“بطنها المأوى” لدنى غالي: التركيب الخاص والسلوك الظاهر

موقع الكتابة الثقافي writers 73
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هاشم مطر

بفقرات وكأنها من نصوص متفرقة تخص اسمين مريم وعامر، تبدأ دنى غالي روايتها الموسومة (بطنها المأوى) الصادرة عن دار المتوسط2017، وكأنها تعلم مسبقا بأن نصها سيحتمل الكثير من العنف، بمعنى الانفعالات، فآثرت او اختارت أن تخفف من جهد النص فعهدت الى جمل اسمية قصيرة منذ البداية. ساعد ذلك بإبطاء حركة النص المندفع والمتداخل بعدد من المرفقات، الهجرة، الحب ولوعة البعد عن منشأ الطفولة والصبا، والكثير الذي أعطى الكاتبة مداخلَ للاختيار في تطور عملها سنراه تباعا.

لا بد من التنويه أولاً اننا امام سردية غير مألوفة بعض الشيء، وهذا بطبيعة الحال لا يشجع القارئ الذي تعود على نمط سردي قدمته له، أو اعتاد عليه مع روايات كثيرة جداً منها كلاسيكية واخرى حديثة تناصت بأسلوبها مع الأولى. لكننا سرعان ما تحتوينا تلك السردية بكثافتها وتنقلاتها. واذ نحن لسنا في وارد المقارنة فأننا سنتعامل مع نص دنى غالي كونه تجربة سردية حداثية في عدة جوانب، وسنقوم بمرافقة تطبيقية غير منفصلة عن المبحث النظري عموماً. وعليه، ربما سيواجه القارئ بعض الجمل المركبة الطويلة، راجين صبره وقراءتها بروية.

بعدد من المصادفات أو الرغبة في حدوثها في محطة قطار أو مطار في بلد غريب، تتصاعد المشاهد المتخيلة لرؤية عامر لمريم، والعكس كذلك. مع ابتكارات فنية أصفها بالصوت وصداه في زمنين مختلفين هما زمن البقاء وزمن الهجرة والفناء. بحيث تعمل تلك الفواصل، التي اجنح لوصفها بالمتخيلة أكثر من واقع يحصل، على شحذ الأزمة «كيف لا والأم ولدتها على أرضية سجن»، ثم عامر «لا يعرف كيف يلاعب ابنة الكلب الدنيا». بهذه العقدية تنطلق الشخصيتان لترسيم ملامحهما الأولية ليس كتوصيف كلاسيكي، وانما بنائي صرف بحيث تدخلنا الكاتبة اجواءهما النفسية بيسر، وهما يبحثان عن بعضهما بعضا في كل نسق واتجاه، مع رسم متخيل متوقع للقاء ما: «يلوح لها من بعيد. مريم. تخترق رائحة عَرَقها أنفه، فتسري رعشة في بدنه، ويتصلب وسطه…». أما مريم تتسائل «ماله يتخيلها في أمكنة أخرى يألفها، بين قطارات هرمة…»، وعلى هذا النحو يتبادلان ادوار الدهشة وإلى أية وجهة يتجه الآخر «هل قرر العودة أخيراً…».

جعلت دنى كل هذا الضخ الوجداني بعدد قليل من الصفحات، لتدخل الى مستوى الرواية الأول، بفصول قصيرة ذات عناوين شاعرية، على نحو استرجاع تعارف مريم وعامر في فترة طلبه اللجوء.. مع توظيف انساني لرغبات عاطفية محددة، لتنتهي الى تركيبية معقدة أولية في شخصيته هي الهروب «…يفتح الباب بلحظة، ويتقافز، ينهب درجات السّلم ليطلع خارج البناية إلى الشارع». ومع المزاوجة بين التأكيد الاسلوبي بطريقة إنزال الحبكة تقوم دنى بمزج بين حدث ما وبين حاجة تؤكد: إن فهم كيفية الرد على مظالم الحياة من حولنا، وايماننا بأن النتيجة ليست رهيبة مثلما نخشى على ما ستكون عليه من دون مواجهة، ستسعى الشخصيتان الى حلول فردية محضة، على الأغلب، أو على اقل تقدير، لإظهار عجز أي مجتمع يكونان فيه، حتى من دون توصيف، فالمهجر الذي رسمته دنى على لسان بطلتها مريم قالت عنه «المنفى بوصف ادورد سعيد». بل لربما ما تشهده «شبح عامر» هو ضرب من ضروب الخيال وجنوحه ليس إلا. هذا الاختلال الذي تضعنا فيه الكاتبة يطبع منذ البداية روايتها كونها حبكة سلوكية نفسية معقدة، وليست تتابع احداث ننتظر تطورها حسب. وهي بذلك رواية استرسال مفاهيمية تسير على وفق هضبية متموجة ليست قممية متصاعدة كما يحصل مع الرواية التقليدية.

نحن لا نعرف أين التقيا أول مرة! فقد جعلت دنى صدى الحياة يختلف، بل ينقسم على نفسه، وربما ينشق عن احداث ليست بالضرورة تتابعية صرفة، ولكن على كل حال سنتخذ من مدخل اللقاء الأول بين عامر ومريم أول مبحث سردي للمتابعة. يحصل ذلك بحكم عملها على ما يبدو في احدى مراكز اللجوء في احدى البلدان الأوربية، تنجذب اليه لسبب غير واضح، على الأغلب سبب حسي «له شفتان ورديّتان طريتان، تثيران شهيتها لتقبيله…»، ثم تلتقيه في مقهى ليحدثها عن فتاته (تينا)، «انه يعشق صغيرة شقراء…». بهذا المدخل الذي اربك مريم حاولت دنى استخدام شاعرية انيقة، مع حورات قصيرة جداً، مدغمة بعض الشيء، تحسباً لعدم كشف الشخصيتين الا بما يوفره النص من تقتير محسوب. مريم الأنثى الدرِبة تختصر احاديثه عن حبيبته تينا ورضاها «قل عندما تشبعها… صدقني لا تريد منك غير هذا». في وقت يرى عامر الأمر على نحو متقطع غير واثق «هل تركتك» تُكمل!. يجيب «ليس تماما» فيغادر؛ فهزيمته على ما يبدو تنمو في اتجاهات مختلفة. أما انفعالاتها فتترتب على نحو تبقيها بينها وبين نفسها، تقشر اظفرها بأسنانها، تسخط على من يجاورها وتلعن بسرها، وتصفق باب سيارتها بعنف… وبهذا رسمت دنى ملامح اولية مهمة لكلا الشخصيتين المتقابلتين المتباعدتين، فيكون بوسعها لاحقا خلق الفجوات الضرورية وردمها متى شاءت ضمانة لنص متنقل غير متجانس من حيث ترتيب الحبكة، كما سنرى، تترك للمتلقي أمر احتوائه، بل وحتى تأويله الزماني والمكاني.

تستمر دنى في خطتها بإدارة نصها، فتعكف على رسم شخصياتها سردياً، ليس توصيفيا، تباعاً مع الحدث، وبقدر ما يتعلق الأمر بماضي مريم تدخل الأم كشخصية باردة يلفها الصمت، بل تسرح «باهتة على الجدار لساعات»، وكأنها من خلال افعالها اليومية البيتية تداري نقصا ما او وضعاً نفسياً حملته في مشاق حياتها. بما في ذلك نوعية العلاقة التي ربطت الأم بابنتها. ومع هذا التوصيف نلاحظ انسجام السرد الذي اختارته الكاتبة والذي يبدو للوهلة الأولى نوعاً مغاليا في التجديد، غير أنه يدخل في وحدات الحياة بيسر وسهولة ليرسم تاريخَ أو نسيجَ حاضر وماضي، فيبدو التداخل الضمني من بيئة النص، فتحيلنا دنى الى واقع طفولة مريم «تفل ضفائرها، وتحرّر شعرها حال عودتها من المدرسة. تظل وحيدة لحين قدوم أمّها الموظّفة…»، مع افعال اخرى للبنت تنم عن بحث متواصل لأشياء ضائعة أو مخفية. بحيث تبدأ الحوارات بالتداخل في فصل واحد تنقص إلى فقرة واحدة لإشباع زمنين، فعامر يروي كذلك صوته الغائر بماضي الأشياء «…تخيّلي لهيب الحطب طالعا من الفوهة، والشمس غاربة…» بسرد توصيفي عن حياته مع أمه التي تلقم الخبز في تنورها المشتعل. غير أن هذا لا يكفي، فما يهم مريم هو مقارنته خبز امه مع خبز تينا التي «يهمها أن يكون الخبزُ طازجاً…» فتصيح به مريم «…أيّ رجل انت؟! غباء تورّطك هذا. انتبه لنفسك، هي تستخدمكَ، هكذا هنّ كفاك حمقاً». يجادلها بطبيعة الحال ولا يهم اذا ما انتهيا الى شجار مؤقت.

ما يهمنا هنا هو كفاءة النسيج السردي في احتوائه عدد من الحبكات التي تبدو متناثرة، فتتجمع ليصبح النص من ثلاثة مستويات: الراهن، الماضي، وما بينهما مصحوباً بالمتخيل والتي تحيل الكاتبة بموجبه عدد من الموجبات بما فيها التجارب الصبيانية، بشاعرية مثيرة تكشف عن ايحاءات جنسية في بعض الأحيان. فعلى الرغم من الجو المتكلف في فصل (كون بأكمله ضياء) لكننا لم نر فجوة أو تعكيراً لواقع السرد، فجاء من بيئة واحدة لكن شاعريته فاقت التوقع. وعلى وتيرة الادغام الزمني المرتبك بين ماض وحاضر وما هو حلمي تسقط الكاتبة مضامينَ عقدية لشخصياتها، فالنص تصاحبه تحولات كتلك التي يصاب بها أي مهزوم وربما مريضاً نفسياً. هذا ما نراه في عدد من الفصول الأولى منها فصل (عليك ان تقرر، أن تحيا مثلاً). حيث يتداخل زمن طالب اللجوء بآني العلاقة مع تينا، ثم الاثنان بزمن مريم غير الموصف لحد اللحظة، إنما جاء كنسيج حسي يكمل التشظي في نفسية البطل، بل استخدمته الكاتبة كموجه لروايتها. عامر يلتقي الممرضة العجوز في مكتبها بالكامب وفي رأسه تخيلات عن حياة العجوز اليومية بل يجنح للقائها «…وما إذا تحب أن يزورها يوماً ليعد لها وجبة عشاء»، ويجد فيها ملجئً للهذيان عن احلامه، بل «يعتقد انه يحب امرأتين». حتى تكمل الكاتبة توزعه وشطحه فتسديه الى مشهد حلمي في باص يستقله، او لعله هو خيال آخر فتظهر له تينا، يلتقيها عارية تأخذ حمامها في بيتها، حتى «يوقظه السائق بهزّ كتفه هيا، ابحث لك عن بيت تنام فيه. عمل الباصات توقف». وعلى الغرار ذاته تسقط الكاتبة بشيء من الشاعرية والتورية والخيال لقاءه بمريم على نحو حلمي حسب، لتظهر مريم بتركيب شخصي معقد.

وفي نفس الجو تطور الكاتبة مصاب عامر الهذياني في فصل آخر من الرواية (هذا المعسكر سيُميتُك أيّها الطفل)ص84 -بطبيعة الحال بعد نقلات ستأتي تباعاً- بعد استفحال حالته بـ«صمته وعزوفه عن الخروج من الغرفة»، تشجعه الممرضة وتنصحه بالصلاة وتقول له «أنت بحاجة الى رحم، يا صغيري، الى بطن (..) دعنا نصلي، يا بني»، فيكون ذلك دافعاً له ليغمض عينيه ويغور في عمقه «لا صورة لأمه، ولا صورة لأبيه في رأسه»، خاله وزوجته الحاضران يعيناه. وعلى نحو ما في حاضره تختلط الصور في عمقه على نحو أسئلة تينا ومريم، زوجة خاله، أمه، أبيه، خاله، صور تتقطع فتمحو الفواصل الزمنية بين ماض وحاضر، كلاهما مبهم. وضعنا هذا المفصل هنا لنجمل الآتي:

لكي نفهم تحولات النص وسياقاته المختلفة علينا ان نفهم احداثيات الكاتبة، فلقد قلنا منذ البدء بأننا لسنا أمام رواية تقليدية بالمعنى الدقيق. هنا عدد من المشاغل الذهنية غير المنضبطة تتداخل وتتباعد لإنتاج شخصيتين هما عامر ومريم ثم شخصية بعيدة عن بيئتهما هي تينا، تشبههما من وجه آخر. بأمكاننا ان نضع كل شيء لحد الآن بمثابة التقديم الشخصي للسيرة الأولى، ولكن من المهم ان نتابع تطور الاحداث حتى وان لم تأت على نحو متناسق او متسلسل.

اما السيرة الثانية التي هي بمثابة الصدى فهي المشتملة على استرجاعات الماضي، وهنا تدخل شخصيات أخرى أولها الخال وزوجته وهما مطاردان على ما يبدو. وهذه نقلة استباقية للكاتبة نحاول فهمها بضوء ما قلناه سابقا حول ترتيب الحبكة غير المتجانسة التي اتخذت منها دنى اسلوبا أو سياقاً، او بالأحرى خطة كتابية تقنية كمناورة تتماشى مع حركية الرواية ذاتها. الكاتبة لا تقص علينا حكاية انما تريد منا أن نصنع الرواية فتدفع بالعقد الأساسية الى أولويات حسية نابضة، فتكشف عن صدى عامر طفلاً يشبه طفلاً ضائعاً بلا ابوين يعيش في كنف خاله الكتوم وزوجته اللذان انتقلا الى أحد الأرياف للتخفي، مع استرجاعات طفيفة عن ما المّ بالخال جراء التعذيب، لكنه لم يحظ بمحبة عامر، فيما كانت زوجته بمثابة الأم له. وهذه بمجملها مجموعة اشارات أو ايحاءات عن واقع ما زلنا نجهله لكننا اصطدمنا بنتائجه، وعلى ذلك يتشكل امامنا مبحث استرجاعي آخر سننهل منه وقت حدوثه، وان لم يحدث فأننا سنستعين على نحو تكميلي بمجساتنا بمساعدة النص بطبيعة الحال.

تستمر دنى بنظامها القصصي المتداخل من حيث تسمية الفصول كما اسلفنا، فتحاول أن تحدد مستويات نفسية أخرى إلى بطليها من خلال حوارات كاشفة عن عقد ونهايات مشلولة غير متحركة حتى في اشد اللحظات ألقاً. فهنا الأشياء لا تساوي معانيها بل اصبحت مستزادة ومتأثرة بمقدار الجرح أو حالة الهذيان، كجرح نفسي بليغ trauma لكلا البطلين. تقول مريم في حوار داخلي حر لعامر«…هل تشتهي تعذيبي بسرّك؟ كن انت، تخيل أننا في منطقة بين السماء والأرض، نعيش معلّقين، من دون حساب أو تهم…» ثم تتبعها بعدد من الأسئلة المبتورة كما وأنها تتساقط عليها من مكان مجهول «مَن يحدد الأدوار؟ نحن الى أين؟ ما الذي بيننا؟». مع استفاضات اخرى تتعلق بعدد من المعاني كالجنس والتاريخ والعشق الإلهي، وهي بمجموعها توفر مناخاً غير مستقر لعلاقتهما بالاضافة الى الاعتناء بصفة التركيب في الشخصية غير المستقرة نفسياً، فتجد شبيهها او نقيضها في عامر الذي يقول «…اتركيني، يامريم، أنا لا استطيع العودة بذاكرتي الى الأمس. معلّق، بانتظار مجهول…» فتخالفه وتوافقه مريم. وهذا نوع من البارادوكس الذي تعيشه الشخصيتان الفصاميتان حتى تبوح له «…إنها في الحقيقة، في أعماق أعماقها، تلتذ لانشلاخ ساقيها بين الهنا والهناك »، فيجيبها كمن يترك لصداه الإجابة «اسمعي، مريم، أنا مثلك وليس مثلك، جسد متعب، متهالك…» ثم يكرر لازمة ما (أنا كمن عاش الف عام أنهضُ كل صباح بعزمٍ على نسيان كل الرؤى). أما على صعيد واقعه فهو يعترف بهزيمته كلاجئ أمضى «خمس سنوات لأحصل على جواب الرفض»، لكنه يفهم نوايا مريم التي تريده وتشتهيه «…تعال، اشتهيك هكذا، أرغب بك اكثر بيأسك هذا”.

ما لاحظناه هنا نجد وقعه العملي في فصول تالية، فما زال المناخ الذي اختارته الكاتبة لتفرع اتجاهات روايتها فيه هو (الكامب) المكان الذي تلتقي فيه مريم بعامر، وهو الحاضنة الطبيعية لسيل الفصام الدائم التي تحاول الكاتبة تغذيته باستمرار وكأن كلا الشخصيتين بحاجة الى اشباع دائم، وغير مكتفيتين بإنهياريهما، فيغذياه بأحاديث مشتقة من ذات البيئة السابقة بإحالات مختلفة حسب الظرف، حتى تطمئن مريم لـ«…تندس بحذر تحت اللحاف لصقه بعد أن اشعلت السيجارة مصابيحها كلها…» وهذه العبارة كناية عن سيجارة الحشيش التي تتعاطاها مريم ويعشق عامر رائحتها. غير ان المكان المنتخب يبقى الوعاء الذي يجهز لهما نتف الذكريات المتقابلة الموحية بالرفض والمعاناة، فأمها حسب قولها «تم تزوير ذاكرتها، مثل كل من هم حولها. وأمي قد تنكر ذلك…». أما عامر فيذهب الى مكان يبدو أنه مريح لذاكرته البعيدة في بستان خاله ومرافقة زوجته، يقوم بأعمال الزراعة. ومن نفس المكان اي (الكامب)، الذي سنطلق عليه مركز الرواية إجاحفاً، لأن (بطنها المأوى) تشتد فيها ذروات ومراكز متعددة كما سنرى، ولكننا نقول ذلك عن قصد، فتجنح ذاكرة عامر القريبة نحو (تينا)، فيظهر لنا عالماً ملغزاً مشحوناً بالعواطف وارتداداتها النفسية كما تصفه الكاتبة ببراعة وذكاء خدمةً لتواصل نصها المركب. نلاحظ فيه مستوى الارتباك النفسي لعامر مع تينا التي يشتهيها مصحوباً بتوجسات عنيفة تنم عن تخيلاته لتينا فـ «بطن تينا المأوى» الذي يصيبه بالاسترخاء فلا يود مغادرته «…لو تبقيه هكذا في بطنها» فهو «…لا يقوى على شيء…لكنها هي، هي التي تسحبه ثانية إليها لحظة سرحانها، تنزلق، تستدير جانباً حتّى تضبط دخوله جنتها». هذه الاحتباسات المتأملة تتواصل معها دنى الكاتبة التي تدخل حقل المغامرة بالكشف عن شخصيتين مركبتين، ونص ملغم تحاول كمن يضع شواخص لطريق معقد، أن تضمن قدراً من التماسك والوشائج الجامعة للفصول، وعليه نفهم هذا الخيار الذي كان بسببه توزيع الرواية على عدد كبير من العناوين/الفصول كما اسلفنا وبذروات متعددة. ولكن وفي كل الأحوال نحن نتعامل مع نص نحاول أن نجد قواسمه المشتركة وعامله الموحد. من جهتنا نجد لحد الآن قوة انضباط النص فهو يتعامل على مستوى عرفناه منذ البداية، يُعشّق بين حين وآخر بتجربة كمؤشر يفضي الى تماسكه مع مؤشرات من نفس بيئته، سنرى لاحقا اذا ما كان سيفضي الى قناعات ثابتة للبطلين، المرسومين، بعناية لتبرير تركيبيتهما، وما ستسديانه لنا من كشف، ولا أقول معالجة، لأن ذلك ليس من واجب الكاتبة على كل حال، الا من زاوية النظر الخاصة التي لا نتمناها.

وبهذا نجد السياق التخيلي للكاتبة قد حدد بشخصيتين اساسيتين، وفضاء كـ«هيكل تخيّلُي محكوم بقواعد شكلية محددة… لطفية الدليمي ترجمتها حوارية بين الروائية – الفيلسوفة آيريس مردوح والفيلسوف بريان ماغي»

http://thaqafat.com/2018/02/87411

عامر الذي بـ«انتظار الحصول على ورقة ما تُبقيه في بلد ما، بانتظار جواب بعد رحيل طويل… يسمع، تكراراً، سُرق البلد»، مجزءًا بين علاقتين، بين قوة تينا، وضعف مريم، يرنو الى لا شيء، سوى وهم الإقامة الذي يبقيه حياً بدنياً، محكوماً بطاقة تخيُلية اجبارية تقرب من هاجس مرضي لا يقبل الا بإملاءاته الحسية. تقترب تخيلاته أن تكون واقعه الذي يحسن تورطه فيه بين تجوال وهروب وشوق الى تينا التي لا تدخله بيتها فيلقى القبض عليه كقاتل لطفلتها وهو في واقع المساعدة. تَقررَ «لا ذنب له في موت الطفلة المريضة»!. لكن حقيقته الوحيدة هو وجوده الفسيولوجي في مشفى، يتحول الى كابوس، مسكونا بـ تينا «ما الجنة إن لم تكن بطنها»، أو يعاد الى كامب بعد كل مرة يهرب فيها او يهيم من دون رقابة ذاتية، حتى يرفض مداواة جروحه وخدوشه القابلة للشفاء.

وفي حالة امتزاج الذاكرتين: التخيلية الحسية، وواقع الأمر، تُبرز الكاتبة منحنيات التركيب والتعقيد اللازمة لاستدامة شخصية جزء منها افتراضي مكاني والآخر تواصلي حدثي لتكمل حبكتها. وهنا لابد من الإشارة الى تناغم التشظي بين فكرة الشخصية وادائها، وبين مستويات السرد، وفي حالة عدم فهمنا لهذه التقنية قد يكون تواصلنا مع الرواية ضرباً من العبث. أما العكس، وما زلنا في الربع الأول من الرواية، فأننا نلمس التراكمات الحسية تتكون على نحو منظم تنطلق من آنية الشخصية وغموضها نحو ماضيها وتراكماته. ويمكننا قول نفس الكلام بالنسبة الى مريم، فهما يلتقيان في مكانين مفترضين، قديم وآخر مجهول، لكنهما فاعلان، وواحد معاصر بمثابة الجامع والعاكس المعتم لكلا الشخصيتين، وهو المكان الذي آثرت فيه الكاتبة أن يكون الملمس السحري، والعاكس النوعي لاختلال مريم كذلك، بحيث يمكننا القول إنها تضع جميع خيباتها (في) علاقتها بعامر فتسأله: لمَ تهرب مني؟. يجيبها «تينا بانتظاري» تسأله: وأنا؟ يجيب «أنت مريم الغابة، وهي بستان». هذا الجانب الرخو في مريم ضروري على ما يبدو لاستدامة عقدية النص التي ستتكشف تباعاً، بداً بجنونها واندفاعها لعامر، كما تريد أن ترى جروحها وصدوعها في روحه وجسده، وهي أشياء ترى اكتشافها فيه في الفراش حسب. فهو المستودع النقي للكشف فتجيب عامر «عما تبغيه منه» بـ «إنها تريد الاقتراب من البدايات ناصعة البياض»، ومن خلاله تتم هدأة الروح والجسد.

يبدو الأمر مثيرا حقاً حينما تجنح الكاتبة لتلك العقد فتختار المبضع المناسب لرؤيتها. وما نثني عليه هنا، أنها ابتعدت عن الوصفيات التقريرية وآثرت قدحها على نحو مبصر وجريء، من خلال سرد يتماهى مع جو السرد العام اجمالاً. ومن خلال النشاط السردي المعشق بالحوادث نكتشف حقيقة مثيرة هي ما تعنيه علاقة عامر بمريم فهو «…لا يتمنى (..) في سره أن يسمع ثانية عمّا يسيء لمريم»، فالإشاعات الكثيرة تتردد عنها كونها متلصصة على اخبار اللاجئين في الكمب، بالاضافة الى احاديث أخرى ادت الى شجار عامر مع بائع الخضار قرب الكمب، البائع (اليساري) الذي تكشف مريم عن علاقتها به في وقت متأخر لعامر بتأكيدها «…لكن انا الذي اخترته، وليس هو». حتى الوقوف على مزيج الأخبار من بائع الخضار نفسه في جلسة خمر في احد البارات. هذه الوقائع بمجملها هي دوافع تنهض بالنص وتنقله الى مستويات أخرى وتحرره من جموده. فبعد اختزان عامر للمعلومات من دون الرد عليها يكون كمن ضُخ برأسه كمية من هواء فاسد لا يعرف كيف يتحرر منه. وهذا بطبيعة الحال تغذية في استزادة العوامل الذاهبة نحو التراكم العقدي الذي يتقدم بروية في مسار واحد، لكنه يتفرع الى شعاب لا تفضي الى مكان، فيرتد؛ ليدفع بتلك العقدية، بحيث لا يترك له مجالاً بالمراجعة او الى ما يفضي الى محاولة افراغ ما فيه.

لكن لقاء عامر بمريم مجدداً يفك بعضاً من صلات ماضيه الذي لا يتذكره، فهو مشارك في انتفاضة ما، ربما هي الإنتفاضة الوحيدة في البلاد في بداية التسعينات، وعلى اثرها يغادر بلاده مع محمولاته واثقاله المرعبة، لكنه لا يتذكر منها شيئاً «لا أتذكر»، وهذا شيء من واقع سيكولوجي فصامي لا يشفى من دون عزمه اولا. وفي كل الأحول نبقى في جو الاثارة والتوقع كتمهيد افتراضي لواقعه/واقعها القديم، حيث تتم الأشارة الى امه وخاله وزوجته على نحو متعثر تزحمه الإشارات والبرقيات المشفرة بينهما بخصوص الماضي، يبقى كصدى كما سنرى لاحقا، بيد أن المصاب الآني لكليهما يبقى هو المتستر على ماضيهما، فيفترقان كما في كل مرة مع انزياحاته وشدة عصابيته. ولزيادة في التوضيح نرى في شدة انقباضات الأسئلة بينهما نوعا من الغرابة وكأننا لا نجد احيانا روابط مشتركة لحديث محدد. وهذا هو سر الاختزان النفسي العقدي بالنسبة للبطلين، بحيث تبدو حياتهما عينات متفرقة تحت مجهر. وبذلك نستطيع القول ان (بطنها المأوى) تنتظم منذ بدايتها تحت سقف السردية الحديثة من حيث تخلي «..النظرة الروائية الشاملة والبانورامية وغير الشخصية مواقعها وأخلتها لوجهة النظر المحدودة والموجهة بؤريا تجاه حقائق محددة…»جيسي ماتز/تطور الرواية الحديثة/ترجمة وتقديم لطفية الدليمي ص١٤٦. وكما اسلفنا بإن القارئ يمكن ان يشعر بارتياب ما أول الأمر حتى يطبع المنهج بصمته على مساحة السرد بنفس الكفاءة. يمكننا أن نشير هنا بإيجاز إلى بعض الاعمال الأدبية التي تتأرجح بين بينين، بل اكثر، اذا ما اضفنا الجو الشاعري كعنصر سردي مقحم بكلية ليست محايثة، فيحصل الخلل، بل الجفلة من كثرة التقلبات. ولا نخفي اننا اصطدمنا ببعض منها، خصوصا الشاعري الغائم المتخفي، في نص دنى غالي، ولكن على نسق آخر بحيث يكتنفه التستر على الحالة لسبب ما ربما يفهمه القارئ العربي، فنترك ملاحظتنا بهدوء بأن ذلك يصيبنا كقراء ونقاد ببعض الخيبة. فمهما بلغ تطور السرد أو الابداع عموما من رقي لكنه يبقى المستهدف الأول هو العقل البشري المصصم طبيعيا للتلقي الحر والكشف الدائم. واظن أن الكاتبة على علم بذلك فتبحث عن ممر path يقبل الشفافية ويعيد علاقة القارئ بالنص مجدداً.

تضع الكاتبة ماضي الشخصيتين في بنية الآنية، فتجنح من وقت الى آخر نحو ارتدادات نفسية، على سبيل الذكرى والارتباط الصوري لكليهما. تستعيد اولًا نتف الحياة وواقع التجربة فيتم الكشف عن عامر كونه الطفل أو الصبي الذي يتربى في كنف خاله وزوجته التي هي بمثابة أمه، وعن مريم تلاحقها لعنات «…الأم المتعجرفة القاسية» و«…أبيها السياسي المهزوم…»، في وقت تطرد فيه من وضيفتها في الكامب. وفي هذا الجو الُمسند للخيال اكثر من الواقع تظهر احلامهما كمكمل للنشاط الاكتئابي بمعاقبة الذات الواهنة اصلاً، حتى تينا التي تدهش عامر بالحكايات المرعبة عن الموت، تبدو مصابة بأثر يجهله عامر. ومريم المصابة بالهذيان تزحف اليها احلام اليقظة على نحو يحاصرها وكأن هناك من يطاردها.

هكذا يتصاعد النص ليبلغ احدى ذرواته في حالة الكشف لمريم التي تبدو بأفضل نقاء، وكأنها تقوم باعترافات مثيرة تعاقب نفسها لأنها انتصرت لنفسها أمام عامر الذي بقي جافلاً أمام جزء من قصتها في الغربة التي منحتها حق الاغتراب عن نفسها!. مطاردة من قبل الجميع من قبل مَن يشبهونها ومن قبل بقايا السلطات وهي تدلق قيحها عن مآسي بلدها وثورة غضبها بثأرها من احدهم، في بهو فندق فخم، «يظنوني خائفة يهددوني بأمي»، على أن تقبل «هدية مقابل ليلة، حقيبة ملآى بالدولارات» وفي رأسها تدور بلادها كرحى تطحن اسباب الذل والموت، ثم تستدرك ليس من اجلهم بل «حان دوري للانتقام» فتقوم بحركة دراماتيكية مثيرة لعقابه فتدلق كأس النبيذ الأحمر على رأسه وثيابه بعد ان تكوّم، ممثل السَلطة، على الأرض فتغادر. ثم تعطف الى جزء آخر بتفصيل محايث عن امها التي تمنت أن تكون مثل باقي الأمهات «مَن تغرز سكّينها في قلب ابنائها»، واسئلة تدل على جراح عميقة «ما الذي لا يعجبها فيّ؟! لِمَ لم تحبّني؟! لم ترضَ يوماً عني؟…». فتضع كل انهياراتها بصورة عامر الذي يزورها، فتشبهه بمعارفه وغيرهم المتشابهين من اللاجئين بمن فيهم المثقفين اليساريين، «فهم جبناء مثلك»، تعاتب فيه صورة الرجل في ذهنها بأن يسألها شيئا، فتختار الكاتبة لغة هجائية عنيفة «حياتك مثل مماتك، إذهب»، ثم تطلب منه الا يلمسها وأن يخرج ويغلق الباب من خلفه.

ومثلما مريم هي تينا التي تشبهها ببعض الجوانب والتصدعات. هنا اسباب مختلفة ونتائج مقاربة واضحة. ففي جو التأزم النفسي تبدو الاشياء كما استخدام غربال على نقيض الصورة العاكسة لمرآة. تبحث عن عامر ويبحث عنها لكنهما من دون رابط، أو ما يؤشر الى رغبة انسانية جامحة، غير تلك التي تعبّر عن الامتنان الوجودي اللحظوي لكشف ما يختفي خلف حاجة عقدية مشابهة أو قريبة، أو بأحسن الأحوال مُطمئنة وليست مُشاركة. «تطلب منه مرافقتها الى شقتها». مصيدة من نوع مبتكر، «لم يفهم ما تريده منه. تريده أم لا»؟. لم يفهم عامر ولا هي، انها تريده للاستماع وليس للاستمتاع، فتجفل منه بأي حركة وهو يحاول الاقتراب منها حتى تهدده بطلب الشرطة إن لم يغادر بيتها. وكأن الكاتبة تقول إن مع عمق العصابية تختفي الحسية الوجدانية تدرجيا بالمقابل كمعاينة سريرية مَرَضية ثابتة.

في جو ازمة بطليها تجيد الكاتبة تحقيق مخططها بتضارب الأفكار ونشازها مستخدمة عبارات قصيرة غير مترابطة كـ لسان حال فصيح، حتى ما يعتمل بنفسيهما من حوارات قصيرة، ربما لا يطاوعها القارئ، لكنها نسيج من نوع يعتمده هذا النوع من الأدب الذي نعثر عليه في كثير من الروايات وخصوصاً لكتّاب بغير العربية. تسلط الضوء بمجملها على ما نفهمه كواقع حال او تجربة مضنية مركبة لكليهما يصل الى شفى الاغتراب الكلي لـ تينا «هذا الجسد ليس لي، تقول له، جسم غريب، أنا محبوسة فيّ، اريد تسليمه إليهم. هناك سر ما، هناك من يطالب به»، مشفوعاً بأحاديث عن الموت والانتحار الذي يسكن تينا.

ربما نجد في بعض هذه الحوارات نزعات مقحمة، أو مبالغ بها، ذلك بسبب غياب هضبية النص الى حد ما، وهو الفسحة التأملية الهادئة للبناء التراكمي الذي نسميه بالتطور التدريجي حسب ما اصطلح عليه The kaizin way، وعليه يضحى من الواجب على الكاتب أن ينقل نصه لتلك الهضبية والابتعاد عن التركيبية، وقتياً، وتطعيمها بالسرد الدافع المتأني لتكون مفاصل الرواية أكثر أماناً واقناعاً. جعلتنا دنى نتعامل مع النتائج أكثر من تعاملنا مع الواقعة التي سعينا بالعثور على مفاصلها بقدر من المجهود، ذلك بسبب توزيعها، فاقتضى تجميعها ككيان واحد. واكثر الظن أن الكاتبة وضعت هذا النظام السردي مخافة تفكك النص او حتى تشظيه. فعهدت الى تجريبة مثيرة من حيث التركيز على أنسنة الحبكة على نحو متقطع تشبه ابطالها، وهي محقة بذلك من زاوية كتابية محدثة، وهي الأهم.

