النيل في الشعر العربي الحديث (2)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 18
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفي الضبع

الشاعر في نظرته للأشياء والكون شاعران: شاعر يكتب عن وشاعر يكتب بـ، الأول يكتب عن الأشياء طارحا وصفا تفصيليا يقارب كونها مرئية من مرئيات الواقع، والثاني يجعل من الأشياء مادته التي يجعل اللغة ناطقة بها، فهي لديه تقنية يعتمدها في التعبير وليست موضوعا تسجيليا يقارب صفاته موثقا
أحداثه .

يعيش النيل داخلنا لا بوصفه مشهدا يوميا أو صورة تقع عليها عيناك بشكل دوري ، وإنما بوصفه “الوجه الحضاري لمصر سواء كانت لديك القدرة على رؤيته عبر التاريخ أو عبر الحضارة الإنسانية ، ذلك الوجه الذى شغل البشر وألهم الشعراء والفنانين واشتاق إليه الرحالة وعلم الفلاح المصري تفاصيل الحياة ومقوماتها فلم يدخل النيل بيوت المصريين مياها تقوم عليها حياتهم ولكنه دخل كل تفاصيل هذه الحياة التي قامت عليه وانتقل من اللحظة التاريخية إلى عمق العقل المصري عبر التاريخ ، وتسرب إلى الفكر الإنساني متبلورا في مؤلفات الجغرافيين والمؤرخين والسياسيين وعلماء الاجتماع والفلك في تضفيرة شاهدة على دوره في حياة البشرية ” ( [1] ) .

إنه النيل ملهم الشاعر وصفقة السياسي ذلك الذي تمتد رحلته  عبر الفكر الإنساني نموذجا لعلاقة الإنسان بمكانه ، وتشكيلا لخارطة تكشف عن أن النيل في تدفقه المائي يلازمه تدفق شعري يمتد على خارطة الشعر العربي عبر عصوره ومذاهبه ، وهي خارطة تتسع لا لتقف عند القصيدة الفصيحة فحسب ، وإنما تضم ثلاثة أنواع من فنون القول الشعرية :

  • القصيدة الفصحى (وهي مادة الدراسة وتضم أحد عشر ديوانا يتصدر النيل عنوانها، و قرابة أربعمائة قصيدة ما بين قصائد يتصدر النيل عنوانها ويمثل موضوعها أو يمثل موضوعها دون تصدر العنوان الذي قد يشير إلى النيل بصفة من صفاته كالنهر مثلا).
  • القصيدة العامية: وتقتصر على العامية المصرية أولا والسودانية ثانيا لا تتجاوز هذه المساحة الجغرافية إلا نادرا، وتتسم القصيدة العامية وفق هذه المساحة بسمتين أساسيتين: كونها كاشفة عن خصوصية جغرافية – كونها تقف جنبا إلى جنب مع قصيدة الفصحى لتشكل جانبا له أهميته في تشكيل ديوان النيل في مصر.
  • الأغنية : وتمثل الوجه الإعلامي لقصيدة النيل ، وتعتمد على ثلاثة مصادر : قصائد  الفصحى ( كما في قصائد شوقي ومحمود حسن إسماعيل وعلى محمود طه وأحمد فتحي وغيرهم ) – قصائد العامية المغناة ( كما في قصائد لفؤاد حداد والأبنودي وصلاح جاهين ومسعود شومان وسعيد شحاتة – أغنيات  كتبت للغناء مباشرة ومنها : عطشان يا أسمراني محبة ([2] ) من غناء نجاة النيل لمحمد منير ( [3] ) إضافة إلى الأغاني الشعبية ذات المرجعية الفولكلورية المتداولة بين ربوع مصر شفويا دون أن تنسب لمؤلف معروف  ( [4] ) وتعد نموذجا لعلاقة غير مدونة في بعض جوانبها .

وتتضافر الأنواع لتشكيل صورة متعددة الزوايا للعلاقة بين الشعر والنيل ، تلك العلاقة الكاشفة عن علاقة أعمق بين الإنسان والنيل ” في مقاربته للنيل يقدم الشعر وظيفتين أساسيتين : أولاهما وظيفة تسجيلية تقوم على أساس تسلسلي عبر العصور المختلفة التي قارب الشعراء فيها النيل رابطينه بأحداث عصورهم المختلفة وهو ما يتجلى من خلال عصور الشعر المختلفة من الجاهلي وإلى الحديث مرورا بالعصور الإسلامية المعروفة في تاريخ الثقافة العربية ، وثانيتهما تقوم على أساس من التفسير والرصد لمساحات حضور النيل في نفوس البشر وهى وظيفة تتضام مع وظائف يقوم بها الفن عامة وتتعاضد فيها الفنون المختلفة من أغنية ورواية وشعر ومسرح وسينما ودراما تليفزيونية ودراما إذاعية في تشكيل الصورة” ([5] ) .

تضم الخارطة عددا كبيرا من شعراء العربية يمكنك تصينفهم جغرافيا لمكاشفة العلاقة بين النيل والشاعر العربي ليس على مستوى مصر والسودان بوصفهما مكانا يضم النيل وإنما على مستوى جغرافية الوطن العربي من المحيط إلى الخليج ، كما يمكنك تصنيف الشعراء وفق معطيات المذاهب الشعرية الكبرى مكاشفا ثلاث مراحل زمنية :

  • الكلاسيكية : ويمثلها عدد من الشعراء المصريين والعرب ، منهم : أحمد شوقي ( 1870-1932)– حافظ إبراهيم (1872- 1932) – أحمد محرم (1877- 1945) – زكي مبارك (1892- 1952) – محمد فضل إسماعيل (1898- 1969) – توحيدة مصطفي شهدي (ت 1962) – محمد عبد الغني حسن (1907- 1985) – إبراهيم حلمي (1921 – 2002) – عبد الله الطيب (1921- 2003) – حسن عبد الله القرشي (1925- 2004 )
  • الرومانسية : وتضم مجموعة من الشعراء منهم : الأخطل الصغير (1885- 1968)-عبد الرحمن شكري (1886- 1958) – أحمد زكي أبو شادي (1892-1955)- على محمود طه (1901-1949)- محمود حسن إسماعيل (1910- 1977)- صالح جودت (1912-1976) – أحمد مخيمر(1941-1978)– عبده بدوي (1927- 2005) –
  • الواقعية : وتضم عددا من الشعراء من بينهم : حسن فتح الباب (1922- ) كمال نشأت (1923- 2010) – عبد المنعم عواد يوسف (1933- 2010)- فاروق شوشة (1936- )- عبد العزيز المقالح (1937- ) – سميح القاسم (1939- ) –  أمل دنقل (1940-1983) – محمود درويش (1942- 2008) – حسن طلب (1944- ) – فاروق جويدة (1945- )– درويش الأسيوطي (1946- )- محمد سليمان (1946- ) – أمجد سعيد (1947- )- محمد بنيس (1948- ) أحمد الشهاوى (1960- ) محمد أبو المجد (1964-  ) .

وتكشف مقاربة هذه المساحات الشعرية عن عدد من الملامح الممثلة لسمات حضور النيل في القصيدة العربية :

أولا :  تتسم المرحلة الأولى بالاهتمام بالوصف من حيث النيل مسرحا للأحداث ، التاريخية ،  كما في قصائد شوقي وربطه بين النيل والأحداث الكبرى (قصيدة : كبار الحوادث في وادي النيل ، وقصيدة النيل ) ، وهو منهج تأثر به بعض شعراء العربية من بعده (محمد فضل إسماعيل في قصيدته ” يانيل ” ( [6] ) .

ثانيا : تقوم العلاقة في المرحلة الثانية ( الرومانسية ) على التشخيص دون التخلي عن الوصف بشكل جزئي حيث تشترك معظم القصائد  في تصوير النيل بوصفه شخصية لها حضورها في قصيدة ذات طابع حواري وإن بدا الحوار من طرف واحد متعدد المستويات (الالتماس- الخطاب – المناجاة ) .

ثالثا : تتسم الصورة في المرحلة الثالثة ( الواقعية ) بالترميز وتعدد جوانب توظيف النيل دلاليا بوصفه علامة لغوية وشعرية قادرة على تفجير طاقات العلامة الشعرية على اتساعها .

رابعا : يجمع بين المرحلتين الأولى والثانية  اتساع مساحة الشعراء العرب ( من غير المصريين والسودانيين ) وهو ما يرتبط بفترة القومية العربية والمد الناصري حتى بعد وفاة عبد الناصر (1970).

خامسا : في سياق تصوير الشعراء للنيل ارتبط بقيم تبدو لصيقة الصلة به يكاد النيل عند عدد من الشعراء لا يتجاوز هذه القيم ولا يستحضره الشعراء في القصيدة أو يصورونه بمعزل عنها ، ومنها : عراقة التاريخ : وهو ما تكشفه قصائد شوقي ومن جاء من بعده من شعراء ، و الكرم والعطاء : من الارتباط بين النيل والإنسان جاءت هذه السمة ” إن هذا الاندماج الشديد الوضوح بين النهر والبشر هو الذي أتاح لهردوت أن يطلق عبارته الشهيرة التي أخذت في وجدان المصريين مكان المسلمات : ” مصر هبة النيل ” ( [7] ).

 نيل حسن طلب نموذجا

للشاعر المصري المعروف حسن طلب رؤيته الخاصة للنيل ، وحضوره المتميز الذى يعد تشكيلا مغايرا يتجاوز فيه الشاعر كل من سبقه في مقاربة النيل بصورة أقرب للوثائقية منها إلى اعتماد النيل شخصية يصور بها الشاعر لا يصورها بحيث تبقى مادة أساسية في التشكيل .

للنيل عند حسن طلب حضوره المتميز على مستويين :

  • مستوى تجربة الشعر المصري الحديث .
  • على مستوى تجربة الشاعر عبر تفاصيلها ، ومخرجاتها ، لك أن تعود إلى دواوين الشاعر الخمسة قبل ديوانه ” لا نيل إلا النيل ” لتكتشف أن الديوان السادس – وفور مطالعة عنوانه – يمثل اتجاها جديدا ومغايرا لما سبق من أعمال الشاعر ( [8] ) ففي الدواوين السابقة كان واقع الشاعر ومجال رؤيته الحيوية مدار التجربة ، ويمكن تسميته بواقع القصيدة ونعنى به هنا ذلك المجال الذى تدور التجربة في فلكه أو ذلك العالم الذى يتشكل خطابه وفق تفاصيله التي قد لا تكشف عن ملامح لواقع يقارب ما هو خارج من القصيدة خلافا لما يطرحه ديوان ” لا نيل إلا النيل ” حيث تأتى العلامة الواقعية (النيل ) تلك المتجذرة في ثقافة المتلقي والتي تمثل جانبا أو نطاقا واسعا لثقافته ، تأتى هذه العلامة لتمثل نوعا من نزول الشاعر أو خروجه من واقعه إلى واقع المتلقي ويمكنك عقد مقارنة سريعة بين البنفسج أو الجيم بوصفهما علامتين شعريتين  تتعدد فيهما مرجعية العلامة وتأويلاتها في مقابل النيل بوصفه علامة لها مرجعيتها التي يلتقى عندها الشاعر ومتلقيه وإن بدا تباعد الصورة النصية عن الصورة الواقعية ، والمتلقي قد تشطح به الصورة النصية بعيدا ولكن يظل النيل الذى يعرفه هناك في خلفية الوعى وفي أدق تفاصيل عملية التلقي للصورة الشعرية ، فالشاعر لا يخلق صورة موازية للنيل وإنما يلعب على النيل الذى تعرفه أنت وأعرفه أنا ، لك أن تراه يؤول ما نعرفه أو يفلسفه ، ولك أن تراه يرسم صورة أعمق مما نراه ، أو يقيم حوارا من نوع خاص عبر خطاب متفرد لمكاشفة وجه من وجوه الواقع.

لقد كان لحضور النيل تشكيل الحد الفاصل بين نوعين من الخطاب : نوع سابق يضم تجربة الشاعر في الدواوين السابقة التي اعتمد فيها الشاعر على واقع ميتافيزيقي خاص يقف فيه أمام البنفسج الذى نعتقد أننا نعرفه فيكشف مالا نعرفه ، ولكن الوقوف عند النيل هو وقوف على واقع فيزيقي ، وقوف على ما نعرفه ليكشف ما يجب أن نعرفه ، وكأن الشاعر يقول من عرف النيل ووقف عليه يصعب أن يعود لواقع لا يمثل النيل عماده الأساسي  ، فقد كان لتجربة الوقوف أثرها الواضح في تشكيل ملامح جديدة لتجربة الشاعر فيما تلاها من أعمال يكفي التدليل عليها بالإشارة إلى قصيدته الفريدة والجريئة المعروفة باسم ” مبروك مبارك ” التي كانت خطابا شعريا شديد اللهجة لرأس النظام وقتها (2005) قبيل انتخابات الرئاسة المزعومة آنذاك وكانت بمثابة إعلان العصيان الشعرى على النظام .

تجربة النيل أو حضور النيل عند حسن طلب يعتمد على جناحين ، أحدهما ديوانه  ” لا نيل إلا النيل ” ، وثانيهما قصيدته  ” أسماء النيل المنزلة  “( [9])، حيث يفرض النيل حضوره منذ العنوان مشكلا علامة شعرية أولى تشير بقوة إلى حضور طاغ له تأثيره في تشكيل الموضوع والصورة الشعرية و الدلالة النصية ، إنه العلامة الأوضح والأقوى والأكثر قدرة على النهوض بإنتاج جماليات العالم الشعرى .

الديوان قصيدة واحدة ( [10] ) وإن تعددت عناوينها الداخلية التي جاءت بمثابة تموجات المد والجذر، لك أن تراها معلقة من نوع خاص أو جدارية تعد تطورا طبيعيا عن المعلقة ([11]) ، يكون للجدارية سماتها وإن قاربت أو شاركت أو استمدت من المعلقة بعض هذه السمات وفي مقدمتها :  الطول – تعدد الموضوعات – التنوع والتضاد – التكرار- تعدد الأصوات- حضور الذات الشاعرة – الخلفية المعرفية – التجليات المكانية – ترددات العلامة الشعرية – الاشتباك مع اللحظة التاريخية ، وغيرها مما يمثل مكاشفة للعلاقة بين الشكليين الشعريين . 

لك أن ترى الديوان قصيدة مدح للنيل ، مطولة يمر الشاعر فيها بمراحل من الحركة والنشاط الإنساني ومجابهة قوى الطبيعة سبقه إليها الشاعر العربي القديم ولكن الشاعر الحديث يقارب ممدوحه في سياق حيوي لا تتوقف رؤيته على رؤية ممدوحه فقط وإنما يوسع من زاوية الرؤية ، ويعمقها ليرى الممدوح في إطار صورة أكبر تكون مكاشفتها دليلا على أن كاميرا الشاعر لا تضخم الممدوح ليملأ الكادر وليراه المتلقي خارج دائرة المقارنة الكاشفة ، وإنما يضعه في سياق يجعلك تراه في إطار أفق مفتوح وإن بدا محددا ، المقارنة فيه لصالح هذه الذات التي يجعلها الخطاب الشعرى نموذجا لممدوح من نوع جديد لا يستأثر بالصورة وحده ولكن هو العنصر الأهم فيها ، وهو ما يتجلى عبر الأصوات المتعددة التي سمح الشاعر الحديث لها أن تطرح كينوناتها وقضاياها .

يستهل الشاعر الديوان باستضاءتين مطروحتين بضمير المتكلم : تفرض الأولى موقفا تصرح به منذ الوهلة الأولى :

  • واقفا – كنت – على عقرب ساعة

أستعير الوقت من مقبل عمرى ( [12] ).

فيما تطرح الثانية حالة تعبر عن موقف آخر:

  • كنت مشدودا إلى حافر عنزة

أرقب البرق من الشرق

أهز النيل هزة

يتهاوى البرق نارا في العيون المشمئزة

ويميل الليل عنى

مبحرا كنت من النيل

إلى ساحل غزة ( [13]) في الأولى يؤكد الشاعر على موقفه (بتقديم خبر “كان” عنها واسمها ) ذلك التقديم الذى يعد أسلوبا تكرر ست  مرات في الاستضاءتين تحدد جماع موقف الشاعر  (واقفا – مستضيئا – غاضبا – رافضا – مبحرا – حالما  ) طارحا في الحركة الرابعة ما يشبه بيت القصيد المعرب عن خلاصة موقفه : “رافضا كنت لأنصاف الحلول المستطاعة “، وكاشفا – عبر الفعل الناقص ” كان ” – عن تأصل الصفات السابقة المطروحة في خبرها (  [14] ) ومختزلا في الأسماء الستة التي تجمع بينها صيغة اسم الفاعل سردية مصغرة يعبر عنها الترتيب الدال لهذه الأسماء ففعل الوقوف يأتي في البداية بمثابة الكشف عن الموقع أو المكان الذى تنطلق منه الأحداث ، يتبعه فعل الاستضاءة اللازم للمكاشفة التي تفضى نتيجتها للغضب الذى يؤدى بدوره إلى الرفض مما يدفع الشاعر للإبحار في محاولة لإنجاز حلمه الخاص ، وهنا لك ان ترى الحالم / الفاعل هو الشاعر ولكن التقدم في مكاشفة العالم يجعلك تنحاز إلى أن الصوت هنا هو صوت النيل الذى يثبت لنفسه مكانة عبر الصوت ليؤهل المتلقي لمساحة الصورة التي ليس سوى النيل قادرا على تشكيلها وهو ما يمكنك مقاربته عبر السؤالين الدالين اللذين تنتهى بهما الاستضاءتين :

  • فترى :

هل ينفع النيل صدى ؟

هل يستمر الليل

في طهو المجاعة ؟ ! ( [15] ).

  • فترى :

هل ينسخ الحرف بحرف

   وترى :

هل يمسخ النسر أوزة ؟! ([16]) طارحا عبر الأسئلة الأربعة عددا من الدلالات المختلفة لأسلوب الاستفهام في بلاغاته المتعددة ذات المستويات المتعددة أيضا فالأساليب الأربعة لها مستويان أولهما ينبني على الانفصال انفصال كل أسلوب عن سياقه لتتضام الأساليب الأربعة في سياق واحد عندها تفيد النفي ، ومستوى الاتصال حيث يبقى كل أسلوب مرتبطا بسياقه الخاص ليخرج الاستفهام إلى دلالات بلاغية جديدة تتناسب والسياق والذى يتناسب بدوره مع فعل الرؤية الذى يكرره الشاعر مطروحا على مخاطب افتراضي يدخله الشاعر دائرة الحوار موسعا من دائرته (الحوار ) في قيامه على سياقين : الديالوج ، والمونولوج .

 هنا يتجاوز الشاعر الحديث ديكتاتورية الشاعر القديم ، مفسحا المجال للذات العليا ذات الآخر (الممدوح )، فالشاعر القديم في وقوفه على باب ممدوحه كان يبخسه حق الكلام ولا يمنحه الفرصة لأن يقول معبرا عما يرى وما يراه هو الشاعر وصوره التي تنسال عبر قصيدة يتحكم الشاعر فقط في مادتها وصورها ويجعل الممدوح يرى نفسه في مرآة الشاعر ولكن الشاعر الحديث يتخلى عن ديكتاتوريته ليمنح ممدوحه حق القول  فالذات التي ، وحيث تفرض عليه تقنية توظيف الأشياء أن يحول العالم إلى مادة تشاركه التجربة ، هنا تتجاوز صورة النيل كونها وثيقة على النيل إلى كونها وثيقة على رؤية النيل ، ينتجها النيل نفسه ، ويتوجه بها إلى جمهوره ، إنه صوت الممدوح المنفلت من المعلقة القديمة محققا وجوده في المعلقة الحديثة عبر عدد من التقنيات الخاصة : المعجم –- تشكيل القصيدة والأصوات الشعرية – الرؤية للعالم .

معجم النيل

يفرض النيل معجمه (تتردد مفردة النيل 181 مرة تجمع بين الصيغة المتداولة، صيغة المفردة المحلاة بأل 145 مرة، تلك الصيغة الدارجة للنيل، والمعروفة دلاليا لكل من يقارب الثقافة العربية ، أو يتداخل مع ثقافة النيل  بوصفها عنصرا أساسيا في الثقافة العربية عامة والمصرية خاصة ، وصيغة غير المحلى بأل 36 مرة) ، وهو معجم يفرض نفسه على القصيدة / الديوان ، وعلى مدار الصفحات (78 صفحة ) بمتوسط تكرار مرتين في الصفحة الواحدة .

سيميائيا يمثل هذا المعجم مستوى قوليا يتصدر المستويات المتعددة للتحليل السيميائي ، وتعد التكرارات روابط بين العلاقات اللغوية في الديوان ، بحيث يتداخل النيل مع كل المعاني التي تطرحها القصيدة جملة وتفصيلا ، ويجعله ( النيل ) أيضا عنصرا له قدرته على ان يتسرب إلى كل الصور وكل الأشكال الشعرية التي يجعل الشاعر منها سبيكة معلقته ، فالشاعر يجمع بين ثلاثة أشكال شعرية : العمودي – التفعيلة – النثر في سبيكة لها القدرة على الكشف عن التنوع وطرح فكرة المقاومة مقاومة الشكل القديم ( العمودي ) أو الوسيط ( التفعيلة ) للفناء  أو مقاومة الحديث ( النثر ) للعجز عن التجاوب والدخول في علاقات جديدة مع الأشكال الشعرية القديمة ، إن الشاعر يخلق شخصية لها أبعادها التاريخية للنيل عبر هذه السبيكة المقاومة للشكل الفرد أو للعنصر الواحد وهو شكل جديد من أشكال رفض الشاعر لديكتاتورية الفرد ولو جماليا .

الشاعر بهذه السبيكة الشعرية يمنح الأشكال الشعرية حق التجاور ليعلن أن النيل قادر على احتواء كل الأشكال الإنسانية وكل الرؤى، وأن السبيكة نتاج شعرى يكافئ في طوله  امتداد النيل ويجعل من تردد المفردة شبكة من العلاقات الجمالية بالأساس فرؤيتك النيل في أي بقعة على امتداد مساحته تضعك أمام النيل الذى تعرفه وتجعلك قادرا على استيعاب مستويات عدة – حسب قدرتك – لصورة النيل وشخصيته ، وكذا تلقيك مفردة النيل في القصيدة كل مرة تعيدك إلى تصور النيل ، يحدث هذا قبل أن تقارب المستوى الأعمق لدلالة المفردة في تجددها عبر السياقات المختلفة على مدار القصيدة ، فتكرار المفردات في تواترها وامتدادها يمثل نوعا من التدفق المماثل تدفق مياه النيل نفسها في تقدمها واستمرارها .

……………………..

هوامش وتعليقات

 – تتسع مساحة حضور النيل في الشعر للدرجة التي يصعب الإحاطة بها في مقالة واحدة وقد سبق أن شاركت في مؤتمر ثقافة النيل (2009) بدراسة تأسيسية لمشروع دراسة النيل في الشعر العربي ، وتلتها  سلسلة من المقالات نشرت في مجلة الهلال بعنوان ” النيل يجري شعرا” مسلسلة على مدار خمسة شهور (أبريل 2012- أغسطس 2012) باتفاق مع الأستاذ عادل عبد الصمد رئيس التحرير وقتها ، ولم يف رئيس التحرير الجديد ( المنتخب ) بما وعد باستكمال السلسلة ، ومن هنا تقف هذه الدراسة عند نقطتين أساسيتين :

– استجلاء الخطوط العامة لخارطة النيل الشعرية .

– الوقوف عند نموذج شعري واحد كاشف لا تعني مقاربته تحديد السمات العامة وإنما تعني خصوصيته بوصفه نموذجا مفارقا استوعب النماذج السابقة منتجا خصوصيته.

[1] – مصطفي الضبع : النيل يجري شعرا – مجلة الهلال – القاهرة – أبريل 2012.

[2] – الأغنية من كلمات مرسي جميل عزيز ، ومن ألحان محمود الشريف .

[3] – الأغنية من كلمات كوثر مصطفي ، وغناها محمد منير في فيلم : البحث عن توت عنخ آمون من إخراج يوسف فرنسيس ، والأغنية  تجمع بين الطابعين : الرومانسي والواقعي في رؤية النيل ، وتمثل الأغنية وجها مغايرا في نوعه ولكنه يتوافق مع واحدة من أبعاد الصورة المتداولة في قصيدة الفصحى ، تلك القائمة على أنسنة النيل والتعامل معه بوصفه شخصية لها أبعادها الإنسانية ، تقول كلماتها : ولا بيوصل ولا بيتوه ولا بيرجع ولا بيغيب
النيل سؤال ومازال ماجاش عليه الرد
من قد إيه والخير مقلش عمره لحد
سهران يوشوش ناى والحلم رايح جاى 
قباله ع الشطين بيحب صوت الناس 
وغنا البنات بالليل 
بيكره الحراس لما بتدوس بالخيل
ولابيوصل
تفوت أيام تموت أحلام تعدى شهور تدور الأرض والدنيا وهوه بيدور
ولسه  بيجرى ويعافر ولسة عيونه بتسافر ولسة قلبه لا يتعب من المشاوير”

[4] – منها أغنية : خليك على عومي ياموج البحر   خليك على عومي يانهر النيل

راجع : بهيجة صدقي رشيد (جمع وتدوين وترجمة للإنجليزية ): 80 أغنية شعبية من وادي النيل (مصر) – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة د.ت – ص 62 . 

ولايخفي أن المصريين  وخاصة في صعيد مصر يطلقون كلمة البحر قاصدين النيل ، ومن المألوف أن تجد تعبير “بحر النيل “متداولا بين أبناء مصر في هذه المنطقة .

راجع : بهيجة صدقي رشيد (جمع وتدوين وترجمة للإنجليزية ): 80 أغنية شعبية من وادي النيل (مصر) – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة د.ت – ص 62 . 

[5] – مصطفي الضبع : النيل يجري شعرا – مجلة الهلال – أبريل 2012.

[6] – ديوان محمد فضل إسماعيل – المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية – القاهرة 1972، ص 297، ومطلعها :

                                     يانيل أين الساحرات     وأين عهد الفاتنات .

                                    أين العرائس قد زففــــــــن إلى مياهك حاليات

                                     حدثني حدث عن زما    نك في الليالي الخاليات

                                    عاصرت (مينا )في صباه    فأين تلك الذكريات

[7] – د. محمد حسن عبد الله : ثقافة النيل – مؤتمر إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي التاسع – حلوان 24-26 مايو 2009.

[8] –  وشم على نهدى فتاة دار أسامة – القاهرة 1972.

–  سيرة البنفسج – دار كاف نون – القاهرة 1986.

 –  أزل النار في أبد النور- دار النديم -القاهرة 1988.

–  زمان الزبرجد – دار الغد – القاهرة 1989.

–  آية جيم – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1992.

–  لا نيل إلا النيل – دار شرقيات للنشر والتوزيع -القاهرة 1993.

–  مواقف أبى على وديوان رسائله وبعض أغانيه – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 2002.

–  حجر الفلاسفة – مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات – القاهرة 2006.

–  إنجيل الثورة وقرآنها ، ثلاثية شعرية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2011.

[9] –  حسن طلب : نزهة في ظلام الضوء ، مختارات من شعر حسن طلب – دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة 2008.

[10] – يكاد هذا الشكل ، شكل القصيدة الديوان أو الديوان القصيدة يمثل الشكل الأثير في تجربة الشاعر تجده في ديوانه الثاني ” سيرة البنفسج ” وتكرر في ” آية جيم ” وتجده في معظم الدواوين آخذا شكلا غير مباشر كما تطرحه تجربة الشاعر في ديوانه ” مواقف أبى على ” أو في ” إنجيل الثورة وقرآنها ” حيث الموضوع الواحد يشكل مدار التجربة ويفرض قوانينه البنائية على الديوان ، ويعمل على تشكيل أفق التلقي موجها متلقيه  إلى مسارات متنوعة في تلقى تجربة مكتملة الأركان متفردة التشكيل الجمالي في كل تفاصيلها .

[11] – راجع دراستنا: القصيدة الجدارية (قيد النشر) وفيها تفاصيل العلاقة بين المعلقة والجدارية ، وأهم السمات المشتركة ومساحات التطور في الجدارية ، وأهم تجلياتها في الشعر العربي الحديث .

[12] – لا نيل إلا النيل ص 7.

[13] – لا نيل إلا النيل ص 9.

[14] – يفيد الفعل الماضى التام معنى تمام الحدث أو الانتهاء فيما يفيد نظيره الناقص (كان )عن التأصل والاستمرار ، تأصل الصفة المطروحة عبر خبر كان واستمرارها ، وهو الاستخدام المتكرر في القرآن الكريم كما في قوله تعالى :  وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ” النساء 99.

[15] – لا نيل إلا النيل ص 7.

[16] – لا نيل إلا النيل ص 9.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)