بين دفتى دفتر النائم: رحلة الحياة والموت

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يثير الدفتر دلالات عدة، فهو الحاوى لمعلومة أو اعتراف أو سر؛ فكيف به إذا كان مرتبطًا بالنائم؟

فى مجموعته القصصية الجديدة " دفتر النائم " يمد القاص " شريف صالح " فى صور الحلم الرمزية مفاتيح أسراره للقارئ المتأنى، ويقدم قناعاته وآراءه فى ما حوله فى إطار سردى يرتدى زيًا فانتازيًا ساخرًا، ويبوح بجذور رغباته الآثمة، و يطمح إلى استعادة طفولته المبتغاة مقاومًا الزمن الذى لا يقهره الكائن فى يقظته. 

إن دفتر النائم – أيضًا – يتطلع إلى معرفة المستقبل اعتمادًا على تحرر الحالم من ضغوط الزمان، والمكان، وقوانين الجاذبية، فنراه فى قصة ” حامل الدفتر ” يبوح برغبته تلك. مؤازرته فى أمنيته هى الفعل الدال على جذور الحلم الإنسانى عامة باستكناه المستقبل. إن جمال الفن لا يأتى كثيرًا من الغرائب، ولكن مما هو مشترك بين البشر جميعًا، وتؤكد إدارة الصراع مهارة كل سارد على حده. إن حامل الدفتر لا يمنح البطل الوقت ليفر دفتر حياته؛ ليدلل على أن المستقبل لا يرسمه فرد واحد لنفسه فى فضاءٍ خاوٍ، ولكن تحدده إرادات شتى، وصراع محموم بين رغبات وأفكار وتطلعات متباينة داخل إطار زمنى محدود لكل فرد، ولعل هذا هو الهاجس الأكبر للقاص فى مجموعته الجديدة..

لا تنقل دفتر النائم رحلة الحياة والموت بشكل طقوسى، أو متعمد، ولكن داخل نسيج سردى من مشاهد تتوسل الحلم وسيلة، والنوم قانونًا؛ لامتلاك حرية أكبر فى التجول بين الماضى والحاضر.. بين الرغبات الآثمة والنفاد من اللوم.. بين آرائه وأفكاره حول أناس يتسمون بالجدية والسخرية منهم بكشف زيف عاداتهم وقوانينهم.

يحضر المجاز بقوة لا فى بناء السرد ولكن فى المضمون الكلى، فالمجاز يعادل الرمز الحلمى مع حضور لافت للرموز والتى هى الشفرة الأساسية لأى حلم. فى القصة الأولى ” رحلة النهار والليل ” يتحرر الحالم من مخاوفه مستدعيًا الطفل القديم الذى كانه؛ ليبدأ الرحله مع أبويه مسربًا من خلالها ذلك الحزن الذى يخلفه كبح الرغبة، وكذلك الحزن من الفقد.. والفقد تتعدد مستوياته هنا من فقد الأم والأب على التوالى إلى فقد الطفولة نفسها تلك التى كانت تتعلق حينذاك بأعواد البوص؛ كى لا تكون مضطرة إلى خوض غمار الماء فى الأعماق، فتتعرض لفقدان الحياة نفسها.

ثمة هزيمة أولى أمام الزمن الذى ينقضى فى طرفة عين: ” كنت أسير بين أبى وأمى، مشيت وراء أبى متراجعًا خطوة أو خطوتين حتى لا يلكزنى فى صدرى كلما أغضبه شىء. كنت أرى جسده يزداد انحناء، وشعره يبيض ويتساقط إلى أن وقفنا أخيرًا على حافة النهر ” ص7.

يتجلى قهر الزمن لشخوصه – أيضًا – فى ترتيب القصص نفسها، فدفتر النائم يضيع فى القصة الثانية من ذاك القطار الذى تحول إليه البطل فى الحلم. مع الدفتر تضيع أشياء أخرى كثيرة: قطة البطل البيضاء، وخاتم جده المنقوش عليه رسمة أبى زيد الهلالى، وحبيبته نفسها التى لم تلحق به فى هيئة القطار الذى كانه؛ ليجعلنا واقفين أمام مراوغة الترتيب القصصى من ناحية، وأمام مرثية الزمن من ناحية أخرى.

المراوغة يعلن عنها مبكرًا؛ ليجعلنا نعيد ترتيب حساباتنا ومفاهيمنا، فالأحلام المسرودة هنا فى المجموعة فى قصص متماسكة ليست من مادة أحلام النوم فقط دون تدخل واع منه، ولا يجب أن تستسلم لهذا الهاجس، وإن كانت سمات الحلم من تداعى الصور، وتحولاتها، وانقضاء أزمنة فى لحظة، مع حضور سردى لقاص واحد هو الحالم نفسه متوفرة فى القصص، لكن هناك مع ذلك بناء سردى للقصص يعتمد رسم المشاهد والشخصيات والمواقف بتفاصيل دقيقة أحيانًا، ويصور المشاعر فى كل موقف كذلك. كما يتخلى عن اضطراب السرد وانقطاعاته فى لحظة، ما يؤكد أننا أمام رسم واع استدعى القاص فى كل قصة منها جزء من الحلم وقام بعملية إضافة وحذف؛ ليرسم دلالة ما داخل متن كل قصة محبوكة بتفاصيل وشخصيات ورموز محددة. أى أن التراتبية السببية موجودة فى كل قصة، وكذلك لغة حوارية تواصلية لا انقطاعية كذلك، مع حبكة إطارها تلك الصور المستدعاة التى يصف القاص بعض تفاصيلها وتحولاتها بدقة.

يعد الفقد عاملًا رئيسيًا بين غالبية القصص، وليس الفقد بالضرورة إراديًا، ولكنه ذلك الفقد الذى يفرضه مرور الزمن على الجبين والمصائر. كما تظهر غالبية القصص كصور مختلفة لشىء واحد، فهى فى النهاية حلم شخص أخلص تمامًا لرغباته، وأحلامه، وأمنياته، وانتقاءاته، فنرى الأب يظهر فى وجوه أبطال آخرين فى قصص عدة. يتم استدعاؤه عبر سارد يرى صورته فى وجوه آخرين دون أن يبوح بذلك؛ ليرسم صورة وظيفية، وصورة مجازية كلية لهذا الأب الذى يظهر بسمات أبوه تكبح الرغبات آنًا، وتحتوى مخاوف القاص أحيانًا أخرى وصولًا إلى معنى الأبوة الميثولوجى كقوة عليا خالقة يرغب الإنسان نفسه فى الشب عن طوقها، والاعتماد على قدراته بعد أن يمتلك وسيلة سحرية تعينه على ذلك مصارعًا الأب نفسه؛ لضمان السيادة التامة على مصيره كما فى قصة ” ابتسامة بوذا “: ” كانت العصا السحرية تضيف لى المزيد من الدمى والأشياء فى أى وقت فلم أعد بحاجة إلى هدايا الرجل الذى قررت أن أقتله. وكانت قد مرت سنوات طويلة جدًّا على المرة الوحيدة التى رأيته فيها وهو يضرب أمى.. مع ذلك، وبلمسة من عصاى السحرية، حولت أبى إلى ” الجولوم سميجل ” بطل فيلم ” سيد الخواتم “. أصبح منظره بشعًا وذليلًا أكثر مما تصورت. ” ص 74

لعل المزج بين السارد العضوى فى كل القصص وشخص الكاتب أمر محبذ فى هذه المجموعة بالذات، بل ومنطقى فى ظل قصص ترسم أحلام كاتبها؛ للوصول إلى ذلك النوع من القراءة الذى يتيح استكناه أسرارها البنائية، ويستكشف دلالاتها المضمونية؛ علنا نرى صورة أوضح لما يخبر به الكاتب قراءه جماليًا والوسائل التى يتكأ عليها لذلك. ولعل تلك الوسائل تبزغ فى مواءمته بين شكل القص ومضمونه أولًا، ثم بين ترتيب قصص حاول هو أن يحطمه فى البداية؛ ليكسر التراتبية الزمنية الكلية، وعبر استدعاء الطفولة ورموزها، ورغباتها الخفية، ومفرداتها، أو التعبير عن افتقادها هربًا من عالم موحش.

ثمة لغة ترسم الحركة، والإحساس، والتحول، والرغبة، بجمل قصيرة. دالة. لا تقف عند تشبيه أو مجاز. وليس هذا هدفها، فالحلم أو القصة التى تتخذ الحلم وسيلة مضمونية هنا لا تلجأ إلى مجازات، واستعارات أخرى قد تعطل التعامل الفنى الكاشف معها.

تعبر حكايات الطفولة نفسها ومفرداتها عن فداحة مرور الزمن على السارد، ففى الطفولة يكمن الخلود، وامتلاك عالم سحرى. برى. لا التزامات فيه أو قوانين سوى التزامات اللعب بالعالم، وإعادة تشكيله ليظل صالحًا؛ لمنح المتعة دون ثمن. يستدعى البطل فى قصة ” كوخ ست الحسن ” طفولته وطفولتنا جميعًا بإعادة الاعتبار لمفردات الحواديت فى عالمنا الحديث الذى أكلت مفرداته حوائط الأسمنت والحديد والزجاج. هنا كوخ يطل على النيل. تكسو حوائطه الأزهار البنفسجية، وتتمدد حوله سجادة أخرى من نباتات مبهجة، وبالقرب منه طائر أبى الحناء، وبضع نحلات تطن. ثمة تصاعد فى الاكتشافات، فالقاص يرى الكوة التى تطل منها ست الحسن لتراقبه، والزير الذى تجلب منه الماء لتسقيه، والريش الذى يتطاير على إيقاع الأغانى التى يسمعها، وهى ليست اكتشافات بقدر ما تشبه انبعاث الأمنيات من مكمنها حين رأت كوخ حواديت الطفولة، وما نبتة ست الحسن التى تزهر بين درجات خرسانية لبيت مهجور كذلك وتعهد القاص بريها سوى انتصار لهذه الطفولة المستعادة فى الحلم، ومنحها القدرة على العيش رغم الزمن الذى لا يكل عن الزحف بقسوة على كل شىء مخلفًا آثاره المدمرة التى تبزغ أحيانًا فى صور مبان وأدوات حديثة لا تقدم للإنسان عزاءً عن أيامه التى تمر، وكوخ حواديته الذى ينهار.

يتم مقاومة الزمن وآثاره بأكثر من وسيلة. كأننا أمام مرايا مستوية، ومحدبة، ومقعرة، بأحجام مختلفة أيضًا لمعنى يلح على نفس الكاتب فيبزغ بأحلامه فهو يتجنب التقاط صورة فى قصر الأموات فى قصة تحمل الاسم نفسه ” قصر الأموات ” . ” لا أعرف لماذا كنت الوحيد الذى تجنب بشدة التقاط أى صورة له؟! ” ص18. وبعدها بفقرة واحدة يقفز من السؤال الاستنكارى إلى بث الحياة فى سكان القصر، فنراهم عبر رغبته الحلمية يتحركون. يضج القصر بأنفاسهم، وأصواتهم، وظلال أجسادهم وهى تصعد السلالم كمرشدين سياحيين للضيوف. هذه الرغبة بقهر الزمن الذى لا يقهر هى ما تحفز القاص على التغلب على مخاوفه، فيدخل القصر وحيدًا مرة أخرى؛ ليسترد زر الجاكت الذى فقده فى الداخل حيث كان هدية من أمه.

إن سحب الزمن جماليًا إلى الوراء يعنى دلاليًا رد العناصر إلى معناها الأول الذى يحقق انسجامًا وسلامًا بين الكائن والطبيعة، فأى امرأة هى أم كما فى هذه القصة، وأى جمال هو فى عناق الطبيعة الأم ومفرداتها البرية الأولى كما فى قصة كوخ ست الحسن، وأى نهر هو اختزال لحركة الحياة نفسها كما فى القصة الأولى.

تتعدد عوالم القصص ودلالتها كما قلت فى البداية، فثمة رصد لعالم متناقض لا يرى تناقضه هذا ولا يريد أن يراه، بل يضع له قوانين تحمى مكاسبه دون أن يأبه لأى فئة أخرى من الناس، ويكون الرد القصصى فى رسم صورة حلمية ساخرة، فالسخرية التى يحملها بناء حلمى فانتازى أنجع فى كشف هذا التناقض، وفضح قلب المعايير المنطقية باسم فئة بعينها، أو باسم الفن، أو باسم العادات والتقاليد. إن هروب الجسد فى قصة ” هروب جسدى ” كاشف لهذا الصراع الدائم بين الظاهر والباطن. بين السمو وضغط الرغبات. وفى ” حقك من الدنيا ” يصل الإنسان إلى محاكمة متطرفة فى أحكامها على جرم صغير. ما يشير صراحة إلى فداحة الموت مقارنة بحياة قصيرة لا تعطى الإنسان فرصة لمتعة. وفى قصة ” حفلة عربية ” يتم تسليط ضوء باهر على عقلية تدعى المثالية والشفقة والرأفة بالناس بينما البذخ يحوطها والإدعاء يحركها. ثم هذا الرصد لفقدان التواصل والاهتمام بين الناس وبعضهم البعض رغم وجودهم فى هذا الحفل جنبًا إلى جنب. وفى قصة ” مملكتى مقابل امرأة ” تبزغ الخلافات الثقافية المصنوعة بين كتاب القصة والرواية. وفى ” شقة الحفيد الأمريكى ” هذا القلق الذى يحوط خطى الكبار من فقدان ما يملكون. وفى ” تهريب جثة ” فدائح الهجرة غير الشرعية، غير أن قصة ” الخالة اليابانية ” فى هذه المجموعة تبدو نشازًا، لأنها تخرج عن سياق الحلم رغم توسلها إلى ذلك بنهاية فانتازية.

فى النهاية ومع استكمال رحلة متنوعة الرغبات، والتطلعات، والكشوفات نصل إلى ” بحيرة الطين “: مادة الإنسان الأولى ومنتهاه، وصورة فى مرآة أخرى لقصة ” رحلة الليل والنهار “، فهى ” بحيرة الطين ” ترصد رحلة الحياة من مبتدأها حيث اللعب، والغفلة عن التاريخ الماضى، ثم الصراع، ثم الغوص مرة أخرى فى بحيرة الطين مع غياب الأب والأم هنا حيث التأكيد على أزمة الإنسان، الفرد الوحيد فى مواجهة تفاصيل الرحلة، وكابوسيتها، وصراعه مع رغباتها الملحة، وكذلك مع الزمن الذى يجرى بلا هوادة، وأن تلك الرحلة كفيلة باستبطان معان وتأملات إذا ما أخلص الإنسان لرصد أحلامه، وأفكاره، ومنح المعنى من خلال الحلم، والتأمل، والفن مُتخذًا من الأصوات المطمئنة بالفوز حافزًا للمواصلة فى رحلة لا تتكرر مرتين.

مقالات من نفس القسم