مع هذا البعد الإنساني، الذي لا يقبل غير الكشف، يختفي سر تمدد نص الكاتبة على محاور متنوعة بين واقع، وواقع فصامي، بين ماضٍ وحاضر، وبين متخيل مدمج، فيكون فهم الحكاية اكثر يسراً لكن تعقيدها يتمدد الى اكثر من اتجاه، فما زال امام الكاتبة عناصر غير مكتشفة بضمنها آنية وماضوية، ولا نقول مستقبلية كوننا نستشف، لحد الآن، أن سرد الكاتبة لا يُعنى به، فأبطالها معطلون بما فيه الكفاية، لذلك وضعت كمية الدفع بإتجاه الماضي وصورته الحاضرة على نحو معشق يزحمه المتخيل كرؤية عصابية. بحيث يجعلنا نأمل من الآن ان تخفف الكاتبة من نزوعها المتشدد المقتصد وتساعد بفك العقدية قدر المستطاع ضمانة لانسيابية مقنعة وأكثر تأثيراً.

ولحد الآن حاولنا ربط السياقات الُمنتجة ببعضها بعضا وننتظر انفتاح السرد على نحو أوسع. تفعل الكاتبة ذلك من زاويةٍ تقدح بمزج المتخيل بالواقع وبالذكريات على حد سواء. فعامر ومريم يلتقيان في أي مكان على ما يبدو ليس بالضرورة مطار او محطة قطار، وهذه عودة للبداية كاسلوبية بالتذكير بمنحى ومناخ الرواية، فهنا ليس المهم هو الزمن او المكان، بل تلك الاستدراكات في عقليهما لتبقيهما يقظين، حتى وان كان هامش الحياة التي يعيشانها ضبابياً وضيقاً بما يكفي لهزيمة نهائية. تلك الصور التي تقربهما من واقع الطفولة التي تذكرهما بها مشاهدات، كطفل يلعب بلعبته، او شاشات الكترونية، او عامل نظافة، تغذيها الكاتبة تباعا وتمنح عاكسها لمرآة كبيرة تجرها مريم بإيحائية مجردة لحياة أخرى، يسألان بعضهما عن وجهته «الطريق نفسه… آخرون سيسمّونه هزيمة…».

وعلى واقع التراكم الآني المهزوز لكليهما، والذي كثر فيه التساؤل، ينتقل النص بمرآة مريم العاكسة الى مستوى استطيع تسميته بالمرشح (الفلتر) وربما الموشور، فمن خلال الاهتزاز النفسي لكليهما يحضر المرشح الفاصل بين حياتين، فلا يسمح بدخول الصور غير القابلة لمحاكاة الآني من الأحداث، وبعض المسببات المرافقة للعقدية. وعلى ذلك اصبح من الضروري ان يكون النضج السردي معطوفاً على الحكاية الأصلية بمعنى المصدر. ولكن وقبل أن نلج هذا الحيّز نقول: لمّا كان على أي كاتب مراعاة هكذا انتقالة فلا بد إذن من لغة سردية مشبعة تيسر الفهم المخفي مما تقدم. فهل ستفعل دنى ذلك؟. وكالعادة لا نفترض ما نقوله هو سؤال ينتظر اجابة محددة بقدر ما يفتح أمامنا رحلة استكشافية، لا أقول عنها معرفية بالمطلق ولكنها استفزازية على نحو أكيد، لنضمن لتلك التحولات مكانتها المرموقة في نظام السرد ودرجة العلاقة بين ما هو اكاديمي صرف واشتراطات الكاتب لحيازته الرؤيوية الذاتية، بالإحالات والإشارات، وعمومها سيميائية خالصة اذا ما افترضنا ان السياق الكلامي هو جزء متفرع منها وليس العكس كما يذهب اليه النقد القديم. وفي هذا ليس عيبا انما تواصلاً مع حداثية المفاهيم المنتجة للتوالد المستمر. لنستمر.

على نفس الغرار الذي بدأت به الرواية باسمين هما عامر ومريم، اختارت الكاتبة أن تبدأ برؤية الحكاية الجديدة/القديمة من خلال (الفلتر)، او الصدى الذي يكشف عن زمن آخر، هو الماضي، ليندفع اسمان جديدان الأول هو الخال بسيم «الذي هو جزء من الماضي»، وهاني الذي «هو عامر آصلاً… الشاب الذي استرجع اسمه بنفسه عبر رحلته في المنفى، في محاولة مستميتة منه لربط الروح الهائمة بالجسر الرخو، والرأس المشوّشة، في وحدة واحدة». تتبعها عبارات متوازنة مع الشق الأول تخص مريم التي «كان لها اسم في كل مستقرّ من مستقرّات حياتها، وعمر مختلف»ص94، اضافة الى اسم امها (سلوى)، يتردد الآن لتبدأ الكاتبة معه قصة ذات صدى آخر قريب من الانعكاس.

في جو الخصام مع النفس، وبجهد مكشوف تسعى الكاتبة الى مقاربات توشك على التداخل مع بعضها بعضا. الخال بسيم الذي ظهر أرملاً مسورًا بصورة ووصايا الزوجة المتوفاة، التي اصبحت أماً لهاني «بعد اختفاء امه» لأسباب سياسية على الأرجح، ومسكوناً باسم سلوى الذي يبرز من جانبين الاول هي ام مريم، والثاني على علاقة بخال عامر. هذه الصورة تظهر مع سفر عامر وغيابه، تدخلها الكاتبة وتخضعها الى تحويرات ضامنة كحبكة غير ملزمة من حيث واقعيتها، لكنها حقيقية من حيث انعكاس الصورة وليست كمحاكاة، كما في النص الواقعي التقليدي.. يذهب الاستاذ صلاح فضل الى ابعد من ذلك بأن «الرؤية (المحسنة) غربيا للواقعية هي «ليس انعكاسا وانما تحويل ونفاذ»، ومع هذه الرؤية الجديدة لتطور النظرة الغربية للواقعية، تنفتح امام الكاتب الشروط الكتابية القاسية، لتحل محلها حرية من نوع آخر تفتح للمتخيل هامشاً اضافياً في اللعبة الكتابية. وهنا تكون الكاتبة غير ملزمة بالنظام التقليدي للسرد وتنزيل الحبكة معاً، ولكن من جهة أخرى عليها أن تقنع قارئها قبل جفلته وعزوفه عن القراءة، فهل فعلت دنى ذلك؟.

ونحن هنا لسنا بواقع توجيه الأسئلة للكاتبة بقدر ما هي مسؤليتنا بالإجابة عنها مدعمة بالأمثلة والاستنتاجات وحتى التأويلات التي يستحقها النص، وهي من بطانته وامتداداً لنسيجه، المعلن والخفي على حد سواء. ورب سائل يسأل لماذا المخفي الذي سيُذهب بالمتعة؟ وهو سؤال جدير بالتوقف، كنا قد اجبنا عليه ضمنياً سابقاً، والآن يمكننا الاستزادة، بأن جميع النزعات المشروطة، غير الحميمية، بمعنى خروجها عن النظام الكتابي الذي استحدثته الكاتبة، او بتصرف منها، لا يمكنها مجارات المستوجب الفني، الذي مهمته حسب المصدر الآنف نفسه «يقف ضد التجمد لصالح الحركة» يدعمها الاستاذ فضل بمقولة برشتية «مادامت الأشياء هكذا، فلا ينبغي أن تظل على هذه الوتيرة». كتاب (شيخ النقاد) حول كتاب الدكتور صلاح فضل (عين النقد)ص312. وبقدر ما يحتاجه النص من اعانات خارجية، وهي لا تشترط اللغز مطلقاً، وجب هنا مراعاة استشعار النقلة، أي الفتح الجديد، ليكون منسجماً مع طبيعة السرد مهما بلغت درجة استخدامه فنياً، حراً ام خفياً.

تستوقفنا الحاجة للتوضيح من جانب آخر فنقول: إن ادخال الشخصيات في النص الأدبي هي عملية معقدة ومحسوبة، فالشخصية الطارئة التي تقوم بفعل طارئ وتختفي هي ليست ذات الشخصية المحورية او شبه المحورية التي يتوجب وضعها في النسيج الدائم للرواية. فالأولى لا تشترط التقديم ويمكنها الغياب الكامل من النص بعد أن ادت وظيفتها، على عكس الثانية التي تشترط عناصر الشخصية الملازمة ذات التأثير الحسي والعاطفي والانتظار معاً.

وبنسيج سردي اكثر انفتاحاً تدخل الكاتبة على مهل ظروف هجرة هاني/عامر وملابسات الحياة في زمن الحرب مع ايران، وتكشف عن مكان الواقعة في مدينة البصرة المنحورة بحراب طرفي الحرب، ايران والعراق. وهنا نشير الى ما قلناه قبل قليل عن دخول شخصيات مساعدة للنص كإشارات حسب، تمثلت بشريك الخال (ابو حارث) التاجر الفطري الذي تعرف عليه قبل سنوات في مزارع الزبير. شجعه شريكه على مغادرة هاني الذي كُتب له اسماً آخر في اوراق سفره فـ«هاني لا يعلم مَن هو، وما اسمه الحقيقي، وماذا كُتب في أوراقه الثبوتية». في وقت تظهر صورة زوجة بسيم المتوفاة كضمير خفي معاتب «بتناسيه عن دور الأب (لـهاني) الذي كان يجب أن يكون له (..) أقر بعدم صلاحيته لهذا الدور…»، ويتردد اسم سلوى (أم وفاء/مريم) الباحثة عن فك لغز ابنتها «ولن تهدأ قبل أن تعثر عليه»97.

في وقت يفكر فيه بسيم «لن يظلّ وحيدا»، وهو محاط بذكرى انكسارات قديمة بسبب السياسية والسلطة والحرب، وما ستؤول له حياته لاحقاً اوضحتها الكاتبة على نحو من الاستذكارات المبنية على شغف التواتر لهوايات قديمة كالصيد وتأمل البيئة الصامتة ليكتشف «كل مرة أن بإمكان الصمت أن يعالج قضايا كبرى في الكون…». أما بعد سنين كثيرة وهو مبتلى بحصاد ارث سياسي ستّيني تركه بعد عام 1963 سيقبل بحياة اقل تندراً، بعد رجوعة من بغداد الى البصرة، لينغمس في حياة أخرى بملامح رخوة تمثلت ببناء منتدى اجتماعي جديد صار ملاذه و«منحه الهوية عن إيمان حقيقي، ضاع منه اليوم… وجهة مستقلة يحلم بها»، جعله يقول لسلوى «تخيّلي حتى البعثيين ذاتهم أظهروا إنسانية وتقبّلاً حينها، أول السبعينيات وأيام الجبهة، كما تعرفين تقرّباً منهم، ومحاولة لكسب الناس!».

وكما توقعنا بأن مضامين النص المثقلة بالمعاني والتصدعات النفسية لا بد لها أن تعرب عن نفسها كحكاية بهذا القدر أو ذاك. فعلى أثر ارتجاعي ضروري ومهم، تعود الكاتبة الى واقع بسيم/خال هاني، وهو يتحول الى تاجر مشارك؛ يرافق ذلك تحولات مجتمعية مهمة في وقت اسميه انهزام المدنية وغياب التمدن وهو الشكل الجديد المرافق، والمنتج الواقعي للحروب والاستبداد. فراحت تحل محل الأناقة الحديثة صفات البداوة والتريّف، ففضل الخال «ارتداء الدشداشة والغترة تقلّيدا لأصحاب النفوذ ورجال الأعمال» وركب سيارة المرسيديس البيضاء دلالة الأهمية. مع مصاحبة وصفية لشكل المدينة وجفاف حقولها الخضر «وهي التي عُرفت كونها الأغزر في كثافة بساتينها»، واكتست البيوت سحنة صحراوية شاحبة، وأضحت المحلات شبه فارغة.

نشير هنا الى امكانية الكاتبة بتطعيم النص ببعض الكشوفات المجتمعية منها الفتوى التي أفضت الى «منع شراء اللحم من جزاّرين، يؤمنون بالمبادئ الشيوعية (جناس اللحم الأحمر والشيوعية الحمراء)..»، مع ارتدادات فكرية تمثلت بالخال بعد أن كان رأسه محمّلاً بقضايا العدالة واسعاد البشر، فتنحت لصالح (الجديد) «إنه من وحي قصص الخوارق والبطولات». وكلما اطال الخال تأمله ازدادت فرصة ذكرياته وزواجه حتى اصبحت له «عائلة من أب وابن، طفل متبنّى».

بأمكاننا ان نضع هذه الحبكة، بعد تجميعها، ضمن سياق الرواية الموصول بالعقد والأزمات المنتجة كإخصاب صناعي اصبح واقعاً طبيعياً للأجيال التي بدت وكأنها سليلة أو وارثة شرعية لكل التصدعات. تقول الكاتبة عن ذلك: كم أم تبنت هذا الطفل؟…. وهاني يتبعهم مجدّفاً على السطح بفتات ذاكرة وضياع…»ص١١٢، وتستمر بتهيئة ظروف كتابية مكملة بعد موت زوجة بسيم، تمثلت بالنقلة الواقعية لعلاقته بسلوى، التي تبدو هي الأخرى مسكونة بالمخاوف والانهيارات تحت وقع اتهامات وفاء ابنتها «بالازدواجية، بالنفاق والمخادعة، ولأكثر من مرة». خصوصا وانها اصبحت تواجه أمر علاقتها ببسيم كواقع حال لا يتعدى السرير، محاطة بما يشبه الرعب من أشد الأشياء بساطة ووضوح، فتعيد انتاج نفسها على نحو ماضٍ هلامي «يدعي المثالية». حتى بدأت تبحث بصغائر الأشياء بصندوقها القديم لإعادة تعريفها لنفسها تحت ححج لا أهمية لها كبعض المستمسكات الثبوتية. وبهذا نقلت الكاتبة هذه الشخصية الى العصابية المرضية العابرة للسلوك المنطقي. فتقف من خلال سلوى، في حالها المجُهد نفسياً، على وقائع شكلت بوادر فصامية ابنتها وفاء وهي صغيرة، وبهذه الحركة استطاعت دنى ان تنجز ما كان قد شغلها في الفصول الأولى بإرجاع الآني الى فتوته المتذبذبة، بل الى فواصله المتناحرة سابقاً، كاللعب والمدرسة والأكاذيب. بل الأكثر من ذلك الى ظروف سجنها وزواجها من والد وفاء كسياسيين، تدفع ضريبته بنفسها بولادة ابنتها في السجن، ومطالبة الأب بها بعد خروجه قبلها. هذا مع كشف سردي عن العلاقات والصداقات والسياسة، بحيث افترقت الكاتبة بأسلوب الكتابة نحو المسح الأفقي لشرح ظروف المرحلة السياسية إبّان الستينيات بشقيها المزدهر، والكئيب بصورة انقلابييّ شباط، ربما مخافة الغرق في التفصيل غير المجدي. من جهة اخرى ما رافق ذلك من تحولات مجتمعية مفاجئة بعد أن افرج عنها تمثلت بسلطتين الأولى المجتمع فـ «احتارت بتعاملها مع النظرات التي كانت تعريها»، والثانية الأب الذي «غادر، وهو ناقم عليها».

وما يسمُ كشف الاختلال الزمني/المرحلي بسمة التذبذب والخوف، هو تغيير اسم الأبنة الى وفاء بدلاً من جماهير. حيث تستطرد الكاتبة مع كشوفات عن تبدل الحياة والأمزجة والرغبات وما اضفته حقبة (الحرس القومي) من شلل فكري واجتماعي لدى الناس العزّل «كيف يكون الإنسان وحيداً جداً! غريبا عن نفسه، في العمق تحت كل طبقات الملابس وتحت الجلد، مثل لقيط مُلقى خلف أكوام القمامة…»ص137. ومع هذه الانكسارات انعطفت واقعية العلاقة بين الزوجين التي بدت لا رابط يجمعهما فبدا «السجن هو التجربة الوحيدة التي ربطتهما…». تلك هي حصافة قدرية تحويلية غيرت منطق الأشياء واستبدلت الأمل والإرادة بالهوان والذل والانسحاب. فلم يقرب الزوجان حتى من بعضهما بعضا! فظلت وفاء «التي كبرت خطواتها العرجاء» فكرة الزمن المغشي على نفسه والفراغ المتروك كـ «كمحكمة ظلت مفتوحة إلى الأبد«. ترى الى أي بعد انساني ستنتقل معه الكاتبة بعد هذه الكآبة الجامحة؟.

وكما يأخذنا النص بحبكته للمتوقع، بسبب الصدوع الكثيرة، فلا نتوقع منه انتظاماً ميسّراً بأي حال من الأحوال. سيما ان الندوب حفرت في وجدان ابطال الرواية أثرا عميقاً يصعب تجاوزها حتى بمرور الزمن عليها، بل اصبحت مع تراكماتها المستقبلية المتتالية كما السمنت. فلم تسلم علاقتهما، سلوى وبسيم، من الأذى!. وطالما نحن بهذا الصدد فقد انطوى الأذى على فعل ذاتي مستجلب، فالتفكير بالشقاء لا يجلب الا مطابقاته ومرادفة، وفي هذا الجزء نعكف بسرعة على نموذجين غير متجانسين، الأول بصفة الزوجين سلوى وبسيم، والثاني بصفة شريك الزوج التجاري أبو الحارث. وكلا التجربتان مصابتان بقدر ما بتلك التحولات التي غيرت السلوك والأقدار معاً. الزوجان بقيا اسيرا الماضي وأنينه، فأحكم قبضته على حواسهما ومشاعرهما، بل حتى على رغبتهما بالحياة، في حين آثر أبو الحارث تجاوز الماضي وتغيير حياته لما يرضيه ويسعده، واستعاض عن البؤس بمداراته وتغذيته بالسخرية. فالأمل والسعادة ليسا شيئين ماديين نسعى الى امتلاكهما، وانما افتراضان يحصلان هكذا مع الإرادة والرغبات، هما ليسا ثمرة نسعى الى قطافها، أو شيئا ننتظر حصوله، بل هما تحول يصاحب اي مغامرة جديدة تفك قيود التجربة وتطلق ممكنات الذات، وهذا ما كان يوجه ابا الحارث حسياً فأصبت الكاتبة صناعة شخصية يومية اجتماعية ميدانية لها مجسات ذكية. تقول عن ذلك الكاتبة «كلاهما سجين المكان نفسه…» وتتبعه بصوت سلوى «أن تنهي ارتباطها بسجين لترتبط بآخر، لا يختلف كثيراً عن الأول». ويمكننا عطف ذلك على كلا الشخصيتين الاخريتين هاني ووفاء/عامر ومريم. فهما أسيرا حالة وجدانية تقبع خلف سجن الماضي حسب. ويمكننا القول انهم جميعا، أي اربعتهم، واقعهم وصداهم، يمعنون بتغذية الخوف والكآبة والتردد، بل يسعون بكل ما بوسعهم لإرضاء الهواجس والشعور بالوحدة، بما فيها الشكوك التي ستنهي علاقة سلوى ببسيم، على عكس أبي الحارث الذي يحيل فشله الى تفاؤل ونجاح حتى وإن كان ظاهرياً، بسبب أن قوة التراكم التصوري لا بد أن تجد ملموسياتها واقعيا. وللأسف لم تحاول الكاتبة من توسيع نشاط هذه الشخصية فأبقت على دورها المحدود!.

ولنا قول آخر هنا: أن على الكاتب، وبعيداٍ عن عالم دور المعلم الذي اتحاشاه، أن ينتبه لظهور شخصيات آنية تنبثق فجأة في نصه بسبب حاجة النص لها، وهو شيء مثير للغاية، وهذا ما جعل كتّابَ عالميين كبار الانتباه لسير ابطال من هذا النوع، حتى انهم كرروها في قصص منفردة، وإن أردت مثالاً فسأذكّرك بماركيز، فوكنر، دوستويفسكي واخرين كثيرين.

وفي مسعى الكاتبة لاستنهاض قيم الماضي كفكرة تراجعية لكنها استباقية من حيث المعنى، اختارت الكاتبة مفهوما حداثيا في التخلص من صرامة النص. سيما ان التحولات النقدية المدرسية لم تَجز ذلك حسب بل جعلته واحدا من التراكمية الإبداعية للأجناس الأدبية. ومن هنا نفهم السياق الماضوي في خياراته كجزء حيوي من الحكاية، بحث ينبثق وقت الحاجة له، وليس كتسلسل تباعي حكائي محكم. وربما يثير هذا الأمر حفيظة المتشددين، لكنه يحتاج الى مران للذائقة وتطويرها من اجل الانفتاح على التجارب، وفهم سياقات النصوص غير التقليدية، وهي مهمة شاقة بعد ان تعودنا على نصوص ادبية سردية كمحاكاة للسرد المعهود، القديم منه والواقعي التقليدي.

لماذا؟.

أفضل ما اشرح به الفكرة استعين برأي الباحثة (خطار نادية) في رسالتها لنيل الماجستر عنوانه ( مشروع إشكالي الجنس ونظرية النص الأدبي) تقول: «…فقد افرزت تلك المرونة تلبية تلك المشروعية للخطاب الجزئي، الذي ظل صامتاً، كونه مفردة جامدة لا تلبي ضمن الصنافات سوى ذلك الحضور الإتباعي من غير انفلات لحضور يؤكدها…» واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار رأي الباحثة بأن «الرواية بوصفها مجالا تتقاطع فيه مجموعة من صيغ الخطابات…» يكو ن بإمكاننا القول:

إن القيم المنتجة لنظم كتابية جديدة هي في واقع الحال ثمرة الاداء المعرفي/البحثي لعنصرين الأول حاجة النص للابتكار، ليس بسبب الغموض، وانما كناتج متوالد لمخطط الرواية، وثانيهما وهو الأساس النظري النقدي لما ابتكرته واجازته عملية النقد ومدارسه بإتجاهاته المتعددة مع بعض الاختلافات المنهجية الصرفة. ولا نلغي هنا صرامة بعضٍ منها ولكنها في النهاية انتهت من حيث تطورها الى تفاهمية مناسبة حسب ارضيتها، بإمكاننا وصفها انتقالا من التشدد الى فرصة فك القيود وتوسع زاوية النظر للتجارب المحدثة. وهذا مبحث نظري صرف يمكن للقارئ المهتم أن يجده بسهولة في الكثير من الدراسات والأبحاث، حتى عن الفكرة الأرسطية الإجناسية وما يقابلها كحوارية جديدة. ومن الانصاف، واستكمالا للفكرة، يتوجب علينا هنا أن نأخذ بنظر الاعتبار سلطة النص الكلاسيكي كحفر في الذاكرة والذائقة -ذائقة القارئ العربي عموما- من حيث الاستجابة لنصوص تبدو ملتبسة ذلك ان التنوع الذي اصاب الغرب من حيث التجارب الكتابية والنقدية لم تطلها مجتمعاتنا لاسباب جلّها معروف لا حاجة للخوض فيه، أو على أقل تقدير لسنا بواردها على نحو خاص، ولكن باختصار تعود لسببين: المنهجية الصارمة، والثاني المجتمعات التي هي مصابة بالركود، فحالة النهضة الأولى على يد الرواد الأوال المنجزة وشعبياً لم تستكمل شعبياً كذلك على يد مثقفي الاجيال التالية، بل احيلت الى نخبويتها بهذا القدر او ذاك. وعلى كل حال بلغنا هذا من جانب خياري بحت وباختصار شديد.

سردية الحدث الماضي

نعود ثانية لنص دنى غالي، وهو الجزء الخاص بسير الماضي الذي بث في سرد الكاتبة روحاً ونبضاً كان القارئ بانتظاره، بمعنى (كسُّر الزمن السردي). وعليه تأسس تكامل من نوع آخر، كمن يملأ فراغات تركها في وقت من الأوقات ليكملها في وقت لاحق، لا يختاره بنفسه، بل يفرضه النظام السردي المُختار من قبل الكاتب/النص فيكون الأساس. فبالنسبة الى بسيم اليساري المطارد المصاب بطلقة بسبب الاحتجاجات والاضطرابات، يقض مضجعه رحيل اخته وزوجها اللذين «رحلا من دون تغيير قناعاتهما…». كما أنه منتم لصدى الماضي حسب التوظيف الروائي ومن دونه لا يمكن حل اللغز النفسي اليومي لعامر ومريم، فالرواية بنيت كما اصبح واضحاً على المتقابلات الذي اسميناه بدءًا بـ (الصوت وصداه)، واُنتحلت أسماء مختلفة أو تغيرت حسب حاجتها كما عرفنا سابقاً. وعلى ذلك يتم نبش ماضي اخت بسيم، أم هاني، التي انتصرت الى قناعاتها في مواجهة الظلم والاستبداد، حتى اختفى أثرها في السجن مع زوجها. وهنا يبدأ النزاع الداخلي لـ بسيم كونه لم يستطع فعل شيء يغيّر مجرى الحياة أو أن يغيّر قناعاتها، ويخشى في نفس الوقت ملامتها، إن خرجت، بسبب «محاولاته المخفقة مع ابنها المريض..»، وتشهد تغيير حياته وقناعاته شخصياً، فأسلم بالأمر الواقع فكل ما فعله هو «الهروب بصغيرها ودفن أثره»، بل حتى آثرت الكاتبة على تتبع خطى بسيم المتعثرة برجل مصابة مشاركاً «طلاب الكلية في مسيرة، تنادي بالسلم لكردستان…» آواخر الخمسينيات، حينما واجهتهم الشرطة بسيل من الرصاص الحي. فصاحبته أمه الى (المحمرة) في عربستان ليختفي عند اقاربه هناك. ثم تعشّق الكاتبة جميع الأحداث بعضعها ببعض، خصوصاً المهمة منها، وبعدد قليل من الصفحات، فجاء السرد متداخلاً بين ماض وماض قريب، فهنا تكون الأحداث هي التي تختصر الزمن وتلعب لعبتها الخاصة بالنمو الحدثي، فما بين صبا وشباب بسيم وبين زواجه سنوات مليئة بالذهول والانسياق وراء المغامرة السياسية بصحبة الأقران.

نلاحظ هنا اختصاراً سردياً قلقاً، وموصولاً، كما قلنا، بين ماضي التجربة وما يحدث الآن. وهو الجزء الخاص بانفصال سلوى عن والد وفاء الذي باعد السجن بينهما فراحت سلوى تنبش بماضي التجربة من باب يقرب الى الندم، على نحو حياة شبه بويهيمية يعيشه رفاق زوجها في بيتهم، تلك الحياة التي لم تقرف من رائحتها آنذاك، لكنها جعلتها الآن في حتمية الانفصال عن زوجها. غير انها، أي الحياة، تبدو كما لو استبدلت لبوسها فاستعاضت عن بؤس الماضي بآثار الحرب في مدينتها البصرة (الآن)، وحتى علاقتها ببسيم، كمعاشرة أو زواج، فلم تشعل بحياتها فتيل الموقد الذي بحاجة الى معجزة ليدفئ قلبها، فبقيت بحاجة الى «اعتراف بانسحابه منها في تلك الفترة» اي قبل عشرين عاما.

ومن الملفت أن نجد في فصول السيرة لكلا البطلين او الشخصيتين الرئيسيتين تقنية من نوع خاص، بحيث آثرت الكاتبة، اضافة الى مبدأ التقطيع، اعتمادها على سرد اسميه بالمتناصف، بما معناه نحن نجد انفسنا في واقع حدثي متفاعل، ثم يرخي مصداته فيذهب الى المتقدم من التجربة ثم ماضيها، واحيانا العكس. فماذا يعني ذلك؟.

وكما يبدو ان الكاتبة تقوم باستنطاق التجربة تباعاً، ولن تذهب الى مسايرتها، لذلك نجد عودة للحدث ذاته في فصول اخرى يضخ لنا معلومات جديدة وربما معادة بطريقة وأخرى بظن القارئ، لكنها تحمل تراكمات جديدة، تلك التي تكبر مع الزمن وتفعل فعلها. انتظرنا حتى ثلثي الكتاب لنجد أوليات علاقة سلوى ببسيم «عبر نزهة في شط العرب…»بعد قيام ثورة 14 تموز، تكرر بعدد من اللقاءات قبل ان يبتعد بسيم عنها «من دون ان تفهم الأسباب! وغاب. كذلك الأمر بالنسبة الى طليقها والد وفاء، فجاءت الصورة مكتملة بتاريخها واحداثها التي تمخضت عن زواج وولادة وسجن وطلاق، لا بل جعلت المفاهيم تتحول، مرة على نحو ذاتي صرف، فالبنسبة الى سلوى «جروحها الأخرى هي الأهم، ندوب نفسية لن تشفى»، واخرى بسبب موائمة التحولات السياسية والمجتمعية.

هذه الأسلوبية هي في واقع الحال واحدة من ابتكارات كسر نظام السرد السلس والمتسلسل، ابتدعت أولياته الكاتبة الإنكليزية فرجينا وولف وجرى تطويره لاحقاً كأسلوبية سردية تحتمل ثقل النص ومن ثم الانتشار العرضي او الافقي. وعليه استمرت دنى طالب بذات المنهج الذي اتاح للقارئ الوقوف على المفاصل الحياتية المهمة التي عززت من قدرة السرد المفصلي الذي نعني به كل ما يبرر الثيمة العصابية لشخوص الرواية. وعليه انعقد نظام السرد الماضوي على نحو حركي يميل الى ذاتيته بدرجة اكبر، فبسيم «لم يترك السياسة اختياراً، ولا اضطراراً، يقول ان الحياة تنوب في أحيان كثيرة لتفعل ذلك، لتأخذ القرار بدلاً عنه…»، كذلك الحال بالنسبة الى سلوى التي «دفعته بعيدا عنها» وظلّت وحيدة «تعيد القصص ذاتها في رأسها…»، وتتسائل « كيف ترتبت الظروف لتجمع كل هذه الصدف؟! ولِمَ التقته من جديد، بسيم تحديداً؟!» وهو الذي «جاءها متأخراً عشرين عاما…»، والثاني هو اشعال الوقود لتراكم العقد وعدم الانتصار على الذات.

تأتي هذه الاستدراكات على نحو حوار داخلي للشخصيات عموماً، وتحضر بتوجس مشبع بالهزيمة أو الندم، فجميعها تنضوي في حقبة تمثلت بالمتغيرات الحاسمة السريعة، بدءا بالفترة القاسمية ومروراً بفترة انقلاب شباط عام ٦٣، الفترة التي صدر فيها الحكم «بإعدام الشيوعيين، وقُتلت الناس خلالها في الشوارع…». تعاملت معها الكاتبة كعامل متغير نوعي إزاحي في تغيير البنى الاجتماعية والنفسية، فكل ذلك خرج من بيئتها واستهتارها. وكإنصاف نقول، بأن الكاتبة لم تأكل الطعم المغري وتصبح طبيبة نفسية او باحثة اجتماعية، بل لم يظهر لها دور غير اعتنائها بسلوكية النص الفصامية، وتهدئته ليلتحم مع مستواه الأول تباعا.

وما يمكن الإشارة إليه في الجانب الحواري الكاشف هو اعتماد الكاتبة في ذلك على ميكانزم حداثي يخص الشخصيات بصورة متكافئة، بما فيهم الراوي البطل الذي نقل لنا الأحداث غير المرئية ومن بينها التاريخية بصفة المسح العام، لكي لا يطغي دوره من جانب، أو بالأحرى الا يُمنح كامل صفات العارف، حتى جاء السرد كما لو كان موزعاً على تلك الشخصيات، بالرغم من ظاهريته التي تبدو سردا للراوي فحسب، لكنه يميل الى الاختلاف في نكهة السرد من حالة الى اخرى ليبدو ليس وصفياً صرفاً وإنما يقع في بنية تركيبية معشقة مع احداثيات الشخصية التي يخصها أو يكون بصددها.

ومن جانب آخر لكي لا ينفلت النظام السردي ويغيب في الاسنادات الثانوية، ولكي لا يعبر عن شخصية الكاتب الذي بقي مشاهداً للمشهد السياسي والاجتماعي، كما نراه في اشارات الكاتبة لفترات الانقلابات حتى التسعينيات، وبالأخص فترة الانقلاب في شباط عام 63، كما اسلفنا، الذي غيرت تبعاته حياة الكثيرين من بينهم بسيم المصاب بطلقة برجله فترحّله امه الى اقارب لها في عربستان، وحتى اعتقاله المتكرر لاحقاً، وهو يتأرجح بين تركه للعمل السياسي، وبين العودة اليه وقت الانفراجات. فقد بقي هذا النظام موزعاً، ومتنقلاً كحركة تفاعلية، ولكنها مستقلة بذات الوقت، وفي هذا توازن يضع أو يقرّب نص دنى من سياق السردية الكلامية الحديثة التي خاطرت الكاتبة دخولها. ولكن يبقى لدينا سؤالاً مهماً هو مدى استجابة القارئ غير المتمرس على نصوص من هذا النوع؟ نقول على الرغم من صعوبة هذه التجربة ونجاح الكاتبة لحد مهم في سبرها، فأن من المفرح حقاً أن نجد كتابنا الأفاضل يقتحمون اسواراً كانت حكراً على الأدب الغربي أو العالمي. ولسنا في واقع إجازة هذا النص او غيره او مدحه بقدر ما نقوم به من كشوف تساعد القارئ في خوضه عوالم الكتابة المختلفة، ومقدار استعداده النفسي لتخطي انتظاره لنص ممتع فحسب. ولا بد من الاعتراف اننا نقوم ببعض الإسهاب المعرفي، إن أجزنا التعبير، ونشطح الى أكثر من واقع السرد توخياً لاستزادة وضوح الصورة المحدثة. وهكذا سيقع القارئ على متعة القراءة، في حال تجاوبه مع النص، وفق المنظور الجديد الذي اشرنا له. فهنا تستعين الكاتبة بالموجودات اليومية الطريفة التي تتشكل منها الحياة، كصور الموتى العالقة على الحيطان، واقتناءها للقطط وموسم حملها، والاحساس بالوحدة كفراغ «ليس له عيون»، والادوية ورائحتها، ومذاق الشاي مع الوحدة والأحزان، وحتى وفاة زوجها، والد وفاء، الذي عَبَرَ اليها عِبرَ اسلاك التلفون، وهي لا تعرف له ولا لأهله سبيلاً…

وهكذا تكون تلك النتف شواخص طريق للرواية فتضفي متعتها تباعاً، وتكون بمثابة استفزاز، او وخز لذاكرة القارئ، ليضيف اليها مقتنياته من الصور المرافقة في خزينه وتجربته.

ومن الملاحظ ايضاً امكانية الكاتبة في تعشيق كتلة النص، الذي بدأ ينشط من منتصف الكتاب، فأغلب الروايات العراقية والعربية يتم فيها الفصل بين الجانب الحدثي، بمعنى الضخ السردي للحدث وما يقابله كحبكة حاصلة، وبين الوصفيات والأمكنة، بل حتى الجماليات الإنشائية. أما مراقبة الناقد للنص فهي تتحد بعدد من الاساسيات او المستويات، من بينها إمكانية الكاتب لواقعية التعشيق، فيبدو جسم النص متكاملاً في بنية واحدة تقوم برفعه. وفي هذا اشادة بمقدرة الكاتبة التي بدت جلية في فصولها الملتهبة ومنها الخاصة بواقع انفصال سلوى عن زوجها، ومن ثم موته، مع احتباساتها الإنسانية المفعمة بالحسية وتضارب الرغبات، خصوصا تلك المتعلقة بزواج له دوافع سياسية تقدمت على الأحاسيس وحرية الاختيار. الأمر الذي اتاح لدنى مساحة أوسع لوصفيات المكان معشّقة بكم الانكسار النفسي للشخصيات، فكان بإمكانها وضع الاستدراكات والذكريات، خصوصا تلك التي مازالت خيوطها عالقة لحد اللحظة كزواجها وطلاقها ومن ثم موت طليقها، وعلاقتها ببسيم التي بدأت تفتر، وما له من علاقة بـ هاني. والأكثر من ذلك ما كان يتملّك هواجسها من صِدام بخصوص ابنتها وفاء/جماهير وهربها سرا الى والدها في بغداد. ففي فصل (الألفة والفراغ) وهو الفصل الذي أشعل عواطف الأم سلوى. حتى جاء اتصالها من كردستان بسم جديد هو (مريم). وهنا تكون رمزية الإشارة بثلاثة أسماء، جماهير، وفاء وأخيراً مريم، كاشفة انتحالية لثلاث مراحل كذلك، الأول النضال والسجن، والثاني تغيرات مرافقة لبُنى التفكير والايعاز، بعد التحولات الأخيرة، والثالث هو النتاج المنطقي للأحداث جميعها، يظهر كمن يحاول تغيير جلده الى الأبد، بعد أن بلغ الأم «…أن وفاء غادرت العراق مع زوجها…»، حتى يقينها الذي جاء عبر مكالمة تلفونية من وفاء التي اخبرتها «عن احتقارها لمَن ارتبطت به حال مغادرتهما العراق. فانفصلت عنه، والتحقت «بدراسة جامعية في مدينة أخرى»، تميزت «بطبيعتها الساحرة الاستثنائية…»، فتفهم الأم، من بين كلامها، انها حصلت على منحة في احدى الدول الاشتراكية. بطبيعة الحال اضاف هذا التصاعد عقدية أخرى مفاجئة، أثارت كثير من التساؤلات، مفعمة بحسية شفافة، وعاطفة من نوع آخر، حينما تكون التوقعات أمرا واقعا، تحاصر الأم وتحكم عليها جميع المنافذ وتحكم ارتجاها، ليظهر: أن واقع الآلام والانكسارات لاتحده حدود، كما أن هذا النوع من الوصب لا يمكن شفاءه، بل يحمل في ثناياه بذور استدامته وازدهاره. ولذلك لم يتخلص نص دنى من التصعيد الدائم، فيظهر كمن يحمل أعباءً مضافة تباعاً، صاعداً بزاوية ميلان اكثر من 30 درجة. غير اننا لا ننفي ان سرد الكاتبة احتوى، على مفاصل هادئة اعانته على الاستمرار. وهذا بالطبع في صالح تقنية الكاتبة التي سعت الى توزيع ذروات نصها في سياقات مختلفة مع جامعها الأساس.

وفي جانبه الآخر، ارتكزت الدلالات الغائبة، بمعنى جذورها القديمة، على قصد تأخيرها بعقديتها في عدد الاعتقالات وطرق التعذيب، وتشابهها مع ماضيها، بما يقارب ستة عشر عاماً وهي ما بين عام ٦٣ و 79، ولكن مع حضور أجيال جديدة متروكة للقدر. زوجة بسيم «هي التي عادت بالطفل..» (عامر) الى بيتها، بعد اعتقال والديه، وتقول لخاله طريح الفراش جراء التعذيب «إنه ابن اخته، وعليه أن يتكفّل به»، وقررت «على الفور ترك عملها في الوظيفة، ورهن حياتها للطفل. من جانبه هو يقول «لا يكاد يعرف ابن أخته، إلا عبر اخته حسب…(..) حتى دفع بالحزن جانباً ونهض».

ومازلنا في فكرة تعشيق النص التي تقوم به الكاتبة، فيمكننا وصل النسيج المتقطع بعضه ببعض مع رفده بطاقة جديدة ناقلة. أرى في ذلك احترافية اتقنتها دنى جيداً فأستطيع القول: أن مجريات الرواية كانت على نحو خزين شبه متكامل في ذهنها، فاحتاجت فقط إلى اختيار نظام سرد مناسب يشبه أحداثها، التي حاولنا جمعها تباعاً ومن ثم تصنيفها حسب الواقعة احياناً، وحسب نوعيتها احياناً اخرى. بحيث نلحظ في الفصول التالية استدراكات، يتداخل فيها الآني والقديم، فهنا تكون للأحداث وقعاً مميزاً. ففترة الحرب الدائرة مع إيران طبعت حتى الأحداث القديمة برؤية مختلفة، وكأن الحدث اختلف بمقدار تأثره بالشحنة العاطفية وكمية تأثُر الحياة بالحرب الجديدة. انحسار الحياة الواضح وقت اندلاع الحرب وملاحقة المعارضين افضى إلى تعرض بسيم للمسائلة والاستدعاءات في عمله الجديد، والكثير من الاختلاجات التي لم تحرره من سجنه نفسيا، جعل بسيم يقرر «…أن يركب مع الآخرين موجة الهروب والنزوح…»، ولكن ذلك انصب فقط على الخيال. وهذه الرؤية المتخيلة هي التي تجعل الانسان في وقت الأزمات يعيش يوماً آخر. وعلى نفس الوتيرة تزداد حيرة سلوى، في الزمن ذاته، خصوصاً وأن انفتاحاً مصمماً على وفق مراهقة ابنتها وفاء، أدخل الأم وابنتها في مخاض لم تدركاه قبلا. وعليه طفحت إلى الوجود مفردات جديدة واجهت نص الكاتبة وعليها التعامل معها كحبكة فرضت نفسها. ومع التعامل مع هذه المفردات التي طبعت العالم الجديد لوفاء، كدراستها وصداقاتها الجديدة ورغبتها بتعلم الموسيقى، واختيارها قضاء اوقات الفراغ، ومن ثم علاقاتها العاطفية، فجنّت الأم لمنظر ابنتها مع الشاب في بيتها، فلم تتمالك نفسها بالرغم من محاولتها لجم عواطفها، فـ «لم تتوصل إلى غير خلع حذائها، وقذفها بوجهه.. (..) وكأن وفاء تعيش حياة عادية مستقرة، تقصد فيها حفلات، تقيمها النوادي المختلفة…(..) وكأن لا شيء رهيب في الأجواء». نلاحظ هذا الفعل الاستدراكي في مفاصل مهمة من الفصول الأخيرة، فكما أسلفنا بأن المنتج الجديد للحياة قاد الناس الى تغيير مفاهيمهم بل قيمهم التي البسوها القداسة في وقت ما. يندرج ضمن هذا السياق الفصول المتأخرة من الرواية التي اختصت بعقد المصائر والنهايات، فمنهم من تغيرت مواقفه وافكاره اليسارية، ومنهم من استبدلها بنقيضها تلك الخاصة بـ ثورة تموز. حتى يختصر ابو الحارث شريك بسيم، افكاره بقسم «…كنا والله أكثر مدنية، يا أخي. لا أقول لم ينقصنا شيء، لكننا على الأقل على الطريق…»

هذا المستوى من التناقض وصفته الكاتبة، حتى قبل الشروع بكشفه، بـ«خطان متوازيان للحياة، واحد ملّون، والآخر أسود». وتلك ذروة اهتدت لها دنى معززة نظام كتابتها الذي يحتوي تباعاً على عدد منها، ثم تلجأ الى مساحة توصيفية محايثة، بمعنى حضور النص، أو مختلفة، كما يحصل هنا بإشباع تغيرات الحياة والعلاقات، وضخ السلطة لمفردات جديدة خاصة بالانفتاح، في تعمية مقصودة للإيهام ومدارات مظاهر الحرب، ومن جانب آخر التعتيم على ملاحقة السلطة لمعارضيها آنذاك. وبهذا رصد أو مسح لتحولات مجتمعية كبيرة مرافقة، انتجت نزعات افضت إلى خلق ثقافة معتمة جديدة، يمكن اعتبارها (تسجيلية تاريخية) وشواهد منضبطة أحسنت الكاتبة التعامل معها، كالتغيرات الحاصلة بالريف والهجرة منه على وجه الخصوص. ومن الملاحظ في هذه الفصول دخول شخصيات جديدة كالنجار في محله تحت شقة سلوى، الذي لم يسلم من الاعتقال في وقت لاحق، وصديقتها الطبيبة عفاف التي تلجأ لها وتختلف معها في تفسير النزوع الانساني لوفاء، غير أن تلك الشخصيتين بقيتا، للأسف، معطلتان لم تأخذا مساحتهما، عدا السردية المبسطة، في وقت كان فيه المستوى الروائي إجمالاً بحاجة إلى شخصيات ضامنة غير الأساسية منها. فهنا نشعر بأن ملعب الكاتبة، بمعنى المساحة السردية، كبير ويحتاج إلى اعمدة شادة أخرى. اعتقد أنه كان على الكاتبة العناية بالشخصيتين من أجل انتاج ثراء آخر، خصوصا أن الوظيفتين اللتان يشغلانهما على علاقة مباشرة بالناس، بما فيها ما تحمله من مؤثرات ثقافية واجتماعية وعاطفية تساعد على فتح النص. لذلك وضعنا ملاحظتنا عن (بطنها المأوى) وحاجتها الى تنوع بطولي، أو ثانوي لكنه حاضر في تقدير أقل.

وما زلنا في عقد المصائر والنهايات. باعتبار النهاية الجزء المرفق والمكمل للنص، نجد لدى دنى ذلك النسيج غير المخادع للسببية، وهذا ما احسنت التعامل معه وصياغته من بيئة الأحداث والنتاج المنطقي للعقد الكثيرة التي مررنا بها في روايتها. لذلك انعقدت النهايات على نفس التحولات النشيطة في النص، والتي هي بمجملها مخاضات نفسية تواجه اسباب مادية صارمة منصرفة الى التحولات السياسية والحرب وتغيير السلوك الجمعي، وبذلك تتثاقل خطواتها مع كل خطوة بسبب الإزاحة التي بدأت تقصر وتضيق زاويتها ليكون شكلها بالنهاية عقربي ساعة متلازمين تماماً.

فلم تكن المصائر والنهايات ذات زوايا غير حادة ولم تظهر كقطوع نهائية بقدر ما هي استمرار سردي يختص بتحولات النص والحبكة التي تحدد فضاءه. من جهة أخرى يكون للمكان معنى وجودي أكثر من الزمن، او كلاهما يفعلان الفعل ذاته، ومع هذا التطابق المثير، لا يهم إن غادر هاني وسافر الى الخارج، فتتضح صورته كما رأينا في القسم الأول من الرواية، وهو الصدى المعبر عن الزمن، او أن خسر الخال بسيم كل ثروته بمغامرة حمولة النفط المهرب بسفينة يتم مصادرتها مقابل التكتم على شركاء الصفقة.

أما في معرض العلاقة بين سلوى ووفاء/مريم المهاجرة الى بلد اجنبي، فأنها انعقدت على تصميم ذاتوي صرف يستمد من اسباب الماضي نشاطه، بالرغم من حجم العاطفة والبحث احدهما عن الأخرى. ذلك الشرخ القديم الذي ظل يراكم قيحه مع العمر ومع سَكَنه الموجع في ماضيه، فباتت عقده تكبر مع اي متغير جديد يجابه بالرفض ومع كل محاولة لتقريب المسافة بينهما. فهنا نقع على التناقض بأشد اشكاله بين الأم والابنة فلم تُسد لهما الاحاديث التلفونية والاشتياق سوى جفاء أكثر وعدم ثقة، وكأنهما متورطتان بمكالمة مزدوجة اشبه بـ (الباردوكس) المحيّر لكليهما. هذا الجو من عدم الوفاق حدى بكل منهما بالتمسك بما لا يرغبه الآخر. من جانبها الأم تتشبث بطلبها بعودة ابنتها التي تمسكت هي الأخرى بانضمام الأم اليها وتدبيرها لسفرها، وكلاهما يعرف ان الأمر محال. فهنا الفعل الحاضر لا يستقيم الا بالاستمرار السلبي على نحو من عدم التراضي (Compromise) للواقع الملتهب وللشد العاطفي القديم بعقده، فهو بمثابة وفاء الكاتبة لاحترام مشاعر ابطالها، لذلك وصفناه قبل قليل بـ غير المخادع للسببية، بمعنى الخارج من رحم الرواية وافكارها.

حبات العدس بحجم البيض، وهو الفصل الذي اعتبره الأخير، بالرغم من الحاقه بفصل خاتم، يبدو لمن قرأ رواية دنى قراءة سريعة، نصاً ملتبساً لكثافته وقوته. وكما اسلفنا أن تقنية الرواية لدى دنى تتجاوز أو تتعدى السرد المألوف إلى خلق مستويات أو ذروات شبه متشابهة من حيث ارتفاعها، بحيث تبقي على النسيج الحي للنمط السردي، فلم يغادرها التصميم/النموذج (model) الأساس، سوى ببعض الوصفيات الدالة، الكاشفة لجذور عقدة محددة حسب. فهنا تظهر المتلازمات العقدية غير المفاجئة باعتبار سببيتها التي أوضحناها قبل قليل، ولكن تجميعها جاء كما لو انه تلخيصاً مخلصاً للكاتبة لما بدأته فنحن نعلم أن هاني على وشك السفر أو انه سافر فعلاً، ونعلم أيضا بأن وفاء سبقته للهجرة، ونعلم بالرضوض والانكسارات الضمنية التي اتت وتوزعت على مدار النص، مما اعطاها هيبة ووقاراً، فنحن نتقبل النص دلالة احترامه وشغفه بسرد معاناتنا الإنسانية، ناهيك عن عمق المعنى المؤول حسب الحاجة. فلا غرابة اذن أن بسيم سيودع هاني في ليلته الأخيرة، أو أنه شخصياً عزف عن أمور شتى أضحى استمرارها محالاً، أو ضرباً استهتارياً، أو بأقل حال تغريبياً روائيا إن لم تنسجم مع ذاتها، أو أن الأم وابنتها توغلان بنمط المغالاة وإثم العلاقة غير الودية والمشاكسة بينهما فأدركت سلوى «…رغم رفضها القاطع لتغيير حياتها، وما ترتبت عليه أن حياته (بسيم) بالمقابل صارت ما تُمليه عليه اللحظة، والآن الوضع بأكمله مقلوب رأساً على عقب»، وهذا ينسحب على جميع الشخصيات بالطبع. وهو بمجمله نتاج منطقي جرت الإشارة له على نحو تعزيز لإدارة النص وتهيئته لنهاية منسجمة، قد لا تهمنا لأننا تعرفّنا عليها واستنتجناها من خلال ثنايا السرد. فماذا يبقى؟.

الاعتراف

كتلخيص لواقعين احدهما حقيقي والآخر قريب من الافتراضي، بمعنى ما بدأنا به نقدنا، وهو الصوت وصداه، والتي عالجتهما الكاتبة دنى غالي على مساحة ورقية قدرها 244 صفحة، فأحسنت العناية بهما كعالمين يتقاربان ويبتعدان بانزياحات بمجملها غير مطمئنة لشدة انقباضهما وتوترهما ومن ثم عصابيتهما، فآثرت في الثلث الأخير من الكتاب جعلهما متقاربين/متوازنين قدر الإمكان. لكن الكاتبة، وبعد أن استنفذت ادواتها العملية لتنهي روايتها (بطنها المأوى) بأدوات حسية صرفة تتطابق اجمالاً مع متن السرد، ارتأت استخراج ادواة محفزة الفنا وجودها مشفوعاً بقوة التناقض والانجذاب كشكل ممغنط بالموجب والسالب، فأبقت الكاتبة على المسافة المشدودة بين النقيضين، وكأن لا مفر منها لا في وطن يُهجّر ابناءه، ولا غربة تمنحهم الصفاء، فيبقى الفراغ ما بين الصوت وصداه، بين الوطن والغربة، بين الماضي والمستقبل معلقاً بذات الخيط الممغنط محافظاً على وجوده كما المجرات والأكوان. تلك الفيزياء البشرية المندفعة الى فنائها بعد ان افرغت ما في جعبتها من ادوات تدميرها الذاتي، اجمالاً، لا تقبل المساومة أو الانحسار، إنما هي التي تكشف سرها ولكن بعد فوات الآوان. وهنا نقع على السر الآسر (للبطن المأوى) الذي يبقى الوحيد، المكان/الزمن، ما يُركن اليه ولا شيء غيره. فهنا كثرة توالديات النص، التي هي اصلاً آتية من توالديات الحياة، بمجملها عنيفة وقاسية، تبقي على سلطة مؤهلة اصلاً لمواصلة الانكسار، فلا رغبة لأي طرف من الأطراف بمغامرة شخصية، ولكن النضج العام للسياق السردي يفعل فعلته كمغامرة سلبية، وعلى ذلك اقفلت الكاتبة جميع فصولها بذات السياق، فأن لم يدركه القارئ في بداياته فأنه سيصطدم به حتماً في مراحله المتطورة. واذا ما كان لتفكيكية (دريدا) المساهمة الكبيرة في تحليل النص، فأن الجانب التحليلي يفضي كذلك الى نوعية القراءة كما يقوم الناقد وكما عمل كاتب النص قبله بوضع الغامه التي يخشى أن تتفجر عليه في أية لحظة، وعلى ذلك يقوم الجميع الكاتب والناقد والقارئ بذات المناورة.

اسمحوا لي بقليل من الاستطراد.

أقول: هنا نسجل؛ لا، عذراً، نحن لا نسجل مطلقاً، فالقدرة المبذولة في هذا النوع الكتابي الموجه للإنسان في بحثه الوجودي لا يقاومها أي إغراء سردي آخر، ويتوجب امتلاكها كفيروس طبيعي متناقل بين العناصر الثلاث، الكاتب والناقد والمتلقي. وعليه نحن لا نسجل ارتياحا او اعجاباً حُكمياً مجاملاً متناقلاً بقدر ما نقدر الانضباط التلقائي للنص، حتى وإن كان في اشد حالاته فصامية او عصامية، بمعنى الاكتفاء. وللتوضيح اكثر لا يتوجب علينا، على سبيل المثال التصفيق لقوافي خيرة الشعراء، مهما علا شأنهم، بسجع ممل كإظهار مصطنع، او قاموسي منتخب، انما نقوم بأحكام فكرة انضباط تلقائية النص بشاعريته، وهي صفة للإبداء التوالدي المستمر حتى النهاية. وان فعلنا فليس بالمقدور حتماً انتاج ادباً يوازن ظاهرية النص مع باطنيته ومن ثم اطلاق شرارته، ذلك أن حالة التفكيك يجب أن تفضي للكشف المُيسّر. لذلك توجب على القارئ أن يقوم بدربة من نوع آخر، لا علاقة لها بالمتعة بوجهها المطلق، وإن أراد، فعليه ان ينتخب نصوصاً أخرى تسلمهُ لنوم هادئ حسب. وما يحسب برصيد القارئ أنه جعلني أن أختار طريقتي النقدية بمشاركته، فيظهر لي دائما بمؤهلات تفاجئني، ولا أستبعد الكاتبة دنى عن هذا المحيط.

ومع هذه الرحلة المتعبة مع عمل دنى غالي، اقول متعبة، بسبب قوة التوتر وحجم معاناة الكاتبة في اختيار موضوع لرواية شبه ملحمية تناولت جيلين أو أكثر، وموزعة على عدد من المناخات. أستطيع القول إن سلطة الحاح النص على الكاتب، فقط، هي التي تجعله يخوض غمار التجربة الكتابية متناولا اياها من زوايا مختلفة بالمرة فيما لو قيلت على نحو حكاية او توصيف لواقع حزين مرير، بحيث يبقى «الماضي لا أقدسه، ولكن يؤسفني أن أقول لك انه أبهى رغم كل شيء…» حسب ما يفكر به بسيم في (حفل) توديعه ابن أخته هاني في ليلته الأخيرة. بحيث ينتهي الأمر بمجمله الى ماضي تقبض القه (حبات العدس) كلما التمع، ولكنه لا يخفي المستقبل كفكرة محاجِجة، إلا اذا ارادت الكاتبة أن تنهي عملها به كنوع من اليباب المبكر يظهر في خلفية الحياة وليس أمامها، وهذا لن يحصل. فلم يطلق هاني قدميه للريح قبل أن يفتك بفضاء الصمت بثلاث طلقات، فيما تبقى تساؤلات النص عن الأبطال الآخرين على نحو افخاخ شبه مموهة او غامضة حتى. ومع هذا البلوغ الحاصل مع ذروات متعددة، تكون دنى طالب قد اكدت، ليس جزافاً، طريقتها بمعالجة تركيبية النص، سيما نحن رأيناه على نحو أقل في أعمالها السابقة. وبهذه الحال لا اضع نفسي، كفاحص وناقد للنص، في موقع المانح لدرجات النجاح الكئيبة، حتى وان اكتملت، فأنها لا تضاهي مصداقية المحاولة والتجربة والخصوصية الكتابية. لكنه من واجبي أن اقوم بتفحص ركائز النص وانزياحاته لأتأكد أن (بطنها المأوى) رواية جدلية ستثير الاهتمام وستعمل على ارساء نوع من المراضاة، أولاً، لتضمن لاحقاً مكانتها الخاصة في سياق السرد المركب الحديث، الذي بدأ كتابنا المبدعين بسبر عوالمه، سيما أنه لا يكاد يكون فسحة للاسترخاء في واقع غريب يزداد غرابة، فيدرك الكاتب حق الإدراك أن عليه التعامل بمستويات ضامنة مختلفة، وهي مهمة معقدة بالطبع، لكنه يرى في محاولتة قيمة وقوة من التحدي تضعه على حافة اجتياز الحد the-limit- كتعبير معاصر يطابق رغبة الانسان بالكشف والابتكار.

اكتفي بهذا القدر لادفع بمعنى جديد يستبدل المواقع فيصبح: (القارئ، الناقد، الكاتب)، وفي هذا لنا جولة او جولات أخرى بأدب كتابنا العراقيين المهزومين/المنتصرين، فأحييهم سلفاً بعدما غمرني نص دنى طالب واصابني بأكثر من دهشة. شكرا لكم، لصبركم بقراءة هذه المادة.

……………..

*عن “الحوار المتمدن”

مقالات من نفس القسم