“تاريخ آلهة مصر” لمحمد ربيع.. ديكتاتور الأحلام والهذيانات

تاريخ آلهة مصر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ناجي

منذ الصفحات الأولى لن تشعر بالراحة أثناء قراءة هذا العمل. الهزل الذي يفتتح به محمد ربيع روايته الأخيرة “تاريخ آلهة مصر”(دار التنوير) لن ينتزع الضحك من القارئ، بل سيغذي القلق والتوتر والانزعاج.
بعد أول صفحتين في الرواية توقعتُ أن يكون ما اقرأه مجرد مقدمة، فاصل من العبث ليستدرجنا إلى أجواء الرواية الجديدة لصاحب “كوكب عنبر”، لكن الأمر لا يتوقف بعد صفحتين أو خمسة، وحينما تصل إلى الصفحة الخمسين، وتستمر سرديات الآلهة العبثية ومساخرها. تشك في نفسك وفي صحة محمد ربيع العقلية هل فعلا الرواية كلها هكذا؟ أي مغامرة وأي جرأة امتلكها محمد ربيع لكتابة مثل هذا العمل؟
“ما الذي يدفع إلهاً مثلنا للقيام بعمل حقير كالكتابة؟” هذه هي الجملة الأولى المفتاحية في الرواية، ومن غلاف العمل لا يخفي ربيع أى حقائق. فالرواية تبدأ على لسان “خِربتو المطلق” أحد الآلهة المصرية القديمة أو الحديثة ربما لا نعرف تحديداً.
يوضح “خربتو المطلق” كإله لماذا يترك ملكوته، ويقرر بنفسه أن يكتب لنا تاريخ آلهة مصر. فالبلاد كانت تغرق في السواد والظلمات، لأن المصريين انحرفوا عن الدين الحق واتبعوا أدياناً أخرى. شهدت أوضاع مصر انحداراً على كل المستويات الداخلية لكن مصر كانت تحقق انتصارات كبيرة في الحرب مع الجيش الظلامي الأوروبي.
ثم ظهر خيزو الأول، أعظم الآلهة المصرية وأولها، وقد نشأ كشاب مصري عادي، ثم التحق بكلية الطيران، وبرزت مواهبه وقدراته الإلهية بشكل استثنائي، حتى تخرج في كلية الطيران المدني. ولأنه كان يكره الحرب، فقد توجه إلى مطار القاهرة وقاد طائرة استطلاع، وطائرة بوينغ مدنية وثلاث طائرات هليكوبتر وسط اندهاش العاملين في المطار. توجه خيزو الأول لأوروبا بالطائرات حتى وصل إلى مقر الرئيس الأوروبي الظلامي وقتله وانهى الحرب.
حين عاد خيزو إلى مصر أصبح بطلاً قومياً. دخل على رئيس الجمهورية وطلب منه التنحي والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة ففعل ذلك وفاز خيزو في الانتخابات، وفي يوم ترسيمه رئيساً انتظر الحاضرون في القصر الرئيسي خيزو، الذي خرج عليهم وقال جميلة واحدة فقط “الآن صفر” فمات كل من في القاعة، وانتهى التاريخ وبدأ تقويم جديد.
زمن جديد أشرق على مصر.
ما أن تجلى خيزو الأول على المصريين حتى فعلوا ما يفعلونه منذ آلاف السنين “سجدوا” لكن هذه المرة للإله الحاكم الرئيس “خيزو الأول”.
أعلن خيزو الأول نفسه حاكماً لمصر.
اللغة المكتوب بها هذا الجزء في الرواية، والأحداث المفرطة في عبثيتها، تجعلك تشعر أن الأمر لا يعدو مجرد نكتة والرواية الحقيقة ستبدأ بعد قليل، لكن النكتة لا تنتهى بل تتحول الى صفعة عنيفة على قفا القارئ، خصوصاً حينما يستمر سرد تاريخ الآلهة، ويأتي مدعماً بالمصادر التاريخة المختلفة فعلى طول الرواية يشير ربيع (أو خربتو المطلق الرواي) في هامش الصفحة إلى مصادر مختلقة يقتبس منها ويؤكد روايته.
ثم يقتل الإله إلهاً آخر، ويأتي “خايرو الفلاح” ثم “خخو الشاعر” (الذي قدم إلى المصريين الشعر واللغة و”كتاب مصر”، ولم يكتفِ بهذه الإنجازات المعنوية العظيمة، بل قدم لهم نفسه في النهاية.) ثم أتى “اللى ميتشماش الكافر” والذي كان محامياً وسياسياً تمكن من التسلل كعامل فقير إلى قصر الرئاسة/ الإلهة وقتل الرئيس. لكن بدلاً من إعلان نفسه إلهاً سمح للمصرين باعتناق الأديان التي يريدونها بل وحاول إنشاء نظام حكم ديموقراطي، وتمادى في هرطقته وسمح للمصريين بكتابة دستور، وانتخابات وبرلمان.
بالطبع لم تسمح الألهة بهذه الكفريات، فظهر “خللو الأعظم” إلهاً جديداً واستعاد الحكم والسيطرة، تلاه “خربتو المطلق” الذي جلس يسجل تاريخ آلهة مصر لنا.
في إنتهاء تسجيل إله مصر خربتو المطلق لتاريخ الآلهة. نجد أنفسنا في منتصف الرواية.
يصيبك هذا الجزء بتشويش كبير، فقرات كاملة من العبث ستنتزع الابتسامات والضحكات من البعض، هناك تقاطعات كثيرة بين سير الآلهة وسير حكام ديكتاتوريين عرفتهم مصر طوال خمسة آلاف سنة، غالبتهم  كانوا آلهة بالفعل، والباقي تعاملوا بصفتهم آلهة حتى وإن لم يعلنوا ذلك. 
لكنها ليست رواية عن الديكتاتور المجنون على طريقة كتاب أميركا اللاتينية. يخدعنا ربيع في البداية بالكثير من النكات الساخرة، وتنكيله بكل تصورات الهوية الوطنية المصرية وهو الأمر الذي رأيته في روايتيه السابقتين “عام التنين، وعطارد”. فنظن أن الرواية امتداد لأعماله السابقة بنفس ساخر وعبثي أكثر، لكن مع بداية الجزء الثاني ننفتح على قصة بسيطة لأسرة أستاذ جامعي يكافح بين الحب والالتزامات العائلية وطموحه البحثي في واقع سياسي مضطرب، يغرقنا ربيع في ما هو أعمق من السخرية من الحكام وتصورات الوطنية لنقف أمام المسخ الذي تخلقه مصر منا.
النصيحة الوحيدة التي أوجهها لأى قارئ للرواية، أن يتعامل مع النصف الأول منها كنكتة طويلة نسبياً، أو طعم في الصنارة يكشف حقيقته حينما تلتهمه، فيجرك ربيع إلى الجحيم الحقيقي الذي يبدأ في النصف الأخير من الرواية.
يوصل ربيع أجزاء الجثة، فينتصب المسخ في مواجهتك. وليس السؤال ما الذي يجعل من الديكتاتور إلهاً؟ بل ما الذي يفعله الديكتاتور الإله فينا، وكيف يصنع منا مسخاً.
أن الحقبة التي نعيشها الآن، لا تشبه بأي شكل حقبة الديكتاتوريين العسكريين العرب لما بعد التحرير. ليس هذا عصر صدام أو بيونشيه. حيث الديكتاتور رجل عسكري يتخفى خلف ايديولوجيا ما، ويبحث عن شرعية لحكمه من خلال الحرب أو تغيير البنى الاجتماعية في دولته. بل وصلنا إلى مرحلة قوامها الهذيانات والبشارات والرؤى. ديكتاتور اليوم يرى أحلاماً ورؤى، وينير الرب خطواته ويرشده إلى الطريق القويم، ولا ينتظر دراسات الجدوى لعمل المشاريع، ولا ينكل فقط بالمعارضين السياسيين. بل ينكل بالجميع صانعاً من دولته خرابة كبيرة بداخلها مول وعاصمة مسورة يعيش فيها، بينما الجميع خارج السور يطلبون الرحمة منه.
كل هذه العبث والنقلات السردية والتحولات الأسلوبية في الرواية تأتي منضبطة في لغة فصحى سلسلة، في امتداد لالتزام محمد ربيع الأبدي باستخدام الفصحى حتى في الحوار، والحكي والبعد عن التنظير أو استعراض الأفكار، مما يجعل “تاريخ إلهة مصر” عملاً جريئاً تجريبياً في مضمونه وبنائه، سهل الهضم يذوب في الفم أثناء القراءة بسلاسة.

مقالات من نفس القسم