انتهى الوقت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

أخذ نفساً، طويلاً عميقاً، بينما راح يفكر في عودته، المتأخرة جداً، إلى البيت. استمرت خطواته، النشطة العجول، تقطع شوارع وسط المدينة، المألوفة لعينيه، بشغف واشتياق. يعرف أن المهلة، الممنوحة له لاستعادة ما يتوق لاستعادته، قصيرة للغاية؛ بضعة ساعات لا أكثر، يتوجب عليه بعدها أن يُسلم قياده، مجدداً، ويُذعِن لقدر الغياب الذي سيكون، لا محالة، أبدياً هذه المرة، حيث لا استئناف ولا رجوع.
نازلاً من ميدان المحطة إلى شارع طه الحكيم فالبورصة، ماراً بميدان الساعة القريب من المشهد الأحمدي، حيث توقف أمام فاترينة عرض منشورات الهيئة العامة للكتاب أسفل سينما أمير الشتوي، واصلاً إلى كورنيش الإبراهيمية والكازينو العتيق، الراشح بماء البحر المالح والطحالب الملساء الرطبة الخضراء والبُنية، صاعداً باتجاه شاطئ الشاطبي وتمثال الأشرعة المنطلقة، المنحوت من الحجر الكلسي الأبيض، وحتى نقيضه البرونزي لزعيم الأمة، المتدثر بالمعطف الصوفي الثقيل الداكن، وهو يولي ظهره لفندق متروبول، ويُغذ السير بخطوة ثابتة تحلق فوق الميناء الشرقي، راح يرشف كل تلك الصور بعينين ظمآنتين، غائمتين، ومعتمتين كبلور مُطفَأ.
عرج على كشك بائع الصحف والكتب الذي ينصب فرشته- لا يزال!- على الإفريز الحجري المتداعي لمنزل فتاة أحلامه ومعبودة مراهقته. لطالما تلكأ عند الكتب والمجلات، يقلِب فيها، يشتري بعضها من مصروفه الصغير، ويختلس النظرات إلى شرفتها ذات الأعمدة المنتصبة على الطراز الكورنثي، حالماً بإطلالة عابرة منها إلى الأشجار الضخمة، ذات الوريقات الصغيرة الخضراء والأزهار الحمراء الناضحة بألق أنثوي مثير، بامتداد شارع البحر، من مسجد الشيخة صباح ،وحتى بيت المحافظ وحدائق المنتزه.
تهاني محمود الشريف!
مد يده إلى الكتب المفروشة، وتناول عددي الشهرين، الحالي والسابق، من روايات الهلال. فرح بهما؛ فبضربة حظ نادرة، صارت رائعة أندريه مالرو “قدر الإنسان” بين يديه مجدداً، وبعد كل تلك السنين المارة على شرائه لها في شتاء عامه السادس، أو السابع، من بعد العاشر، لم يعد يدري على وجه التحديد، من البائع نفسه. لعلها تهاني كانت تحتفظ له بنسخته الخالدة من روايته المفضَلة، مخبئة إياها على بسطة إفريز مسحور لشرفتها ذات العمدان الكورنثية. لعلها كانت تومن أنه، لا محالة، راجع، مهما أمعن في الغياب.
ضم الرواية إلى صدره بقوة، وتابع سيره عبر شارع النبي دانيال، متجولاً بنظراتٍ متحيرة قليلاً أمام وفرة العناوين التي شغف بها طويلاً. توقف عند أحد الأكشاك الذي كان يحوي كتباً مصرية ولبنانية، قديمة نسبياً، من منشورات الستينيات والسبعينيات. كان صاحب الكشك شاباً في ثلاثينيات عمره، سمرته خفيفة من النوع الذي يطلقون عليه هنا، في الخرطوم، “أخضر”. أخذ يقلِب في الكتب المعروضة وهو يرفع ناظريه، بين الحين والآخر، باتجاه مئذنة الجامع الكبير الذي شيده أجداده المصريون وهم يبنون تلك الخرطوم ويقيمونها من عدم.
– أهلاً بابن النيل.
حيَاه البائع بابتسامة واسعة كشفت عن أسنانه البيضاء المنظومة بدقة.
– كيف أساعدك؟
– شكراً لك، لا أبحث عن شئ بعينه.
– بل تبحث عن شئ بعينه، لكنك لا تعرف هذا الشئ.
رفع رأسه ليحدِق الآن في عيني محدثه، متسائلاً عما إذا كان قد قابل، أخيراً، حكيماً يقصد من الكلام ما هو أبعد من كل كلام!
– هل تقبل دعوتي على مشروب بارد؟
حرارة ظهيرة الخرطوم لاهبة، والعرق ينساب على طول ظهره كسياطٍ من ماء الحميم. كان العرض مغرياً، لكن وقت العمل، وضرورة العودة للمكتب في القنصلية لمتابعته، والتعليمات الأمنية القاضية بعدم التورط في علاقات أو ارتباطات غير مدروسة أو مجهولة المصدر، كل ذلك أهاب به كي يعتذر لداعيه بلطف.
– على الأقل اسمح لي بمرافقتك، قليلاً، حتى باب القنصلية.
تمشيا لدقائق قليلة، راح البائع يحكي له خلالها، مسرعاً، عن حبه لمصر، وعن زيارته للقاهرة وجولاته في مكتبات سور الأزبكية، وعن تخرجه في جامعة القاهرة الفرع، وعن إقدامه، ذات مرة، على تغيير ديانته إلى المسيحية الإنجيلية على يد مبشِر أمريكي أهداه كاميرا تصوير فوتوغرافي حديثة جداً، وعن وعن…
– وصلنا. سعدت بمقابلتك.
ارتبك البائع “الأخضر” وكأنما سكب مرافقه سطلاً من الماء البارد على حرارة حماسته وتوقد عواطفه وجيشان ذكرياته. تفل على الأرض بقوة العادة، وهمس كالمتضرع:
– لو تعطيني عشرين ألفاً!
قرر أن يستريح لبضع دقائق يحتسي فيها الشاي الأسود بالنعناع الأخضر على المقهى الأحمدي المواجه، مباشرة، للجامع البدوي. راح يتلذذ باستنشاق مذاق بخار الشاي المغلي في هذه الأمسية الشتوية الباردة نوعاً. قالت له:
– لستُ فاسية مثل شيخ طفولتك. أنا أمازيغية من صفرو. تنسمتُ رياحين الأطلس، وعصفت بي، مرات، عواصفه. لستُ ابنة الوادي الذي يحتضن تدفق النهر الهرم سلس القياد، بل طفلة الجبال الشاهقة التي تحمَمت في الشلال. هل أُريك الشلال؟
– نعم، خذيني إلى الشلال.
كان قد طار، راجعاً، إلى الشلال المتحدر من قمتين شاهقتين للوجد وللفقد. عرج على الدور الصغيرة المعلقة، هناك، ينشد العون للوصول.
– مبقاش.
همست له الفتاة الصغيرة بأسى أكبر بكثير من عمرها. كان الشلال قد غادر، و من دون إنذارٍ مسبق. ابتسمت له فيما اعتبره نوعاً من المناكدة والتشفي. شددت على القول:
– لا تراه إلا بي.
فضَل أن يتناول شايه الأخير على دكة خشبية متآكلة، ومن يدي بائع جائل أقام نصبته العشوائية في ظلال أشجار حديقة الشهداء المتشابكة، وتحت النصب الحجري الشامخ الذي دونت على صفحته الجرانيتية أسماء وبيانات شهداء العبور العظيم من أبناء المدينة. كان الليل قد حط على الميدان الواسع المواجه لمحطة مصر المشرفة على خرائب كوم الدكة. نظر إلى ساعته ليذكِر نفسه بأن العطلة قد شارفت على الانتهاء. اختار أن يستهلك الدقائق المعدودة المتبقية في قراءة السجل، الحجري الجنائزي، المنتصب قبالته. جمدت عيناه، المخضلتان بالدموع، على ذلك الاسم الذي يعرفه جيداً، وأكثر من أي اسم آخر يعرفه في هذا الوجود!
– أظنك لقيته أخيراً.
همس بائع الشاي الجوال، حارس الأسماء وراعي الظلال والتوهمات والانتظارات، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، معابثة ونكدة.
– نعم.
أجاب مستسلماً. خلع ساعة يده من معصمه وسلمها للعجوز الجوال الذي هتف بانتصار:
– انتهى الوقت. كل الوقت.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون