرى بوضوح الا اذا تأملت المكان بدقة ، يبدو أنها كانت تنتظر أحدا ً ما ، كانت تداعب قطة بحنية ورقة بالغة لم اتخيل توافرها لديها ، تابعتها بشغف محاولة فك طلاسم حياتها ، مُسبرة غور وحدتها المحاطة بسياج متين يستحيل عبوره ، لم أتوغل كثيراً ، اذ أتى فى ثيابه الرسمية وأصطحبها بعيدا ً، غير مبال بنظرات الجالسين ، واختفوا بعيدا ً عن نظرى “

(6)

يبد منه عند بداية علاقتهما أنه يحوى داخله كل تلك المتناقضات ، رغم هدوء ملامحه وابتسامته العذبة الا أن طبقات الوجه تخفى تحتها نار مستعرة ، فوران داخلى ، عدم أتزان فى الافعال ، سعى حثيث منه الى الشئ ونقيضه فى نفس اللُحيظة ، أزدواج عجيب لم تقابله من قبل ، ما الذى دفعها الى الاستمرار ؟ لا تدرى على وجه الدقة ، قد يكون ترسب داخلها حب راسخ متمكن رغم كل عيوبه البادية والمستترة ، بل كان يسيطر عليها أمل لا تدرك مدى جدواه فى تبدل حاله .

تزوجته بعد مدة قصيرة من لقائه بادارة المرور ، بدء يتودد اليها مبديا رغبة فى الوصل ، وهى بدورها لم تغلق بابها أنما تركته مواربا ً ، لعل وعسى ، فهل أوقعها فى نسيج شباكه ؟

حاشية

تدرك جيدا ً أن ما تبحث عنه أندثر زمانه وولى ، لكن أحيانا ً يحدوها الامل المبهم مصدره ، فتبدأ من جديد رحلة يكتنفها غموض بقدر ما ينقصها حذر ، منذ أن جرى لها ما جرى وتفرقت بها الدروب وسعيها حثيث لم يفتُر ، بين رحلاتها التى طافت بين جهات البلاد الاربع ، تُخرج بين طيات ملابسها الموشاه بذوق قديم لكن حال لونه الاصلى فتهلهل وصار الى ممزق ، تُخرج صورة مغلفة بعناية ودقة ، تنظر اليها تُملى عينيها الكليلتين من قسمات صاحبة الصورة الطفولية لعلها تلهب قلبٌها المشتعل اصلا ً بالحنين وتمدها برحيق أمل للقاء طال بُعده .

 

(7)

زحام لايطاق داخل عربة المترو ، الركاب مكدسون فوق بعضهم كأنه يوم الحشر ، يزداد الضغط والتدافع بالاجساد دون سبب واضح فقط لافساح الطريق ! تعبر بخفة كأنها لا تسير على الارض رغم اتكائها على عصاها الخشنة ، تثير رهبة ، تبث استنفار فى المحيط المتواجدة فيه ، قد يكون السبب صوتها الزاعق دوما لعدم قدرتها على الكلام ، تقف فى منتصف العربة تقريبا ً تشوح بيديها ، تخبط صدرها خبطات قوية لا تتناسب مع جسدها الواهن ، تشير الى قلبها ، ترفع صوتها ليفهمها الركاب ، ينظرون اليها نظرات خاوية من المعنى ، بعضهم يمصمص شفاهم تعبيرا ً عن الاسى ، طفل يشير بيديه اليها مقتربا ً من أمه : ” ماما هى دى اللى بنص لسان “  فيخفى وجهه فى جلباب أمه خوفا ً منها ، تنظر اليه نظرات تشى  بحنية  ، تترقرق عيناها بدمع مالح يأبى على التساقط ، تقترب منه فى حركة مباغتة تجذبه من يد أمه ، يبدى الطفل جزعا ً وخوفا ً ، تتمالك الام نفسها بعد أبدائها دهشة وخشية ، فتحاول جذب الطفل من يديها ، الا ان يديها المُمسكة بالطفل تأبى تركه ، تنزل بجزعها الى مستوى الطفل تضع يديها أمام رأسه كأنها تُقيس طوله ، تفتح حقيبتها الاشبه بالبقجة ، تخرج قطعة حلوى لم يرها أحد من قبل تناولها للطفل ، فيهدأ روعه ويستكين ، تنظر للركاب ترفع صوتها بزعيق لا يُفهم وتشير الى الطفل ، لم يفهم أحد ما تحاول قوله ولم يسعى أحد الى محاولة فك طلاسم رسالتها المستجدية لعل أحد يبدى مساعدة هى فى مسيس الحاجة اليها .

 (8)

لم أتوقع أن تثير لدى أدنى أهتمام ، مالذى دفعنى الى رحلة بحث عن منبتها أصلها ؟ لا أدرى لعله فضول لكن ما أوقن منه أن فضولى نما واستحال الى رغبة حقيقية فى تتبع مصيرها لعلى ببحثى هذا أدرك كنه ترحالها الدائم .

بدأت رحلتى من حيث أنتهت صديقتى بعد أن رأت الضابط بثيابه الرسمية يصحبها من المقهى غير مبال بهمهمات الزبائن – مالذى لم الشامى على المغربى – وقررت أن يكون بداية الخيط هو تلك العلاقة المبهمة بينها وبين الضابط !

صباحا ً قبل أزدحام المترو ،  وقفت متلصصا ً خارج المحطة  منتظرا ً قدوم الشرطى المسئول عن تأمين المحطة ، ينظر بتعالى ، يشعر بذاته جيدا ً ، أقبلت عليه دون وجل مداريا ً ما أُبطنه ، اخرجت علبة سجائرى ناولته واحدة لم يتردد فى قبولها ، وبعد ذلك أنفرط لسانه فأستحق باقى علبة السجائر .

ظهرت فجأة لا أحد يقدر على تحديد متى بدأ وفدوها على محطات المترو ، وبالاخص تلك المحطة ، ما من زمن معلوم ، أحيانا يخيل الى كل من رأها أنها لا يتقدم بها العمر أو يرجع للخلف منذ بدء تجليها وهى على تلك الحال ، ممسكة بعصاها ، ترتدى نظارتها الطبية الموشكة على الانكسار من كثرة الاستخدام ، حتى جلبابها المهترئ لم تبدله .

تابع بتأثر : تتناثر أقاويل لا يعلم مدى دقتها الا العلى القدير منهم من قال أنها تستطيع الكلام ليس بلغتنا فقط أنما بسبع لغات منهم لغتين على الاقل لا يدركهم سوى قلة ، منهم من قال ان هناك من قطع لسانها حتى لا تشى بما رأته ولا يدرى أحد مارأته بالضبط مما أدى الى قطع لسانها ، منهم من قال أنها تبحث عن شئ ما مجهول  ، تريد ايصال رسالة ما يجهل العامة محتواها ، المؤكد أنها لا تكتفى بمحطات المترو أنما شوهدت فى القطار طافت طول البلاد وعرضها من اقاصى الشمال الى عمق الجنوب ، مالذى تبحث عنه بالضبط  ؟ السر عند حافظ الاسرار .

 (9)

خوفها لا يستكين ، خاصة مع علو صوت ابنتها وزعيقها المتواصل أثناء اللعب ، تخشى أن تفتح باب حجرة نومها ويراها فيسكب نار غضبه الملتهبة  من خسارته على جسدها المسكين .

نادرا ً ما يكسب ، حتى لو أجتمعت فى يده كل اوراق اللعب ، أحيانا تصل خسارته الى مبالغ كبيرة ، فيضطر الى اللجوء الى دفتر شيكاته فيوقع شيك تلو شيك حتى بدأ رصيده فى النفاذ .

اليوم نحس – كما أخبر – اصدقائه المجتمعين أمام طاولة اللعب ، يكتشف أن زجاجة الويسكى أنتهت أخذ الرشفة الاخيرة والقى بها بعيدا ً فتناثرت بقايا الزجاج مشكلة مشهد عبثى ، أخرج دفتر شيكاته ، كتب شيك جديد لخصمه ، رفض استلامه بحجة أن الشيكات السابقة بدون رصيد ، وحرصا ً منه على العشرة لم يتقدم بالشيكات للنيابة .

أحتار كيف يعوض خسارته المتزايدة ، لمعت فى ذهنه فجأة ، لم يتردد لحظة ، قام مسرعا ً الى غرفة النوم ، ولج مندفعا فى غير توازن من فرط سُكره ، جذبها من يدها بقسوة ، لم تفلح توسلاتها بأن ينتظر حتى ترتدى ما يستر جسدها – لم تكن ترتدى سوى قميص نوم يكشف أكثر مما يخفى – قبل أن يخرج من حجرة النوم التفت اليها –  نظر اليها نظرة جائعة شبقة ، تأمل تكوين جسدها البديع ، القى بها بعيداً كمن يلقى خرقة مهترئة ، اكتشف وجود ابنته ، تدارك وجودها مع صراخها ، امسك بها وجرها خلفه وهو يتطوح غير قادر على صلب عوده .

 (10)

اتفقت مع صديقتى أن نتوغل مكتشفين حياتها ، كيف بدأت طريقها مع التسول ؟ ، متى بدأت ترحالها ؟ ، ما مغزى الرسالة التى تود ابلاغها ؟ ولمن ؟ اسئلة شتى تبحث عن أجابات فتتبعت فضولى لعله ينير طريقى بقبس من ماضيها .

حاولت أن أقابل النقيب – هكذا يسمونه المسئول عن جموع المتسولين المتنقلين فى وسائل النقل  ــ  باءت كل محاولاتى بالفشل رغم أنى أدركت طريقه ، وعرفت موضعه ألا ان الوصول اليه وعر محفوف بالخطر ، صحبتنى صديقتى اليه ، قررنا أن نتوجه اليه مباشرة دون وسيط ، متناسيين مدى صعوبات الرحلة .

مكان مجهول على اطراف المدينة ، يحيط به العشوائيات المبنية على الجبل ، الولوج الى المغارات اسهل من الوصول اليه ، وصلت اليه بعد عناء ، اذ اضطررت الى اتخاذ طرق ملتوية خشية أن الرصد من أتباعه ، اختبئت فى ركن بعيد لضبط ايقاع أنفاسى  قبل أن أتقدم اليه .   

همس يدور لم أتبينه بوضوح ، كلمات مبتورة أنصت جيدا ً محاولا ً تجميع الحروف لتصير كلمات فتتكون الجمل ، أخيرا ً أدركت مغزى الحديث ، كانوا يتناقشون عن أحوال العمل ، والشكوى من بعض الافراد ايرادهم ليس كما يجب أن يكون ،

نطقوا أسمها ” الخرساء ” أخيرا ً وجدت ضالتى ، تناثر الكلام واللغط حولها متشاكين من ندرة ايرادها فى الاونة الاخيرة ، مالذى ذكرها بماضيها لا أحد يدرى  ؟ يحكى أحدهم أنهم  فجأة وجدوها تخرج صورتها وتبكى بحُرقة ، ظنوا أنها نست ذلك الموضوع ، حكاية فات عليها أعوام طوال ، تساءل أحدهم يبدو أنهم رئيسهم ” هى لسة ملاقتش بنتها ؟ “

نظرت مبهوتا ً الى صديقتى ، غير مصدق ما أسمع ، أنصت مجددا ً محاولا اكتشاف المزيد من الحقائق التى أرقنى الوصول اليها ، أخرجت صديقتى الكاميرا محاولة ألتقاط صورة لهم ، طلبت منها التوقف ، خشية أن يدركوا وجودنا وتكون نهايتنا ، أخبرتنى ألا أخاف ، رضخت لرغبتها رغبة منى أيضا ً فى اقتناص لحظتهم المؤطرة بالحقيقة ، كانت أول صورة التقطتها وبدأ صوتهم يعلو محاولين معرفة ما الضوء الذى سطع فجأة وأختفى ، أمسكت بها من يدها وركضنا بعيدا ً محاولين سلك دروب مغايرة خشية أكتشاف وجودنا ، تابعنا الركض ولازالت أسمع صوتهم يعلو أمرا ً تابعيهم بمحاولة اللحاق بنا .

 (11)

أعتادت أن تقابله فى مقهى البورصة ، رواد المقهى يعرفونها لا أحد يضايقها أو يقترب منها ، وهو أيضا ً لا يعبئ بما يقال عليه ما يهم هو ما يتحصل عليه منها ومن غيرها ، علاقاته بالشحاذين معروفة ، متينة ، لا أحد يجرؤ على ممارسة عمله فى المحطات قبل موافقته والاتفاق على نسبته وألا سيستخدم سلطته القانونية فى تتبعه و قطع عيشه .

يزهو مختالا ببزته الرسمية تعلوها الشرائط الثلاثة ، وجدها فى مكانها المعتاد القصى ، جلس بجوارها رسم على شفتيه ابتسامة مغتصبة ، رؤياها تثير الشفقة لديه لماذا هى بالذات لا يدرى ؟ رغم أن حال الباقى ايضا ً وعر لكن هى حالها مغاير عن الاخرين ، بمجرد رؤيته أخرجت من جعبتها المعلوم أعطته له دون أن تهمس ولو بزعقة كما اعتادت ، سألها عن حالها شوحت بيدها علامة أنها بخير ، هز رأسه علامة الفهم ، هم بوضع المال داخل جيب سترته ، أخبرها مثل كل مرة أنها أذ كانت غير مسامحة فهو على استعداد لارجاعه لها ويحلف باغلظ الايمان أنه لا ينوبه منه شئ فهو للعساكر الصغار حتى لا يضايقوها ويعترضوا طريقها فى المحطات ، وكل مرة تهز رأسها وبمجرد مغادرته المكان تلتفت للناحية الاخرى تبصق وتقطب جبينها ممتعضة .

 (12)

ضاعت دموع عينيها هدرا ً ، لم تفلح توسلاتها ولا دموعها المنهمرة كالشلال أن ترجع ما فات ، غامر بأبنته بعد أن فقد أمواله ، يدرك لهفة خصمه على الاطفال ، ليس عشقا ً لهم أنما لما يجنيه من ورائهم ، معروف بين أصدقائه بدوره كوسيط ، يقدم الاطفال لمعتادى التسول ، يبدأون رحلتهم بالتسول فى إشارات المرور و محطات المترو والسكك الحديدية ، كان متعهد الشقاء والعذاب بجدارة .

عند رؤيته للطفلة لم يتمالك نفسه ، من فرط طفولتها الهشة ، عزم الا يخرج الا منتصرا ً، فمثل تلك تدر ذهبا ً فى الايام التى لا لون لها تلك .

توسلت له أن يأتى لها بأبنتها ، كيف واتته قسوة قلبه أن يفعل فعلته ؟ كان قلبه قطعة من الحجر متبلدة الاحساس ، أخبرها بهدوء وبرود لا تدرى مصدره : أن حياتهم ممتدة وسيرزقون بغيرها لم كل هذا الحزن الغير مبرر .

لم يعد لوجودها معه أدنى سبب ، قررت أن تنفذ ماعزمت عليه منذ زمن ، لكن تلك المرة وحيدة باحثة عن نفسها التى اقتطعها منها بقسوة ، بسكين تلم ، فبدأت ترحالها الدائم الغير منتهى لعلها مدركة فبضة من طيفها .

 

منتهى

منتصف ليل وسط المدينة ، الشوارع خالية تقريبا ً ، يبدو أن برودة الطفس حالت دون ازدحام الشوارع ، طقس بارد ينخر فى العظام ، لا يرحم ، لا يقهره شئ ، فشلت البطاطين الصوف والمشروبات الساخنة فى الانتصار عليه ، لازالت حكاية  المتسولة الخرساء تشغل حيزا ً ليس بالهين من تفكيرى ، أدركت أنى اصبحت أسير حكايتها ، افتقدت وجودها المحسوس ، اشتقت لصوت زعيقها الذى أصبحت أفهم معناه وأدرك مغزاه جيدا ً ، تمنيت أن أنظر الى عينيها دون وجل أن أخبرها أنى متفهم لحالها ، فقط ولو تضامن بالنظرات .

بدأ المطر فى الهطول ، قطرات الماء كقطع الحجارة ترجم دون شفقة ، ارتكنت بجسدى فى إحدى الزوايا محتميا ً من المطر شعرت بشيء ثقيل يميل على ساقى  ، لم أتبين كنهه فى الظلام ، انتابتني رعشة ، وقشعريرة سرت فى جسدى كتيار كهربائى تغلبت على مخاوفى ، فانحنيت لاكتشف ما هذا ؟

 كانت تجلس متربعة مرتعشة من البرد ، لم تبدل جلبابها الممزق الذى حال لونه ، ترتدى نظارتها الطبية ، وعصاها مرتكنة على الحائط بجوارها ، تمسك بيدها صورة قديمة مغلفة بعناية ، يبدو عليها التأثر الشديد بالبرد ، أذ كان جسدها ينتفض ، خلعت سترتى الجلدية ونزلت بجسدى لأضع السترة على جسدها الهزيل لعله يمدها بدفء مفتقد ، تهمس بوشوشات لا أتبين مقصدها ، حاولت التقاط ماتود ابلاغه فقط حروف متناثرة تبدو عصية على التركيب … ب…ن…ت…ى ، فى البداية لم أفهم  ، ما أن أنصت مجددا ً حتى أدركت مسار الهمس وولجت درب الحقيقة  .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص مصري

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون