بين الاستعباد الجنسي والاستبداد السياسي.. صورة الجلاد في رواية “حذاء فيلليني” لوحيد الطويلة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مليكة أبابوس

تقف شخصية الجلاد في رواية “حذاء فيلليني” للروائي المصري وحيد الطويلة في مفترق الطرق بين خطابين الأول سياسي والثاني جنسي، ويتحد الخطابان في كلمتين: المتعة والمعاناة، وقد صنفت هذه الثنائية، أي المتعة والمعاناة، ابتداء من القرن الثامن عشر بالسادية (نسبة إلى الكاتب الفرنسي الماركيز دو ساد) التي يبني فيها الشخص متعته على معاناة الآخر وألمه وإلحاق الأذى به.

هذا التفاعل والارتباط بين المجالين كما قلنا، ملفت للنظر في الرواية إلى درجة أن مايقع في القبو لا يختلف كثيرا عما يقع في المخدع أو غرفة النوم.

اعتقل مطاع، الطبيب النفسي والشخصية المركزية في الرواية ووجد نفسه في قبو يواجه جلاده الذي يمثل العدالة الرسمية التي تدينه بدون أسباب أو أخطاء واضحة. تعرض مطاع لكل ويلات التعذيب التي لايمكن للقارئ أن يتصور أن الإنسان قادر على اختراعها والتي يقول عنها الكاتب في وصف فني غاية في الجمال والدقة على لسان الشيطان في أحد فصول الرواية: “لا تشوِّهوا الشياطين، أكبر لطمة لنا في تاريخنا المجيد حين تم اختراع آلات التعذيب، يومها لم ينم أحد من الشياطين، ثلاث سنوات شيطانية متصلة ونحن متيقظون دون نوم، شعرنا بالعار والخذلان، كدنا أن نقوم بمظاهرة لولا أن التظاهر سيودي بنا إلى المجهول، وربما رمانا جميعاً إلى الكواكب البعيدة عقاباً لنا”(ص 111).

يواصل الشيطان كلامه لمطاع مستغربا المستوى الهمجي واللاإنساني الذي يتصرف به الانسان: “كيف يطيق كائن إنساني أن يسمع صراخ الألم؟ أنتم قتلة يا مطيع، أنتم تعذبون بعضكم بعضا”.

تبدأ عمليات الإيلام والاذلال من الصفع والركل، وتمر إلى أعتى تقنيات التعذيب، منها تلك التي تتطلب تدخل الجلاد بشكل مباشر، وتلك التي يترك فيها الجسد يتحطم دون أن يجهد نفسه، كوسائل التعليق المختلفة، والتجويع والاختناق في زنازين مزدحمة، وطرق أخرى أبدع وحيد الطويلة في نقلها للقارئ العربي بلغة تتداخل فيها تقنيات الرواية مع حركات الكاميرا ويتحول فيها القارئ إلى مشاهد داخل صالة عرض تمتزج فيها الصورة بالصوت لتكتمل عنده حقيقة ما يقع في السجون والمعتقلات خاصة منها السورية بما أن أحداث الرواية تقع في سوريا.

يقول الكاتب السوري ياسين الحاج صالح الذي قضى سنوات طويلة داخل السجون السورية: “في أوراق كتبها بعد 15 عاماً من السجن، وقبيل وفاته بالسرطان في صيف 1996، ذكر رفيقي رضا حداد أنه، وقت اعتقاله في تشرين الأول 1980، تعرض للتعذيب على يد علي دوبا وهشام اختيار، وهما من كبار أمنيي النظام منذ ذلك الوقت. وتعرضتُ شخصياً للصفع من رئيس جهاز الأمن السياسي في حلب، نديم عكاش، وقت اعتقالي في كانون الأول 1980”.

لا يتورع احد من أجهزة الجلد العام عن إيقاع الألم بالمعتقلين وتعريضه لأقسى درجات العنف، لأن معيار الأداء الجيد هو عدد المباحين للجلد، و«اعترافات» المجلودين.

لا يكتفي الجلاد بالعنف الجسدي بل يستعمل كذلك العنف اللفظي الشديد، الذي يستهدف كرامة المجلود. ويستمد هذا العنف لغته واستعاراته من قاموسين بصورة شبه حصرية. قاموس «حيونة الإنسان»، وفيه يوصف المجلود بأنه حيوان، (كلب، حمار بغل…) أو حشرة والقاموس الثاني أُبشع من الأول ويستهدف عرض وكرامة الضحية. ويذهب الجلاد إلى أبعد من هذا حيث يسلب المجلودين أسماءهم التي تعبر عن هوياتهم وقضاياهم وذلك من باب إنكار ومحو أثر لأي قضية لهم. هكذا نرى ان الجلاد سيستبدل اسم مطاع باسم مطيع وهو اسم تحقيري بكل ما يحمل من دلالات الخنوع الخضوع.

يقول الشيطان مخاطبا مطاع بعد خروجه من السجن:

– الشيطان لا يمكن أن ينزلق إلى هذا المنحدر الرديء، لا يمكن أن يسوِّل لواحد تعذيب آخر، ستقول لي: إن الشيطان ملاك والملائكة يعذبون، لا بأس، يفعلها هو، لكنه يأنف أن ينيب أحداً مكانه، للشيطان عهد وميثاق، هو سيد قد يقض مضجعك بما شاء، لكن أنفته وشموخه ومقامه العالي تمنعنه أن يوكل أحداً بجريمة كهذي بدلاً منه، هذه كبائر وخطايا وليست مجرد جرائم.

هو لا يريد وكلاء، هذه ذنوب لا يقدر عليها، تمنعه مكانته وهيبته من اقترافها، يمنعه احترامه لقدره من مجرد التفكير فيها، المعارك والتعذيب أنتم شياطينها أيها البشر”

لم يكن مطاع وحيدا في القبو. الاعتقالات تطال الجميع رجالا ونساء بالجملة ولا تخضع إلا لهوى أجهزة الأمن وضباطه:

“- عقلي يكاد يطير، ضابط يقيم وحده سجناً حكاية تصلح في فيلم، في خيال فنان مجنون، لكنها حدثت في الواقع وباختراع رجلي الذي ينام في سريره أمامي، كان الطعم جاهزاً ولم لو يكن جاهزاً لاخترعه، والمرشحون لأدوار البطولة كل أفراد الشعب، كل من لا يثبت ولاءه بالتأييد حتى الموت، والعناوين كثيرة فضفاضة والتهم جاهزة: الزنادقة، الشراذم، إضعاف الشعور القومي، الوهن من نفسية الأمة، اللحى التي نبتت في الذقون، الذين نبتت لهم لحية ولو كانت في المؤخرة، منذ مجزرة حماة صارت الهاجس الأول للدولة”.

إن مُجمل العاملين في هذه “الأجهزة الأمنية” ومنهم الضباط يشكلون ما سماه ياسين الحاج صالح الجلاد الجمعي، فهو يستبيح أجساد السكان، لا يحميها منهم شيء يقومون بوظيفة الجلد العامة وعلى رأسها زرع الخوف والرعب في النفوس واستيلاب الحقوق الأساسية والسياسية وإخضاع الكل بالقوة. وحتى يكتمل عمل الجلاد الجسدي، يتولى الجلاد الثقافي والجلاد الإعلامي…. في نطاق الثقافة والإعلام والفكر والفن، مهمة الحراسة والترويج لأفكار الطاغية وقيمه. هكذا تصبح شخصية الجلاد هي الحارس على الطغيان وضامن دوامه وإعادة إنتاجه وتعميمه وتوزيعه بمقادير وافية على السكان. يقول الكاتب على لسان مطيع:

-“بالمناسبة، الشرذمة تعبير لطيف صكَّته أجهزة حمايتنا لحمايتنا من الآخرين وبالأحرى من أنفسنا.

-صحيح أن العقيد القذافي وجد من يخترع له تعبير الزنادقة، لكنه تعبير قديم يليق بالأفاكين في العصور الغابرة من تاريخنا المجيد، أما الشرذمة فجديد تماماً يليق بالخونة منا ويفهمه الجميع من الأمي إلى المثقف، وإذا ما تم استخدامه في الصحف ونشرات الأخبار فإنه يؤتي أكله في الحال، لدرجة أن البعض يكسر شاشة التليفزيون من قوة ارتطام الأحذية بها حين يظهر المذيع بلهجته الفخيمة وقرار صوته الموغل في الإيحاء به، ليدغدغ غدد النضال المتوفرة بكثرة عندنا.” ص. 11

كما هو القبو والسجن، يتحول البيت إلى مساحة للاستبداد والفظاظة والتعذيب النفسي والجسدي وتكون فيه الزوجة هي الضحية بكل المقاييس.

تقول زوجة الضابط الذي كان مسؤولا عن تعذيب مطاع :

“رجل ينام معي كأنه ينتقم من آخرين، كأنه ينام معهم هم ويفرغ شحنته داخلي، كنت أنا من تلعب دور الدوبلير دون دراية مني، ألعب نطَّة الأرنب نيابة عن المساجين، أنام القرفصاء ليأخذني بغلٍّ بدلاً منهم أو كأنهم تجسدوا فيَّ، يرى وجوههم محل وجهي”.

تواصل اعترافاتها قائلة :

“لم يعرف مرة واحدة معنى الحنان، الطغاة في الأفلام وفي الكتب يقبِّلون زوجاتهم ويلعبون مع أطفالهم، لم تقترف يده لمسة ولو على سبيل الخطأ، كأنه يؤدي مهمة قومية، قد تتزوَّج امرأة غصباً أو على غير إرادتها….. لكنني مرعوبة، ما زلت خائفة أن يعود، سأظل مرعوبة ولو قتلته، البيت كان قبراً لي…. يتعامل مع الجنس كأنه معركة، ومع جسدي كساحة حرب”.

إذا كان الجلاد في الخطاب السياسي هو وحده الفاعل والعارف ومالك الحقيقة، والغير كلهم تابعون، بلا قضية، فالنساء عنده عاهرات، أي أيضاً لا قضية لهن، تشييئ المرأة وتختزل في جسم مشحون جنسياً، مجرد أداة للمتعة فهو يمتلك ويغتصب:

“معظم الضباط لا يريدون سوى الفلوس والنسوان، ينبشون الجيوب والأجساد، يرمون جثثهم، يحصدون الطاعة ورائحة الأفخاذ” وكما اتخذ الجلاد شقة سجنا خاصا اتخذ وأخرى مرتعا الغرام (ص. 83) ولمغامراته مع نساء أغلبهن من عائلات أولئك الذين رمى بهم ظلما في سراديب السجن.

لا يكتفي الجلاد بانتهاك جسد زوجته وإذلالها بل يعطى نفسه دور الذكر الفحل الذي ينتهك طوال الوقت ما يخص المعتقلين والمعذبين من إناث كامهاتهم واخواتهم و بناتهم…. أو المعذّب نفسه.

تقول جارة مطاع بانكسار: “إن ضابطاً رمى عليها رقمه حين كانت في مقهى مع صاحبتها وإنها ارتعبت وزمَّت خيوط حذائها، وأنه عاد ورمى ثانيةً بعين متوعِّدة وإنها ابتسمت وإنها خافت وإنها استسلمت”.

يكاد لا يخلو ذكر أي ضابط/جلاد داخل الرواية إلا وهو مرتبط بمشهد لا أخلاقي، فهم أوغاد أكثر منهم ممثلي للأمن الرسمي أو المهمة الأمنية الموكولة لهم. تصدع في الأخلاق انحلال وفظاظة في كل مكان، متروكون لرغباتهم الحسية تتحكم فيهم تديرهم بكل قوة ووحشية تحولهم إلى جلادين ووحوش سواء في القبو أو المخدع في السجن أو غرفة النوم يتحول كل فضاء يتواجدون فيه إلى مكان للتعذيب لا يخضع لأي قانون غير خيال ووحشية الجلاد وبحثه المستمر عن المتعة وكلما أصبحت اللعبة ماسخة لا طعم لها كلما اجتهد في البحث عن طرق اخرى لادلال ضحاياه. تقول زوجة جلاد مطاع:

-“هذا الرجل انتهكني طول عمري، اغتصبني كل ليلة مكنته فيها الطبيعة البشرية، لم يعتزلني يوماً إلا في الإجازات”.

إن شخصية الجلاد السياسي أو الجنسي شخصية مرضية مهيمنة قاسية وسادية، وقد نجح وحيد الطويلة بشكل كبير في المحافظة على قدر من الاتحاد في المعاجم المستخدمة، حيث استعمل نفس الكلمات لوصف هاتين الشخصيتين في المجال الحميمي والسياسي، وبرع في رسمها لتكمل فلسفة الجلاد في المخدع ما قام به في السجن وبعبارة أخرى يعيد توحيد المجالين السياسي والجنسي ويعمم وظيفة الجلادين، الذين يتدخلون في جميع المجالات.

وتبقى السمة الجوهرية للجلاد، ورغم محاولته انتحال حداثة ما، هي البحث عن السلطة، التملك والاغتصاب، التحكم والاحتكار.

 

مقالات من نفس القسم