“الهوى كله بحري”

محمد فيض خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فيض خالد

أصبحَ لِزَاما عليّ الصّعود عنِدَ كُلّ صَباحٍ فوقَ سطح بيتنا، فالوالدة تُصرّ أن ألتزم بِجمعِ البيض من تَحتِ الدّجاجِ، أو تقديمَ الماء والطّعام، أو قَضاء بعضَ شؤون البيَت ِسَريِعا.

صَعدتُ ذاكَ الصّباح مُتمَلمِلا، فهذا هوَ الوقت الّذي أخرُج فيهِ برفقةِ بعض الأصدِقاءِ للتَسابقِ في الدّربِ،  تعودنا دفع إطارات السيارة القديمة  أمامنا، في تسَابقٍ يَشهده أبناء القريةِ جَميعا، هنالِكَ لم أجد بُدّا إلا الانصياعِ لأمرِها، في هاتهِ السّاعة من الصّباح الباكِر، لا يزال السِّكون يُغَلِفُ أجواءَ قريتنا، صمتٌ وخمول عشّش مُنذ قَدِم المساء، وها هو ينزاحُ رويدا رويدا تحت لسعاتِ شمس النهار، التي أطلّت مُتكاسِلة من بينِ طياتِ الضباب، وعلى فتَراتٍ يتعالى صراخ الصّغار من بين البيوتِ طلبا للطّعامِ.

وقفت اُطالِع أمامي تفاصيلَ اللّوحة وأتأملها، كيفَ تستقبل أسطح البيوت صباحها الجديد، رميتُ ببصري تجاه منزلَ الأفندي، شاهدتُ عن بُعدٍ قطة يتبعها أولادها، مشوا في تكَاسلٍ، وعلى مسافةٍ منهم وضعَ الأفندي طبقا امتلأ بفتاتِ الخبز اليابس، وصحفةَ ماءٍ هي مأدبة العصافير، التي بدأت تحومُ بكترةٍ وتُحَلِق حولَ شجرةِ التّوت، تتساقط على الطّعامِ كغيرها من الطيور التي اقبلت، فرحة من أعشاشها.

زحزحت عيني قليلا فتراءت لي عن بُعدٍ خيوطَ الدخان الأبيض، تتلاعبُ ملتفة كأنّها الثعابين، تخرج من البيوتِ ففي هذا التوقيت تحديدا، تُوقَدُ نيرانَ الحطب والبوص التي اتخذها نساء القرية، وَقوُدا (لكوانينِ) النار، يسخّنُ بِها الماء ويُنضج عليها الطعام.

سريعا سريعا انتهيتُ مِن أعمالي، لكنّ وقبيل نزولي، شقّ هذا الصّمت المُطبق صُراخٌ حاد، تسارعت على إثرهِ الأرجل الحافية، تتسابقُ في الدّرب مزعورة، نساء ورجال، شيبة وشبانا، حتى القواعدَ من النّساءِ تحَاملنَ على أنفسهن، هرعن يتسندن الجُدر.

جاهدت كي أستجلي الحقيقة، توالت نداءاتي عليّ أستوقفَ رفيقا من الرِّفاق، لكنّهم شُغِلوا بما هو أهم مني، تنادى النُّسوة بينهن في عَجَلةٍ، سارعت إحداهُن تحملُ ابنها بين ذراعيها تهُرولُ حافية، وقد حسرت  رأسها مُتلهية عن خِمارها، وأخرى أمسكت شالهِا بين أسنانها  تَعدو مُرتبَكة، أمّا الرِّجال فبعضهم جرى بملابسهِ الداخلية من هولِ الصّدمة، لم يكُن من  بُدّ أمامي إلا النزول واللّحاق بالحشودِ الهَائجةِ.

ثوانٍ وزاحمت الجَمع المُلتف من حولِ حالفةٍ رست في مدخلِ القرية، تقلُّ عمال ترحيلة من شبابِ القرية ِ ورجالها، أتوا لتوّهم من سفرٍ بعيد، ظلوا هناكَ  أسابيع في وجه بحري كما قالوا لنا،لكن المُثيرَ والداعي للغَرابةِ، ما شاهدته بأمِ عيني كغيري من أبناءِ البلد، فقد رَبَطَ بعضهم رأسه بعصابةٍ، وآخر لَفّ يده بجبيرةٍ، وثالثٍ تظهر على وجههِ سجحاتٍ وخدوش، ورابعٍ انتفخ أسفلَ عينيه، اختلطت الأصواتُ ما بينَ مُرَحبٍ ومُسلِّم، من استفسار عن سببِ الحادثَ المُروع وتلك الإصابات.

تعلقتُ ببابِ الحافلة، طأطأت رأسي داخلها عليّ اسمّع ما يدور من تفاصيل، فأكون من السابقين، لكنّ جلبة المكان وأصوات البكاء حالت دون غرضي، فجأة انبرى شابٌ مفتول العضلات، ظاهر الصحة موفور العافية، وقالَ بثقةِ المنتصر : داحنا ضربناهم ضرب مخدوش حجش في غيط برسيم.

تعلّقت العيون بالمتحدثِ الفتيّ، وسادَ صمتٌ انقطعَ بعده الضّجيج للأبد، انصرفَ النّاس إلا بقية تَحلّقت من حولهِ فعنده على ما يبدو الخبرَ اليقين، عدّل صاحبنا هِندامه، وألقى بطِرفِ شَالهِ على كَتفهِ، ثم برقت عينيه وهو يُطالِع الصّبايا عن بُعدٍ، وقال متمطعا: بتوع كفر الشيخ.. اتعاركوا فينا في الشغل.. بس ضربناهم.

دارت العيونُ في المحاجرِ، برزت سيدة رفعت يدها للسّماءِ، ودعت أن ينتقمَ الله من أولئك الأشرار، لحظات وعاد القوم لبيوتهم، بقيت وبعضَ الرِّفاق الذين أهمّهم ما أهمّني، وبعقولِ الصّغار ِالتي لا تعرف الخِداع والمواربة، أدركنا أن المعركة انتهت لصالحِ أبناء بحري، وأنّهم في عرِاكٍ متُصلٍ وأبناء قريتنا، يتعقبوا خطاهم في كُلّ مكان، تأجّجت النيران في صدورنا الملائكية، تأثرنا على ما يبدو بكلامِ الكبار، ومن ساعتها ورسخت في عقولنا الغضّة العداوة لأبناءِ بحري، فكَرِهنا القوم عن عمايةٍ.

في قريتنا وفي الجّنوبِ دائما ما تقَسو الطبيعة، فمع قُدومِ الصّيف يتعكّر صفو الجو، فترسل السماء على أبناء الطّين شواظا من نار، ترتفع درجات الحرارة لأعلى معدلاتها، فيتحول الترُّاب إلى صهدٍ يغلى تحتَ الأقدامِ، ولا سيبلَ أمام هؤلاءِ المنقطعين إلا أن  يدعوا عسى أن يتغمدهم الله  برحمةٍ منه، فيُرسِل عليهم  ريحا بحريا رطبا، يُبرد الأجسادَ ويلطف الأجواء.

ترى الفلاح وهو يَرقب حركة الرياح، فيديم النظر لغصونِ الأشجار وجريد النّخل، فيتهلّل وجهه لحركتها، وهي تتمايل أمام نَسماتِ الهواء ساعة العصرية، فينشرح صدره وتعود إليه الحياة بعد أن قنط منها، يهزّ أحدهم رأسه راضيا،  وهو يفتح ياقة جِلبابهِ، قائلا : الله هوا بحري هلّ..

اعود قأسال نفسي : لماذا وهبَ الله أهل بحري وحدهم الهواء البارد دوننا، وهل يستطيعوا حجبه عنا حال العراك ؟!

ومع احتدام الحَرّ بين جنباتِ الحُقولِ، وعلى الجداول والمجاري، وخاصة أيام الحصاد، كانت دعواتي تزداد، وأنا أرى العذاب يصبّ من فوق الرؤوس صبا، ألاّ يمسك أهل بحري عنا الهواء.

تعودُ الوساوس إليّ من جديدٍ مع اقترابِ موسم السدة الشتوية ( الأربعينية) حين تُمنع المياه عن محافظاتِ الصَّعيدِ، فتُطلق ناحية الشمّالِ، هناك في الدلتا حيثُ مزارع الأرز إليها أحوج.

اطالِع   بفزعٍ الترع والمصارف وقد جفت، فأتمنى أن يهب أهلنا القدرة ليسدوا النيل، فيمنعوا ماءه أن يصلَ أهل بحري نكالا لهم.

كنتُ ارسم صورة من نَسجِ خيالي الطفولي عن الإنسانِ البحراوي، كنتُ أراها مغايرة في تفاصيلها عما تَعوّدَ أهلَ الصعيد من خُشونةِ العيش، فاجده رخوا لا يصلحَ للحياةِ، كنا صغار نتندر في جلسات سمرنا على أهل بحري، اعتقدنا أن الله حباهم جمال الصورة وحُسن الخِلقة وبخاصة نساءهم، وسلبهم قوة البأس وعزم الرجال.

حدث وأن تزوّج أحد الأقرباء في قريةٍ مجاورة، اخت زميل له في العسكرية، فلاحة من قُرى المنصورة، كانَ جمالها وحُسن صورتها مضربَ الأمثال في الزمِّامِ كلّهِ، عندها تمنى كُلّ عازبٍ لو رزقه الله  بحوريةٍ من بناتِ بحري، تسعد بها حياته، و يُحسّن معها سُلالته.

كبرت  حتى صِرت فتا يافعا، ولا تزال في نفسي بقايا من الماضي، جعلتني اتعامل بحذرٍ مع أبناء بحري، أرى فيهم اللّوع والمكرِ والخديعة، تتراءى أمامي ذكريات معركة أبناء قريتنا معهم، وبمرورِ الأيام شاءَ الله أن تتوثق  علاقتي ببعض نفرٍ من أهل بحري، فرأيت منهم ما أبهرني، علِما وأدبا وكرما  ورجولة، ساقتني أقدامي أن احلّ ضيفا على بعض البيوتِ في قُرى الدلتا.

تمنّيت لو عادَ بي الزّمان ثانية، لأقف بين أهل قريتنا فأصرخ وانصِّف القوم.

وقفتُ على شاطئ النيل في إحدى زياراتي هناك أيام يوليو، ظلّت السّماء مضيئة على الرُّغم من المغيبِ، وفي هذهِ السّاعة في قريتنا تسود الدنيا، ثم هبّت ريِاح باردة اسلمت لها نفسي، واغمضت عينيّ، وقلت في سري ضاحكا: حقيقي الهوا كله بحري..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون