“تراب الماس”..أحمد مراد يصنع انتصارًا زائفًا للطبقة المتوسطة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 5
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عندما عرضتُ هذا المقال لأول مرة على المحررة بموقع مدى مصر بهدف نشره، أخبرتني أنها لم تفهم لماذا عليّ أن أتعامل بجدية مع عمل أحمد مراد الذي لا يأخذه عادة أحدٍ بجدية؟
شخصياً أعتقد أن وظيفة النقد هي أخذ الأشخاص والأعمال التي ينتجونها والسياق الذي يحيط بهذه العملية بأكبر قدر ممكن من الجدية، وإلا ما هو الهدف من المشاهدة؟

تقوم سلسلة استباحة القتل في فيلم “تراب الماس” من تأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد على خيالات حسين الزهار- وهو والد البطل ويلعب دوره أحمد كمال- عن العالم، عالم ابتدعه بنفسه لنفسه دون أن ينظر في مرآة أو أن يتوقف قليلاً لاختبار صدق افتراضاته. يبدأ الفيلم بهذا المونولوج المغرور للزهار، يتكلم فيه عن مرحلة ثورة يوليو 1952، مستنداً إلى التأثير المظلم على التاريخ لحادثة إزاحة محمد نجيب من حُكم الجمهورية لصالح جمال عبد الناصر. في موضع آخر من الفيلم يطرح المذيع شريف مراد- يلعبه إياد نصار- على جمهور البرنامج الذي يقدمه سؤالاً حول الإشكالية نفسها: ماذا كان سيحدث في مصر لو واصل محمد نجيب توليه الحُكم وأعلن قيام انتخابات برلمانية وبالتالي إرساء ديمقراطية حقيقية؟
وكأن الإجابة التي يُلقنها لنا صناع فيلم “تراب الماس” وعلى رأسهم بالطبع كاتبه أحمد مراد هي : لو ظل محمد نجيب على رأس الحُكم لما شعر هذا الرجل “حسين الزهار” بالغُبن ولما بدأ سلسلة القتل التي مارسها ضد كُل مَنْ توهم أنه يؤذيه منذ كان صبياً صغيراً، خان حسين الرجل الوحيد الذي قام على رعايته بعد وفاة أبيه، الخواجة اليهودي “لييتو” عندما قرر تسميمه بهذه المادة العجيبة التي اسمها “تراب الماس” وتُستخدم أصلاً في تنظيف المجوهرات، لقد اختار موت اليهودي بدلاً من تسليمه للشرطة أو تركه للحد الأدنى من العدالة القانونية مُعتقداَ أنه هكذا يُخفف عنه العقاب أو يُرضي ضميره على نحو أفضل لا أعرف، وهو الخيال نفسه الذي يعود لينتابه إزاء الكاتب صاحب الوعي المزيف الذي يتملق السلطة، أو عضو مجلس الشعب ورجل الأعمال “محروس برجاس” الذي يستخدم البلطجي “السرفيس” لأداء أعمال خارجة عن القانون، والواقع أن شعور الزهار بنفسه كإله يُحيي ويُميت قد يكون له ما يبرره من الطب النفسي أكثر من تاريخ مصر السياسي(في هذا السياق يمكننا أن نستعيد عدداَ من الأفلام الأمريكية التي تبر سلوك مجرميها مباشرة باختلالهم النفسي) لكنها إرادة السارد العليم أحمد مراد، وهو يثق كثيراً في رؤيته.

ماذا كان سيحدث لو لم يحكم جمال عبد الناصر مصر؟ هذا هو الوجه الحقيقي لسؤال مُراد. وإجابته بالطبع أكثر تشعباً من أن يخوض فيها مقال مراجعة سريعة لفيلم، قد تكفي الإشارة لأن الشعب الذي خرج من مرحلة سياسية واجتماعية غير عادلة أيام الملك فاروق لم يكن قادراً على فهم هذه الديمقراطية الجاهزة التي ينادي بها الآن أحمد مراد بعد ستين عاماً من يوليو 1952 ومازالت تبدو بعيدة المنال. إن ما فعله أحمد مراد من إسباغ الملائكية على شخص محمد نجيب كي تسهل عملية شيطنة أشخاص آخرين ومِنْ ثَمَّ تبرير جريمة مُعلِّم تاريخ مرتبك نفسياً وغير متصالح مع عاهته، تنطوي ليس فقط على شخصنة ساذجة للتاريخ، لكن أيضاً على جهل تام بأبعاد الشخصيات التي أخذ الكاتب يستعيرها من كل مكان دون أن ينجح في نفخ الروح فيها، فالمعلم الذي يستبيح التجسس على جيرانه ليلاً يُذكرنا بالقاضي جوزيف كرن في فيلم “أحمر” من ثلاثية الألوان للمخرج البولندي الشهير كريستوف كيشلوفكسي، أما البطل اليهودي “لييتو” ويلعبه بيومي فؤاد، فهو النموذج التقليدي لليهودي الذي لا عهد له والمُستعار من كتب تاريخ كتبتها الدولة يوليو بنفسها ومن المفترض أن الفيلم يتخذ موقفاً مضاداً منها، إن علينا كمشاهدين أن نتجاهل مصرية “لييتو”ووفاءه لصديقه المُسلم حنفي الزهار وتعهده كما قلت بابنه، علينا أن ننسى ونقبل انقلابه المفاجيء على عالمه كله.

image

عموماً هذه هي فكرة حسين الزهار عن نفسه وعن العالم، وروح هذه الفكرة هي التي ينبثق منها كل سرد فيلم “تراب الماس”. سيكون من الجميل أن نتذكر كلمة أروى صالح في كتابها “المبتسرون” عندما تقول : حين يعجز المرء عن فهم العالم يُحاكمه. لأنه طوال ساعاتين ونصف الساعة هي زمن الفيلم تحاكم روح حسين الزهار العالم بحقد لا مثيل له، هناك مستوى آخر في “التراب” ننتقل إليه من الأب إلى الابن، الذي يرث مسؤولية استكمال القتل وتبريره، ينتمي”طه” لتيار من الطبقة المتوسطة المصرية يحتمي بالعلاقات الأسرية ويعتبرها بديلاً عن محاولة فهم الذات والعالم، يُجسِّد طه في انتماءه لأبيه طاعة عمياء للخطايا قبل الحسنات، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة ظاهرياً تعكس “الحُب” فإنها داخلياً تعكس كُفراً تاماً بجوهر الدميقراطية التي يأسى عليها أحمد مراد في مقدمات فيلمه.

ولأن شخصية “طه” كما يلعبها آسر ياسين، بدت لي تقريباً بلا أي ملامح نفسية مميزة على المستوى السينمائي- مع وجود استثناءات بسيطة-  فقد راح خيالي أثناء الفرُجة على الفيلم، يستعيد شخصاً آخر جسدّه آسر ياسين قبل ثماني أعوام في فيلم “رسائل البحر” من تأليف وإخراج داوود عبد السيد، أعني يحيي الطبيب الذي يتحول إلى صيّاد، يهجر كذب المدينة باحثاً عن الحقيقة في “البحر”، بدأتُ المقارنة بافتراض أن “طه” صار موشكاً مثل “يحيي” على المعاناة من عُقدة في اللسان، عندما عدتُ للرسائل هذه المرة، وجدتُ لديه بالصدفة مفاتيح لقراءة أخرى لفيلم “تراب الماس”، ومجموعة من النقاط المشتركة التي ترسم خريطة لبطل ينطلق من الطبقة المتوسطة، مرة في اتجاه انعتاقه، ومرة في اتجاه سجنه المؤبد.

image

رحلة البطل 

يرتبط ظهور طه في “تراب الماس” بجريمة قتل الأب، يدفعه لون الدم الأحمر دفعاً كي يتخذ موقفاً واضحاً وربما ثأرياً من العالم، هو الذي فضِّل كل حياته أن يعيش بوداعة وألا يصطدم بأحد. بينما يولد يحيي في “رسائل البحر” من اختفاء آخر أفراد العائلة، ومن الشعور باليأس التام إزاء سلوك الآخرين الساخر من عاهته الكلامية أو تَهتَهَته، إن المشهد الأول الحقيقي الذي يمكننا أن نتذكر عليه “يحيي” هو وقوفه الأعزل أمام بحر إسكندرية ومعاناته من الجوع والبرد، في مقابل مشهد رقود “طه” على سرير المرض منتفخ الوجه والعينين واضطراره لمواجهة ضابط الشرطة  اللامبالي وهو يفتح تحقيقاً عن جريمة قتل الأب، ثم نهوض طه غير مصدقٍ كي ينادي باسم أبيه.يعمل طه في “تراب الماس” كصيدلاني، ويمارس ليلاً في شقته هواية قرع الطبول أو drums بكل ما تُثيره من صخب وإزعاج لا يعترض أحد عليه من الجيران، هذه الهواية قد تكون هي الصفة الشخصية الوحيدة ل “طه”، وهي كما نرى في الفيلم لا تتطور مع الوقت فتصبح فناً مثلاً، بل تكاد تتحلل بعد أن يتلقى ضربة من قاتل أبيه يوم اُرتبكت جريمة القتل وبالتالي تصبح وسيلة لإثارة شفقتنا على البطل العليل، (يدخل الفيلم ويخرج دائماً من بوابة إثارة الشفقة) عاطفياَ ليس في حياة طه قصة حُب إلا تلك التي عاشها في مرحلة الجامعة ويحكي عنها لأبيه بسخرية، فيرد عليه الأب “الست الحلوة مشاكلها كتيرة”، كما لو أنه بالضبط يتحدث عن سيارة، وبينما يحاول في النصف الأول من الفيلم لفت نظر سارة تلعبها “منة شلبي” بغلظة لحضوره، تشعر هي بسُخفه وتُبعده عنها هازئة من عزفه الليلي النشاز، فيما بعد سنعرف أنها مرتبطة بعلاقة غرامية مع المذيع شريف مراد، ويتأكد لنا أن المبرر الوحيد من وراء جمع طه بسارة في الفيلم هو أخذه للعالم الفاسد للطبقة المُخملية التي تستحق القتل، من وجهة نظر حسين الزهار.

كان يحيي طبيباً في “رسائل البحر” يعيش ويعمل في القاهرة، تبدو ثأثته كرمز للرفض المتبادل بينه وبين المدينة، إنه طليق عندما يتحدث إلى نفسه، ولاحقاً مع حبيبته “نورا” وتلعبها بسمة، يبدأ يحيي في الرسائل رحلة عكسية من الداخل إلى الخارج، يلجأ إلى الطبيعة “البحر”، ويتحمل أن تقسو عليه عدة مرات قبل أن تمنحه قارورة الرسائل والأصدقاء ثم الحُب. بمعنى آخر يخوض يحيي رحلة روحية مكتملة فيها معاناة وأسئلة تبقى حتى النهاية بلا إجابات، كي يتخلص من القشرة من المجتمع تحديداً، ذلك الذي يتمسك به بشدة حسين الزهار في “تراب الماس”، بلا أحكام مُسبقة بلا أحقاد يقع يحيي في حُب “نورا”، المكافيء الأنثوي وربما الأكثر تطوراً على المستوى النفسي، إنها تحس بالخزي لأنها متزوجة من رجل اشتراها بالمال “محمود” (بمحض المصادفة يلعبه أحمد كمال الذي هو والد طه في تراب الماس)، تقدم نورا نفسها ليحيي باعتبارها عاهرة، كما ترى نفسها، لا كامرأة فاضلة كما يراها المجتمع.

يكون طه وفقاَ لرواية هذا المقال، هو ابن هذه العلاقة بين حسين الزهار من “تراب الماس” ونورا من “رسائل البحر”، نحن نعرف أن زوجة حسين الزهار قد هجرته أيضاً بلا رجعة، وها هو الزهار في الشريط الحديث “تراب الماس” قد أُقعد وصار يحمل كل العقد النفسية للطبقة المتوسطة حين تفقد مع الوقت قدراتها الشرائية.

image

الانتقام من المثلية

عام 2010، أي قبل عام واحد من قيام ثورة يناير 2011، صدر “رسائل البحر”، كان داوود عبد السيد قد أطلق فيه حكاية “كارلا” مُصممة الأزياء نصف المصرية نصف الأوروبية، كانت جارة “يحيي” وهو صبي صغير وهي الآن تستقبله مرة ثانية في شبابهما، يداعب الأمل “يحيي” في أن يعقد معها علاقة غرامية، لكننا مع الوقت ومن خلال مشاهد مميزة للمخرج الكبير، نعتقد أنها ربما تنجذب أكثر للنساء، الهاجس الذي يتأكد بعلاقة جسدية تعقدها مع إحدى زبوناتها، وتعترف فيها ببساطة بعدم قدرتها على إيجاد الحُب، إن كارلا تريد أن تُهاجر، أن تخرج من هذا المجتمع الذي تُفضِّل فيه المتع الجسدية بدلاَ من روابط العاطفة غير المضمونة، سيُصاب يحيي بخيبة أمل شديدة حين يعرف الحكاية، لكنه سيواصل الرحلة ومن ثم سيلتقي بنورا، ويصبحا حبيبين.

في “تراب الماس” تنتقم روح حسين الزهار على طريقتها من مشهد الحب بين شخصين من نفس الجنس. يُقدم أحمد مراد “هاني برجاس” يلعبه اللبناني عادل كرم كشخص منحرف، ليس فقط لأنه رجل أعمال قد يكون فاسداً لكن أيضاً لأنه مثلي الميول الجنسية، تظهر المثلية في “التراب”، مُغلفة بعيون آباء وأمهات الطبقة المتوسطة، ورمزها مجدداَ حسين الزهار، كنمط حياة مرفوض سلفاً ولا ينبغي مناقشته على الملأ، لكن لا مانع من الضحك قليلاً بشأنه، ضحك ينتهي دائماً عند الشعور بالأمان الممزوج بالتفوق على طبقة يُعتقد أنها تحتكر المثلية الجنسية، يستثمر أحمد مراد وطبعاً مروان حامد هذه المشاعر المتضاربة في قصة هاني برجاس، ويستخدم الحوار جملاً استفزازية لإثارة خيال المشاهدين، عن الطريقة الإكزوتيكية التي يمكن أن تتم بها العملية الجنسية بين رجلين (لو قالك إضربني إضربه لكن مش قوي)، وفي نفس الوقت يصنعان منها دوافع للمزيد من تشويه شخصية هاني برجاس الذي يتخلص من شركائه الجنسيين إذا حدث وانشكف أحدٍ منهم بالقتل فوراَ.

بمعنى آخر تتحول المثلية الجنسية كموقف من الوجود في “رسائل البحر” إلى شذوذ جنسي مثير تجارياً في “التراب”، وسيجد نقاد السينما لعناوين مقالاتهم المُتحمسة للفيلم في كلمة “الشذوذ” طريقة لجذب قرائهم لتحليل الواقع الرهيب! الذي يكشفه أحمد مراد في فيلمه.

image

المشاهد أقل من العادي

شخصياً لا أعتقد أن انحياز الفيلم الطبقي في الفيلم هو انحياز مقصود بقدر ما هو جنوح من جرّاء محاولة التبرير المُفتلعة لأفعال لا تبرير لها ارتكبها بطل تصادف أنه ينتمي للطبقة المتوسطة، وبلغة الامتحانات يمكن اعتبار “تراب الماس”  فيلماَ للمشاهد أقل من المتوسط، الذي لا يعرف بعد ما هي الديمقراطية، والمرتاح للأبد في أحكامه الثنائية إذ تعفيه من مواصلة درس العالم، لكنه لن ينتبه أبداً للفخ الذي ينسجه له صناع “التراب”، إذا كان هناك أي تغيير قد حدث للبطل طه، فهو أنه قد تساوى مع كلٍ من الضابط المجرم “وليد سلطان” ويلعبه ماجد الكدواني، ورجل الأعمال الفاسد “محروس برجاس” وحتى نجله المثليّ “هاني برجاس”، لقد فقد طه حياته السابقة تقريباَ بلا مقابل، وفيما نجا “يحيي” بهروبه من المدينة مع حبيبته، وفيما اختفى للأبد عن أنظارنا نحن المشاهدين، سيواصل طه القتل سائراً بثقة على خُطى أبيه، منصاعاً بإخلاص لفلسفة كل الديكتاتوريات القائمة في هذا العالم، إن القتل في هذا الفيلم ليس أثراً جانبياً كما يقول الكاتب في شعاره، لكنه علامة على خلل حقيقي في وعي لا يصلح حتى لإنتاج تسلية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن مدونتها رانديفو 

مقالات من نفس القسم