برا وبحرا

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طه حسن

يسافر "توبان" وحيدا إلى إسبانيا وفي حقيبته ديوان "Outlines" اليتيم  للشاعر "جان فانتوريني"،  وكتاب <>  لمؤلفه "أندريه روسل"، ورواية "المخطوط القرمزي" للكاتب الإسباني "غالا"، ليطوي الرحلة ويهون عليه السفر.. . يمتطي الأوطوبيس من بداية الخط إلى نهايته، ينزل ويمتطي أوطوبيس الخط التابع وتابع التابع، يربط الخطوط فيما بينها...، يتجول في المدن بثمن مناسب، يزور شوارعها وأحياءها من خلال النوافذ الشفافة...؛ يزور"كارمن" صاحبة مقهى DIGNIDAD  باشبيلية...، يذكرها بواقعة كرة القدم، يعتذر لها، تبتسم له، تقبل اعتذاره. يحكي لها قصته مع المعلمين المدمنين على كرة القدم والإسفنج والشاي. تستمع إليه بشغف رحيم. يروي لها بإيجاز حكايته  مع  بيرو- قراطوية الشركة حيث كان يشتغل، وصنائع الشاف "زنكاوي" المفلسة وقرينيه "عبد الخناس" و"غروش"... . تغشى سحنة كارمن علامات الحسرة  والأسى، تقطب حاجبيها بدون تحريف لقواعد علم البرمجة العصبية اللغوية...، تدعوه لمشاهدة  مقابلة بين فريقين اسبانين شهيرين، قائلة: "لولا الإدمان على مشاهدة كرة القدم، لما كان لهذه اللعبة مكان". ينبئها  توبان بأن "أمبرتو إيكو" ضبط ذات لحظة متلبسا بكراهيته  للمشاهدين المهووسين بكرة القدم، مثلما تبين "عبد الصبور" عداء الحاج زنكاوي للثقافة والمثقفين. ضحكت ملء فمها. كانت كارمن ذات ثقافة بسيطة. تسأله: "كيف ذلك؟ أنبئني بهويته". يجيب: "إنه كاتب ومفكر ايطالي جميل باسم الوردة". تبتسم بإعجاب، تختزل: "أنا من أصل خيتانوسي، لكني لم أتبع حرفة أبي و لا نمط عيشه"... .يعدها  قائلا: "سأبعث إليك  بورتريه أمبرتو إيكو". تشكره  كارمن، تؤكد دعوتها لمشاهدة المباراة. يوافق معقبا: "إني أقبل دعوتك بشرط أن لا يصيبني شيء من هوس المشاهدين أو كراهية أمبرتو إيكو أو عداء الحاج زنكاوي". تضحك من جديد. تودعه: Hasta pronto . مساء ذلك اليوم، يتأبط  الصحف، يأخذ مقعده  في مقهى  DIGNIDAD ...

في صباح اليوم الثالث، يتوجه توبان نحو محطة مدينة هويلبا. يحجز تذكرة السفر إلى مدينة « FARO » البرتغالية. في الوقت الذي يسأل سائق حافلة  نقل المسافرين عن موعد الذهاب، ينتصب إلى جانبهما شخص بلمح البصر ليسترق السمع، كما كان يفعل عبد الخناس وغروش في العمل. ينظر إليه توبان باندهاش. يحمل وجهه سمات رجل بحار. لا يتجاوز عمره خمسين سنة. يبادر توبان  بلهجة  تونسية سائلا إياه عن جنسيته  و وجهة رحلته، يجيبه توبان:

   –  أنا مغربي، في طريقي إلى مدينة فارو.

   يرد عليه موضحا:

   –  أعتذر، أنا أيضا مغربي من مدينة الدار البيضاء، إني مسافر إلى فارو مثلك. شاهدتك تتجول هنا وهناك.

   يتبادر إلى ذهن توبان تساؤل بديهي، يستفسره:

   –  أولا وقبل كل شيء، أريد أن أعرف لماذا خاطبتني بلهجة أخرى.

   يجيب:

   –  ظننت أن جنسيتك تونسية، أوحت لي بشرتك بأنك قادم من هناك.

   يصمت، ثم يضيف معتذرا:

   –  لقد سبق القول لتونس، رأيت في وجهك شحوب إنسان عربي في طريقه إلى صرخات أو صيحات أخرى، وأردت التعرف عليك  ومصاحبتك في رحلتك وغربتك

   يعقب توبان :

   –  فعلا، أتى شحوب سحنتي من البيرو- قراطوية

   امتطيا حافلة نقل المسافرين. تجاذبا أطراف الحديث خلال ساعة تقريبا حول المهنة والإقامة وغيرها. قدم الرجل أوراق تعريفه وجواز سفره  إلى توبان. طلب من توبان الاطلاع عليها. اسمه الكامل: بحري زنكاوي، مهنته : تاجر. حدث توبان نفسه: “تركت  الشاف زنكاوي  بالدار البيضاء، فإذا بطيفه يلاحقني في رحلتي خارج الوطن: أحدهما بحري بالهوية والآخر بري بالصناعة…”، يسأله توبان:

    –  ما نوعية التجارة التي تشتغل بها؟

    يجيب:

    –  إني أتاجر في كل شيء.

    يتوخى توبان الحذر من <<التجارة في كل شيء>>. يحدث نفسه مرة أخرى: “لا فرق بين الحاج زنكاوي البري وزنكاوي بحري، تستوطن البيرو- قراطوية البر والبحر…، ربما يكون الحاج زنكاوي البري يتاجر بدوره في كل شيء…”. يصمت توبان. بعد لحظات، يخرج زنكاوي بحري وثائق أخرى ليقترح على  توبان:

    –  انظر إلى هذه الأوراق. ستفيدك كثيرا، إنها نماذج من أوراق الإقامة بالبرتغال.

    يستفسره توبان:

    –  هل تريد مني أن <<أحرك >> إلى البرتغال؟

يجيب:

    –  ولم لا إن كنت مهتما بذلك، مقابل خمسمائة أورو فقط؟ علاوة على أني أضمن لك سلامة الإجراءات إلى أن تستقر بالبرتغال.

يلح زنكاوي بحري. يرد عليه توبان بحزم:

–  لا أعتقد ذلك. أولا، ليست  معي النقود الآن، ولا أفكر في أن <<أحرك>> إلى البرتغال. سأزور صديقا لي بمدينة فارو. ثانيا، أفضل العودة  إلى الدارالبيضاء لأستمر في التصدي  للبيرو- قرطوية وأنهي ما شرعت في كتابته حولها كما وعدت زوجتي…  

لم يبد زنكاوي بحري أي اهتمام للرد على توبان. التزم الصمت. وصلت حافلة نقل المسافرين إلى المحطة ما قبل الأخيرة. عند الركوب في السفينة، لم يعد لزنكاوي بحري أي أثر. اختفى عن الأنظار بسرعة. ربما اختفى في النهر أو البحر قبل الوصول إلى فارو! استرجع توبان أنفاسه عند الوصول إلى هذه المدينة، لتعود به الذاكرة إلى مسقاة الحي البرتغالي (الملاح) بمسقط رأسه “مازاغان”. يأخذ  سماعة الهاتف ليطمئن أسرته. لم يتمكن من القبض على رنات المكالمة. يحاول ثم يحاول. يطلب المساعدة من شاب برتغالي. يسأله الشاب:

    –  أين يوجد بلدك؟ هل يوجد في أروبا؟

    يجيبه توبان مبتسما:

    –  في شمال إفريقيا؟

    يربت الشاب البرتغالي على كتف توبان. يعيد إليه السماعة قائلا:

    –  وداعا أيها الغريب.

    يساور توبان شيء من الذهول والحيرة. يجلس فوق كرسي قرب مخدع الهاتف. ينصت لوحي الضمير. يتساءل بمرارة: من الغريب؟ أنا أم شمال إفريقيا أم الوطن العربي برمته؟ من يحمل في جبينه آثارالغرابة؟ من أين أتتنا الغرابة؟  يجيب: “ربما من البيرو- قراطوية !”. يتساءل مرة أخرى: “ما الفرق بين الحاج زنكاوي البري و زنكاوي بحري والشاب البرتغالي؟”… . يصمت بضع ثوان، يردد في نفسه: “إني أشبه مصير الصحافة، نديمتي الطريدة، مازالت البيرو- قراطوية تتعاقبني أينما حللت وارتحلت، تعبر جائحتها الحدود والقارات بدون جواز العبور…”. يسترسل في كلامه، تتوالى الأسئلة…؛ بعد يوم  وليلة  بفارو، يعود توبان إلى مدينة قاديس بإسبانيا، يتوجه نحو شاطئها الشاسع، يحدق في زرقة الماء، تتراءى له جثت مهاجرين سريين تطفو على مسافة بعيدة من مركب صغير. بعد لحظات، يفاجأ بالتاجر زنكاوي بحري إلى جانبه من جديد ليعترف قائلا: “إنها جثت الباقين من المستخدمين الذين كانوا يشتغلون معي في الشركة، انكتبت أسماؤنا في الماء عندما أضربنا عن العمل، فحصلنا على تعويضات تبخرت ديونا، ولم نفلح في إيجاد شغل يناسبنا. فمنا من طلق زوجته وشرد أبناءه، ومنا من << حرك >> على متن قوارب الموت من أجل الجنان الموعود. فكنت أنا من الناجين … . دعني أسر إليك بأن ملامح وجهك وقسماته لا تخفى عني، استرجعت صورتك لما كنا في طريقنا إلى مدينة  فارو، أنت الذي سلمت لكل واحد  منا شيكا بمبلغ التعويض عن الطرد  منذ سنوات. ولما تأكدت من سحنتك عندما قلت لي: << ثانيا، أفضل العودة  إلى الدارالبيضاء لأستمر في التصدي للبيرو- قراطوية...>>، انسحبت حتى لا يصيبني << من الساعة الأولى >> ما أصابك تحت إمرة الحاج زنكاوي البري الذي يكره أن تكون للمستخدم نفس هويته. أما اسمي، فلا علاقة له بكنيته. في الماضي، كان أبي  يبيع كل شيء متجولا من <<زنكة لزنكة>>، فلقبه أصدقاؤه بزنكاوي… .  طأطأ  توبان رأسه. ما كاد ينبس بكلمة حتى اختفى زنكاوي بحري من جديد. عاد توبان إلى الدارالبيضاء لإتمام الكتابة.

ــــــــــــــــــــــ

*فصل من رواية “هذا فراق بيني وبينك” الصادرة أخيرا بالمغرب

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون