بشير السباعى وأحمد حسان

شهادتان حول الشعر بينهما سبع سنوات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

علاء خالد

قبل أن أتعرف علي المترجمين بشير السباعى وأحمد حسان؛ كان اسماهما يتردد فى الأوساط الثقافية فى بداية التسعينيات، والتى كنت وافدا جديدا عليها، كماركة مسجلة لثقافة رفيعة وتجربة حياة وسفر ونضال سياسى. فى أول لقاء جمعنى بهما، كل على حده، كانت أرى لمعة البريق تلك، التى كانت تحوط هذا المثقف النوعى، قبل أن تختفى تماما وتتماهى مع أضواء الحياة اليومية بعد ذلك. فكان طبيعيا أن اقترب منهما، وأن أحاول الدخول فى تلك الدوائر الفكرية التى يجوبان فيها ويتحدثان عنها ويترجمانها.

كانت أهمية بشير السباعى وأحمد حسان أنهما حملا على عاتقيهما، بدون افتعال، استمرار ضخ نوع جديد من الأفكار فى الأوساط الثقافية وفى الحياة العامة، فى أشد لحظات تردى الثقافة المصرية وخوائها من الأفكار. فى ذلك الوقت لم توجد، وحتى الآن، نظرية اجتماعية أو سياسية أو أدبية، سوى حديث مفتعل عن نوع من التنوير السطحى الذى كان تقوم به أجهزة الدولة ضد الجماعات الجهادية. كل هذا بالإضافة لحرب العراق الأولى، والذى زاد من حجم التشظى داخل المجتمع ككل. بالنسبة لى، فى تلك الفترة، كانت ترجمات أحمد حسان وبشير السباعى مرآة تعكس أوضاعا أخرى فى العالم ومسارات تفكير أكثر رحابة. كان دورهما فى هذه اللحظة الفارغة، مع آخرين فى مجالات أخرى بالتأكيد، هو زرع نوع جديد من الأفكار داخل صحراء الواقع الذى نعيشه.

تعرفت على بشير السباعى عبر كتاب “فتح أمريكا أو مسألة الآخر” لتودوروف. والذى يتحدث عن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر. عبر البحث والتحليل فى ملابسات فتح أمريكا فى القرن الخامس عشر الميلادى. للمرة الأولى لاترى المستعمر فقط كقاتل، ولكن كقارئ للأفكار للبلاد والثقافة التى يستعمرهما. أبهرنى هذا الكتاب وتتالت الكتابات التى أبهرتنى والتى قام بشير بترجمتها، وخاصة كتاب “استعمار مصر” للكاتب الإنجليزى لتيموثى ميتشل، وثلاثية الكاتب الفرنسى هنرى لورنس حول الحملة الفرنسية على مصر وأصولها الفكرية فى الوعى الأوروبى.

أما أحمد حسان فقد عرفته من خلال ترجمته الجميلة للشاعر الألمانى بريخت، وأيضا من خلال ترجمته لنص لوركا عن الروح الشعرية ” الدويندى”. كان أحمد عائدا فى ذلك الوقت من رحلة طويلة فى أسبانيا وباريس قام بها أغلب جيل السبعينيات. ثم خطفتنى مقالته الطويلة المترجمة عن “مسألة مابعد الحداثة” للكاتب الأمريكى فريدريك جيمسون، التى نشرها فى مجلة “الكتابة الأخرى” فى بداية التسعينات، تكتشف لغة وأفكار جديدة تماما لم تمر على مصر من قبل، عن مجتمعات استهلاكية سحبت بريق القداسة عن كل شىء. كانت مقالة صادمة تجعلك تتعارك معها ومع أفكارها من فرط قوتها وتسلطها على الوعى. وربما هو فعل “الصدمة” أو “التنوير الذاتى” للقارئ، الذى كان يرمى إليه أحمد من ترجماته.

بالرغم من اختلاف الأزمنة التى يتحدث عنها كتابا “فتح أمريكا” لتودوروف و”مسألة مابعد الحداثة” لفريدرك جيمسون، الا أنهما يمسكان معا بأول الخيط لبداية الفكر الاستعمارى، ونهاية بتوارى هذا الفكر الاستعمارى وراء إيديولوجيات جديدة، ليست سياسية هذه المرة، وليس لها أشكال استعمارية مباشرة، لكنها لها أشكال حياتية كالعولمة. لقد انتقلت السياسة إلى ملعب الحياة اليومية ولم تعد مقصورة فقط على المنظرين أو اللاعبين الأساسيين فى أجهزة الحكم.

كانت ترجماتهما شكل جديد من أشكال التنوير، ولكنه تنوير يقوم بفضح هذا التنوير الاستعمارى أو الاستغلالى. لقد تتبع الاثنان، بدون قصد، أو بقصد، هذا الخيط الاستعمارى فى العصر الحديث، وأقنعته وتبدياته المختلفة.

الاثنان، أيضا، لهما اهتمامات شعرية سواء بترجمة الشعر أو بالكتابة الإبداعية كبشير السباعى، بمعنى آخر لديهما انهمام بالنصوص الغامضة والمركبة والمعقدة فى جملتها. فالنص الفكرى الحديث له شعرية خاصة يتدخل فيه شخصية وموهبة كاتبه مباشرة، كأنه أديب بأشكال مختلفة: أديب سياسى، أو أديب اقتصادى، أو أديب جغرافى، حتى نصل لتعريف لهذا الحساسية التى تُكتب بها تلك النصوص الفكرية الجديدة. هذه الاختيارات سمحت بنزوعهما الشعرى أن يتضح فى الترجمة، بمزاحية شخصية حساسة تظهر من وراء قناع الكاتب والكتاب المُترجم. لقد جاءت ترجماتهما استكمالا لسيرتهما اليسارية، ليس فقط لاستكمال الفكر اليسارى، ولكن لاستكمال هذا الروح الإنسانية التى تغلفه، والتى تفضح الاستغلال، وتكشف الشبكات التى تسيطر على الإنسان الحديث وتستهلكه وتشيؤه. إنه المشروع اليسارى القديم ولكن بصياغة جديدة وشخصية.

لقد ساعدتهما هذه الخلفية، أيضا، فى الإمساك بمفاصل فكرية هامة فى التاريخ الحديث ونقله للغة العربية، باختلاف هذا الزمن. فبينما حسان يبحث عن لحظة جديدة للفكر، ويجرى مخلصا وراء نزقها وبريقها، مدعوما بحدسه الشخصى فى انجذابه لها، يغوص بشير فى التاريخ، فى أصوله الكلاسيكية التى شكلته. خلالهما رأيت دأبا واستمرارا وإقبالا علي الترجمة بمتعة المبدع. أنهما مثالان لمؤسسات شخصية. والعمل المترجم يتحول، على يديهما، إلى إبداع، إنه لحظة ذروة للمترجم. لقد أدخلا قاموسا جديدا فى ثقافتنا بترجماتهما، عبر لغة مركبة، وأحيانا شديدة التركيب والأسلوبية، ربما هى لحظة الفكر الحديثة فى العالم الجديد شديد التشوش.

ربما مايحركهما حتى الآن هو صدى هذا المشروع اليسارى القديم بعد أن أخذ مساراته وسط الحياة، بعد أن فشل فى أن يتواجد كنظرية يطبقها الناس والدول، ولكنه عاد لينجح عبر أشخاص آمنوا به ومنحوه من ذواتهم وقاموا بترجمته.

………………………………………..

* مقال نشر عام 2013 بجريدة التحرير الورقية

مقالات من نفس القسم