(بابا همنجواي) الذي ينقذ القطط

81.jpg
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إن ما يمكن أن يكون محفزاً للتفكير في قصة (قطة في المطر) لـ (إرنست همنجواي) أكثر من استخدام القطة التي تحاول حماية نفسها من المطر كمعادل رمزي للمرأة التي تفتقد الشغف في حياتها هو السمات التي أعطاها (همنجواي) إلى مالك الفندق .. ربما لن نصادف معاناة في التعامل مع القطة التي تواجه المطر كتجسيد لروح المرأة التي تعذبها لامبالاة زوجها، ورغبتها في الحصول على تغييرات مؤثرة تنقذ عالمها من الضجر ـ قد يكون الحرمان من الأطفال سبباً أساسياً لهذه الأزمة، وهو احتمال غير مستبعد يدعم دلالته بقوة وصف المرأة لاحتياجها إلى القطة: (أريد أن يكون لدي قطة صغيرة كي تجلس على حجري وتقرقر عندما أمسح بيدي عليها) .. لكنني أرى أن التفحص المتمهل لتفاصيل مدير الفندق التي أحبتها الزوجة سيقودنا إلى نطاق ذهني أكثر توتراً من هذا الترميز البسيط؛ فمالك الفندق كان: (متقدماً في السن .. طويلاً جداً .. ذا وجه ثقيل ويدين كبيرتين .. جاداً .. وقوراً .. مستعداً لإسداء الخدمات) .. لماذا لا نتأمل أيضاً هذه العبارات التي صاغها (همنجواي) لتشكيل علاقة المرأة بهذه السمات: (أحبت طريقته الجادة في تلقي أي شكوى)، (أحبت طريقة إحساسه بمنصبه كمدير للفندق)، (أحبت وجهه العجوز الثقيل ويديه الكبيرتين) ثم (بهذا الشعور تجاه مدير الفندق فتحت الباب ونظرت إلى الخارج) .. إن الرجل بهذه التفاصيل وبهذا السلوك لا يمثل مجرد موقعه الوظيفي كمالك لفندق أو حتى طبيعته الإنسانية كشخص مهذب، مراع للآخرين وحسب، بل إنه يمثل تحققاً أبوياً يتجاوز الحضور الأبوي التقليدي إلى فكرة الأبوة المطلقة، القدرية، العارفة بالأسرار، المستجيبة، المانحة بيديها الكبيرتين .. الأبوة المخلّصة، التي نتوقع دائماً أن نعثر على عطاياها المنقذة حينما نفتح بابً ما وننظر إلى الخارج ..

إن ما يمكن أن يكون محفزاً للتفكير في قصة (قطة في المطر) لـ (إرنست همنجواي) أكثر من استخدام القطة التي تحاول حماية نفسها من المطر كمعادل رمزي للمرأة التي تفتقد الشغف في حياتها هو السمات التي أعطاها (همنجواي) إلى مالك الفندق .. ربما لن نصادف معاناة في التعامل مع القطة التي تواجه المطر كتجسيد لروح المرأة التي تعذبها لامبالاة زوجها، ورغبتها في الحصول على تغييرات مؤثرة تنقذ عالمها من الضجر ـ قد يكون الحرمان من الأطفال سبباً أساسياً لهذه الأزمة، وهو احتمال غير مستبعد يدعم دلالته بقوة وصف المرأة لاحتياجها إلى القطة: (أريد أن يكون لدي قطة صغيرة كي تجلس على حجري وتقرقر عندما أمسح بيدي عليها) .. لكنني أرى أن التفحص المتمهل لتفاصيل مدير الفندق التي أحبتها الزوجة سيقودنا إلى نطاق ذهني أكثر توتراً من هذا الترميز البسيط؛ فمالك الفندق كان: (متقدماً في السن .. طويلاً جداً .. ذا وجه ثقيل ويدين كبيرتين .. جاداً .. وقوراً .. مستعداً لإسداء الخدمات) .. لماذا لا نتأمل أيضاً هذه العبارات التي صاغها (همنجواي) لتشكيل علاقة المرأة بهذه السمات: (أحبت طريقته الجادة في تلقي أي شكوى)، (أحبت طريقة إحساسه بمنصبه كمدير للفندق)، (أحبت وجهه العجوز الثقيل ويديه الكبيرتين) ثم (بهذا الشعور تجاه مدير الفندق فتحت الباب ونظرت إلى الخارج) .. إن الرجل بهذه التفاصيل وبهذا السلوك لا يمثل مجرد موقعه الوظيفي كمالك لفندق أو حتى طبيعته الإنسانية كشخص مهذب، مراع للآخرين وحسب، بل إنه يمثل تحققاً أبوياً يتجاوز الحضور الأبوي التقليدي إلى فكرة الأبوة المطلقة، القدرية، العارفة بالأسرار، المستجيبة، المانحة بيديها الكبيرتين .. الأبوة المخلّصة، التي نتوقع دائماً أن نعثر على عطاياها المنقذة حينما نفتح بابً ما وننظر إلى الخارج ..

كان الرجل مالكاً ومديراً لشيء أكبر من فندق توقف فيه زوجان أمريكيان، وكانت في أبوته عمقاً ذكورياً غامضاً ربما جعل من تدخّله في اللحظة المناسبة لتصحيح خطأ ما انتزاعاً شبقياً للمرأة نحو تحرر شهواني، عابر، ما ورائي كخيال أو حلم لا يتصل بواقع محكوم أو حقيقة يمكن التأكد من وجودها.

يفترض أحد التحليلات النفسية لشخصية (همنجواي) أن السلوك الذكوري المبالغ فيه الذي هيمن على حياته ـ المرتبط برغبته في أن يكون أكثر رجولة من أبيه ـ كان بمثابة إخفاءً للمكون الأنثوي النشط في شخصيته (الأدب)، والذي يمثل توحده مع اهتمامات أمه الفنية .. هذه الحالة التي فسرها (يونج) بأنه (كلما زاد التعبير عن “الأنيموس” / “الجانب الذكوري” في قناع الشخص / الواجهة الاجتماعية دل ذلك على قوة “الأنيما” / “الجانب الأنثوي” المكبوتة بداخله) .. قد يروق لتأويل ما اعتبار أن قصة (قطة في المطر) تعد افتضاحاً للجانب الأنثوي المكبوت في شخصية (همنجواي)، وذلك استناداً إلى ما قد يبدو انحيازاً لمشاعر المرأة، وتعاطفاً مع رغبتها في النجاة من السأم .. لكنني عند استخدام هذا التحليل النفسي في قراءة القصة أجد أن الأمر لم يتوقف عند هذه الفرضية للتأويل بل أتصور أن (قطة في المطر) كانت ـ في المقابل ـ دعماً لليقين الذكوري لدى (همنجواي) عن ذاته .. كانت ترسيخاً لموضوع الأبوة داخل هذه الصلابة الذكورية .. الأبوة التي لا تُسلّم حكمتها بطريقة مباشرة، أو تكشف عن تنظيمها للعالم على نحو واضح بل تتحرك كمشيئة عليها أن تبقى لغزاً .. أن تكون أبوة القدر التي يمكن أن تتجلى أحياناً كفيض طائش من العدوانية الفظة (كما كانت تتصف شخصية “همنجواي”) وفي أحيان أخرى كاحتواء غيبي مبهم، يستوعب تعاسة الآخرين، ويقدر على محوها أو تخفيفها دون حاجة لأن يبدو قريباً .. إنه (همنجواي) الذي أطلق لحيته بشكل كامل، وكان يفضل أن تشير إليه زوجاته وكذلك أصدقائه باسم (بابا).

إن (نقاء اللغة) لم يكن جوهر السحر الذي ميز الأسلوب السردي عند (همنجواي) بل براعة ترتيب هذا النقاء .. كان (همنجواي) يتحرك في تكوين المشاهد قابضاً على ادعاء محكم من اللامبالاة الظاهرية التي قد تصل إلى مستوى الحياد البارد الذي لا يقصد إثارة عاطفة محددة أو إثبات فكرة معينة .. لكنه في الواقع كان ينسج الصور ويشيّد الروابط فيما بينها بالكيفية التي تجعها منها عتبات مروّضَة لاستفزاز ذهني يصعب التراجع عن الاشتباك معه .. الورطة الممهدة التي يقود الدخول إليها غياب المجاز، والتركيز على عبارات دالة، وتكرار كلمات منتقاة، واستدعاء خلفيات بصرية ملهمة خادمة على تتابع المشاهد، وتجفيف الحوارات إلى تعاقب متقطّع من الوخزات المبتورة، القلقة بحرصها على عدم توفير الاشباع، وتسكين تلك الحوارات في الأماكن الداعمة للارتباك المتصاعد وراء الهدوء المرئي.

قطة في المطر

إرنست همنجواي

كان هناك أمريكيان اثنان فقط توقفا في الفندق. لم يعرفا أحداً من الذين مرا بهم على درجات السلم في طريقهما إلى حجرتهما. وكانت حجرتهما في الطابق الثاني تطل على البحر. كما كانت مواجهة للحديقة العامة ونصب الحرب. وكان في الحديقة العامة نخيل كبير ومقاعد خضراء . وفي حالات الطقس الجيدة كان هناك دائما فنان ومعه حامله. فقد أحب الفنانون طريقة زراعة أشجار النخيل وألوان الفنادق الناصعة التي تطل على الحدائق والبحر. وكان الإيطاليون يقطعون مسافات طويلة ليشاهدوا نصب الحرب. لقد كان مصنوعا من البرونز وكان متألقا في المطر.

كان المطر يهطل.. وكان يسيل من أشجار النخيل، وتجمع الماء على الطرقات. كما اندفع البحر في خط طويل في المطر واجتاح الشاطئ من الخلف ليقتحمه مرة ثانية في خط طويل في المطر. وأخذت المركبات تسير من الميدان بمحاذاة نصب الحرب. وعبر الميدان في مدخل المقهى وقف النادل ينظر إلى الميدان الخالي.

وقفت الزوجة الأمريكية عند النافذة تنظر إلى الخارج. وكان هناك في الخارج تحت نافتهما مباشرة قطة تقبع تحت الطاولات الخضراء التي ينحدر عنها ماء المطر.كانت القطة تحاول أن تحمي نفسها من المطر.

“أنا ذاهبة لأحضر تلك القطة،” قالت الزوجة الأمريكية. “سأقوم أنا بذلك” قال زوجها من السرير

“لا، سأحضرها. القطة المسكينة تحاول أن تبقي نفسها جافة غير مبتلة أسفل الطاولة”.

استمر الزوج يقرأ وهو مستلقي داعما نفسه بوسادتين عند قدم السرير.

“.لا تبتلي  ” قال زوجها.

نزلت الزوجة إلى الطابق السفلي ووقف مالك الفندق ونظر إليها عندما مرت بمكتبه. كان مقعده في الطرف الأقصى من المكتب. كان رجلا متقدما في السن وطويل جداً.

“إنها تمطر” قالت الزوجة. لقد أحبت مدير الفندق

“نعم، نعم يا سيدتي.. إنه طقس رهيب. إنه طقس سيء”.

وقف خلف مقعده في الطرف القصي من الحجرة ذات الضوء الخافت. لقد أحبته الزوجة. لقد أحبت طريقته الجادة في تلقي أي شكوى.  لقد أحبت وقاره. لقد أحبت الطريقة التي أراد من خلالها أن يسدي لها خدمة. وقد أحبت طريقة إحساسه بمنصبه كمدير للفندق. لقد أحبت وجهه العجوز الثقيل ويديه الكبيرتين. وبهذا الشعور تجاه مدير الفندق فتحت الباب ونظرت إلى الخارج. لقد كانت تمطر بشكل أشد. كان هناك رجل على رأسه شال مطاطي يعبر الميدان الخالي إلى المقهى. قد تكون القطة في تلك الأنحاء إلى اليمين.  وربما تمكنت من الذهاب أسفل إفريزات الفندق.

وبينا كانت واقفة في المدخل ، فُتحت مظلة من خلفها. لقد كانت الخادمة التي كانت تهتم بحجرتهما.

“يجدر بك ألا تبتلي،” ابتسمت، وهي تتحدث الإيطالية.  بالطبع لقد أرسلها مدير الفندق. مع الخادمة التي كانت تحمل المظلة فوقها، سارت الزوجة على طريق مرصوف بالحصى حتى أصبحت أسفل نافذتهما. كانت الطاولة هناك وكانت ذات لون أخضر ناصع في المطر، لكن القطة لم تكن هناك. أصيبت بخيبة الأمل فجأة. أخذت الخادمة تنظر إليها، “هل فقدت شيئا يا سيدتي؟”

“لقد كان هناك قطة،” قالت الفتاة الأمريكية.

” قطة؟”

“نعم، قطة”.

“قطة؟” ضحكت الخادمة. ” قطة في المطر؟”

“نعم ” قالت الزوجة، “تحت الطاولة. ثم قالت “أوه! أريدها بشدة. أريد قطة.”

عندما تحدثت بالإنجليزية، انقبض وجه الخادمة.

“تعالي يا سيدتي،” قالت الخادمة. ” علينا أن نعود إلى الداخل”. “ستبتلين.”

أعتقد ذلك،” قالت الفتاة الأمريكية.

ثم عادتا على الطريق المرصوف بالحصى ومرتا من الباب. بقيت الخادمة في الخارج لإغلاق المظلة.

عندما مرت الفتاة الأمريكية بالمكتب، انحنى صاحب الفندق من مقعده. لقد جعل صاحب الفندق الفتاة تشعر أنها صغيرة جدا وفي نفس الوقت مهمة جدا حقيقة. لقد كان عندها شعور سريع بأنها ذات أهمية قصوى. صعدت الدرجات. فتحت باب الحجرة. كان جورج على السرير يقرأ. 

“هل وجدت القطة؟” سأل جورج وهو يضع الكتاب بعيدا.

“لقد ذهبت”.

” أعجب أين ذهبت،” قال وهو يريح عينيه من القراءة.

جلست الزوجة على السرير.

” كنت أريد القطة كثيرا جداً” قالت ،”لا أدري لماذا أردتها كثيرا. لقد أردت تلك القطة المسكينة. ليس هناك مزاح أبدا أن تكون قطة مسكينة في المطر”.

أخذ جورج يقرأ مرة ثانية.

ذهبت الزوجة وجلست أمام مرآة المزينة تنظر إلى نفسها في المرآة اليدوية. أخذت تدرس جوانب صورتها، أولا أحد جوانبها، ثم الجانب الآخر. ثم قامت بدراسة المقطع الجانبي لمؤخرة رأسها وعنقها.

“ألا تعتقد أنها ستكون فكرة جيدة لو أطلقت شعري؟” سألت، وهي تنظر إلى نفسها مرة ثانية.

نظر جورج إليها ورأى خلف عنقها، لا شعر عليه تماما مثل الولد.

“أُحبه كما هو”.

“يتعبني جدا هذا الوضع،” قالت. “يتعبني جدا أن أبدو كالولد.”

حوّل جورج مكانه في السرير. لم يحول نظره عنها منذ بدأت تتكلم.

” إنك تبدين جميلة جدا” قال.

وضعت المرآة على الخزانة وذهبت إلى النافذة وأخذت تنظر إلى الخارج. لقد بدأ يحل الظلام.

” أريد أن اشد شعري إلى الوراء وأجعله محكما سلسا وأجعله على شكل عقدة كبيرة  في الخلف حتى أشعر به،” قالت. ” أريد أن يكون لدي قطة صغيرة كي تجلس على حجري وتقرقر عندما أمسح بيدي عليها.”

“نعم؟” قال جورج من على السرير.

“وأريد أن أتناول الطعام على المائدة في أواني الفضة الخاصة بي وأريد شموع. وأريدها أن تكون شبابية وأريد أن أسرّح شعري بالفرشاة أمام المرآة وأريد قطة صغيرة وأريد بعض الملابس الجديدة”

  “أوه، أقفلي فمك وأحضري شيئا تقرئينه،” قال جورج.

وأخذ يقرأ مرة ثانية.

كانت زوجته تنظر خارج النافذة. لقد حل الظلام تماما في ذلك الوقت كان المطر لا يزال ينهمر على أشجار النخيل.

  “على أي حال، أريد قطة” قالت الزوجة، ” أريد قطة. أريد قطة الآن. إذا لم استطع أن يكون لدي شعر طويل أو أي مرح، يمكن أن يكون لدي قطة”. 

لم يكن جورج يصغي إلى ما كانت تقول زوجته. كان يقرأ كتابه.

نظرت زوجته خارج النافذة حيث يصل الضوء إلى الميدان.

شخص ما دق الباب.

“أدخل” قال جورج وهو ينظر من فوق كتابه.

في الممر كانت تقف الخادمة. كانت تحمل قطة بلون قوقعة سلحفاة كبيرة وكانت مضغوطة بشدة إليها وهي تتأرجح أسفل جسمها.

“عفواً،” قالت الخادمة. ” لقد طلب مني صاحب الفندق أن أحضر هذه القطة إلى السيدة.”

مقالات من نفس القسم