بإنتظار متتياهو

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة : راجي بطحيش *

1

مرة أخرى أصل قبل الوقت..للمرة المليون في هذا القرن الذي يقطر علامات استفهام عجائبية ...أجلس على بنك يميز تلك المنطقة السعيدة الى درجة لا تطاق من مدينة تل أبيب..ذلك المركز القديم الذي أصبح شمالا مرة أخرى حين هبت ريح البرجوازية عليه فجأة مع بداية تبلور مركز جديد أخذ يزحف الى الجنوب الى تلك "السلطة" الإنسانية حين أقطن..أو هكذا يخيل لي أحيانا..فلا الشمال العائد كان مرة شمالا ولا الجنوب حين أقطن هو بحق المكان الذي أقطن فيه أو حيث يتواجد بيتي...

2

إصل دائما قبل الوقت ، ولا يطالني من هذا سوى ذاك التمشكل مع المكان..بمعنى كل تلك الترهات حول –من أنا؟ وكيف وصلت الى هنا وما هذا المكان وإحداثياته مني .وبلا بلا بلا وكأن مؤخرة الإنسانية ستهتز الآن لتوها لذاك المشهد الخارج من جريمة وصولي الى مكان ما.. كان قائما بشكله المعطى قبل برهة أو سنوات أو قبل ذاك العام النكبوي بكثير..أتوه عن قصد لأمرر الدقائق المستعارة الطويلة..أنظر كل دقيقة وربع بالساعة..الشوارع ضيقة..حميمة بعض الشيء..وهنالك أطفال ولنقل صبية  يلهون وسط الشارع بألواحهم المثبتة على عجلات من دون الخوف من أن تدهسهم شاحنة مهرولة أو باص..ليموتوا جميعا..موتا برجوازيا بامتياز..وهل تلطم الأمهات البرجوازيات من أصول آرية على موت أولادهن..أم كيف؟ يعرف هؤلاء الصبية سرا لا أعرفه عن المكان…

3

تماما كما هو الخوف من  أن  لا تكون الأشياء والأسماء والأماكن في مكانها الواضح المحدد المؤول بدقة متناهية، بدقة هذا الخوف ..بحدته يتواجد هذا المكان بحدوده بين شارع ديزنجوف من الغرب ويهوشواع بن نون من الشرق فلا الشمال شمال بحق ولا الجنوب يعترف بذلك..أجلس على مقعد “بانك” من خشب أرزة سرقت من لبنان.. أنا الرجل الوحيد الذي يتسكع في الساعة السابعة والنصف من دون كلب يبرر وجوده واختياره..أو عدم اختيار ضباط الإس. إس لأبي وأمي كي يقتلا هم واحتمالاتي في ماونتهاوزن مثلا..

4

تماما كما هو الخوف من أن أشعر بالغربة للحظة وتفوح رائحة فضيحتي نواحي أعدائي المنتظرين..ليفتحا دفق ينابيع اللوم ثم يمضون الى مضاجعة كل من اشتهي من منمنمات…أتوجه الى مخزن كبير للمنتجات العضوية التي عادة ما تكون رائحة الضراط الناتجة عن استهلاكها عضوية جدا هي  الأخرى..ولنقل ممعنة في عضويتها..أتجول في المتجر..أتقمص دور سيدة الصالونات التي قضت حياتها بين الخلاصات العضوية الطاهرة للأشياء..وتلك التي سقطت بين أذرع منظف خراء الخيول في الإسطبل بين اكوام التبن العضوي ..حينما ناكها يومها دون كلل بأيره العظيم وكأن يوم القيامة يقترب هادرا..وانا اقترب من الصندوق..لا منتجات عضوية لدي سوى ما بدأ يتمركز قرب شرجي منتظرا منافع جميلة بتصميم حداثي حاد لكي يسلمها نفسه العزيزة..أختار كستناء مقشرة محفوظة في أكياس محكمة الإغلاق..أحب الكستناء بكافة أشكالها ..وها أنا التهمها بنسختها العضوية المدينية كعصفور الحقول البعيدة القريبة عند ذاك المقعد بانتظار ماتتياهو..

5

مع أنني سرت ماشيا من البورصة الى هذا المفرق الا انني وصلت قبل الوقت وأفرغت كيسا من الكستناء العضوية في جوفي وبقي كيسا ثانيا.. أفتح سحاب حقيبتي لأدس داخلها الكيس الباقي ..اقفل السحاب بسرعة.. أكاد أمزقه ..لا أريد أن أصادف ورقة ما من تلك الأكوام في الداخل ..ورق الخوف والاوجاع..والقلق..فلأرتبها من جديد القلق والاوجاع والخوف…مما أخاف؟؟على بلاطة كما يقولون! هذا ما اسأله لنفسي قبل دقائق من وصول متتياهو..مما أخاف؟ وكيف سرق مربع يهوشواع بن نون هذا تلك السكينة المجنونة من بين فكي الخوف المحيط..السكينة المسروقة..رجال بكلاب جميلة، نساء يمارسن رياضة العبث، صبية لا يهابون من الشاحنة الهادرة..رجل خرج لإحتساء المكياتو بعد أن خبأ رأس زوجته في ثلاجة ! مما أخاف؟ من احتمال جريمة لا اقدر على منعها..من ذنب جريمة لم أرتكبها بعد! من أن فتاة –آسف ربما امرأة- تجلس الآن في سرير لعنة المصير في مشفى كسب الوقت..ذاك الوقت الذي يجتر نهايته كل مرة من جديد..وهي تعرف أننا نعرف أنها تعرف ..أن لا جدوى…أأخاف من نبرة الأم التي تخجل أن يظهر بين أسطرها ولو حتى إيحاء متواضع وغير ملزم بأنها ستموت من قسوة الوحدة واختفاء ناسها….وأنا جالس التهم الكستناء العضوية المخاطية ..تلك التي لا تفيد بشيء..أأخاف من نظرة عتاب ثاقبة لولد لم يتجاوز الربيعين؟!..

6

أسلم متتياهو الذي تتشكل حدود حياته بين شارع بن يهودا وايفن جفيرول (وهو كالكثيرين من قاطني المدينة لا يعترفون بشارع اليركون المحاذي حيث السفارات والفنادق وكورنيش الشاطيء كونها مناطق السياح وأهل الضواحي والأطراف)أسلم متتياهو اللطيف والدائم الابتسام كتبي التي سيسلمها بدوره لصديق في القاهرة ..وأوصيه الا يتحدث هو ورفاقه العبرية في الأماكن العامة من القاهرة. وخاصة في فضاء سواقي الأجرة الثرثارين..وأحاول ألا أفكر بغرائبية الموقف: كاتب فلسطيني يسلم شاعر إسرائيلي مؤرخ جديد للنكبة كتب ليسلمها لكاتب وناقد مصري في القاهرة قرب محلة يهوشواع بن نون..

متتياهو ودود جدا ..نتفق على وجوب اللقاء الأكثر تكرارا وفاعلية..بت أعرف شخصا حقيقيا-لحم ودم- في مربع الشوارع هذا…

7

ينطلق متتياهو بدراجته كالنسر في الفضاء الأسود..أمشي بشارع ديزنجوف نحو الجنوب ، أشعر بسعادة لا مبرر لها..سعادة غبية ولكنها ماثلة لا يمكن تبديل وقعها ، لم يحدث ما يستدعي ذلك ولم نستعر أنا ومتتياهو حيزا معتما بين الشجيرات البولونية لتبادل شهوة الإنتلكت. أمشي…رائحة الأشجار في هذا الوقت من السنة تذكر برائحة المني المنفلت لتوه…أصعد باص 18..ماذا لو أن هذه المرأة المؤكسدة الشعر نامت مع ثلاثين زبون قبل أن تصعد. وماذا لو ان الشاب المتأنق ابن العشرين هذا مارس الجنس لأول مرة بجيل التاسعة برضاه أو عنوة .ماذا لو فجر أحدهم نفسه في هذا الصهريج المكتنز اللحم..ماذا لو أقتربت ساعة الأربعين وكل من حولي لم يبلغوا الثلاثين بعد وأنا ماض  بإحتساب  ناتج الفرق..ماذا لو التقطت فيروسا سمجا من هذه الحافلة المكتظة الآن..ماذا ها..ماذا؟؟ الهدف الأن: أن أخسر المزيد من الشحوم حول بطني..

تدندن فتاة يافوية تجلس بجانبي: خدني معك على درب بعيدة..مطرح ما كنا ولاد زغار..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قاص فلسطيني

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون