“النسوة اللاتي”.. فانتازيا الهزيمة والحب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 263
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الدناصوري

لا أعرف لماذا كتبت العنوان بهذه الكيفية. ليس من المنطقي تقديم الهزيمة  على الحب. ربما فعلت ذلك لأن الرواية تحتفي بالهزيمة في المقام الأول، هزيمة الأوطان، الإنسان، وأخيراً هزيمة النفس. ربما أيضاً لأن الرواية يندر فيها الحب، بينما يرتع الحقد والظلم في جنباتها، وربما أيضاً لأن الجميع خرج في النهاية خاسراً، مع اختلاف درجات الخسارة.

إذا كنت مطلعاً على كتابات وجدي الكومي فستندهش حتماً بينما تقرأ روايته الأخيرة ” النسوة اللاتي.. ” الصادرة مؤخراً عن دار سرد. ستندهش لأنه ليس من السهل على أي كاتب أن يغير جلده بهذه السلاسة والحنكة، كأن شيئاً لم يحدث ذات بال، هذا أنا منذ زمن، أنت فقط لم تنتبة أيها القارئ بما فيه الكفاية، وخصوصاً لو أن هذا التحول جاء مفاجئاً بعد روايتين كانت منطقة ” بين السرايات” هي البطل الأول ومسرح الأحداث وملعب الشخصيات.

في رواية ” النسوة اللاتي.. ” يبتكر الكاتب مكاناً متخيلاً تماماً، بشوارعه، بشخصياته، بجغرافيته، بإحداثياته، بحكامه، وحتى بزمنه الخاص. ينطلق من الواقع حتى يلامس المتخيل، يغامر بالكتابة في فضاءات غير مطروقة وغير آمنة وغير متاحة إلا لمن آمن قلبه، يرتكز على الواقع ليخلق ويطير نحو سماء أرحب من الخيال والرؤية.

**********

تبدأ الرواية بشرح جغرافيا الفضاء الذي تتصارع فيه الشخصيات “بلد المحيط”، موقعه، ما يحيطه، ثم بثبت فيه أسماء أحياء وشوارع البلد، والتي تمتزج في تسميتها بالواقع الشعبي، بالصوفي، وبالمتخيل.

تتناوب الشخصيات المتورطة في سرد الأحداث بالتناوب، عبر ألعاب سردية محكمة، بداية بـ ” جون ” الذي يعمل في الأمم المتحدة بإدارة الإستشعارات المبكرة والإنذار الأولي. يكلف جون بمهمة تبدو عبثية تماماً،الذهاب لبلد المحيط لدراسة ظاهرة عجيبة وفريدة من نوعها، عقم الرجال، إختفاء الأطفال، والبحث عن قصة حب في بلد لا أثر فيه لقصص من هذا النوع، بلد يخلو أساساً من براءة الأطفال، وعبر أجواء كابوسية بامتياز، يحكي لنا “جون” ما لاقاه أثناء رحلة البحث عن سبب هذا الوباء المنتشر بين الرجال والذي أدى في النهاية إلى نشوب حرب أهلية. جون يشم الحرب في البداية من الأساس، يذهب إلى شاهيناز، المعمرة التي نُصح باللجوء إليها، بالسماع منها، لأنها كما وصفت نفسها، تعرف الشاردة والواردة. يبدأ جون مهمة التدوين بعد نشوب الحرب ” حرب الولادة ” كما أسماها، يدون كل ما رآه، ويضم إلى تقريره شهادات المتورطين في الحرب، وبينما تمضي الأحداث وتتشعب، تتسلم الشخصيات المتورطة نواصي السرد على مدى إمتداد الرواية، في لعبة سردية يلعبها المؤلف بدهاء، نطلع على جانب القصة من كل شخصية، ووجهات النظر، وأجزاء من الحكاية، كل شخصية تسلم طرفاً من الحكاية لأخرى، الجميع يبدو كقطع البازل في جدارية ضخمة من الفسيفساء، الجميع له دور، وله جانب من الحكاية لا يكتمل إلا بوجود الآخر.

تتسلم شاهيناز ناصية السرد في البداية. معمرة، نصف عجوز، ونصف شباب. تبدو فاتنة من الخارج، متآكلة من الداخل، تُغتصب في شبابها، وتعامل بإزدراء وكأنها صاحبة الجريمة، هي المغوية. يبدأ المجتمع في تهميشها ولفظها خارج قواعده، تخسر وظيفتها وتخسر أمها وتبدأ رحلة لانهائية في دهاليز الغيبيات والمشايخ وتنعزل في بيتها وعملها الذي ورثته من رجل كان يتسلى بجسدها كل يوم. تحمل مقتاً تجاه الجميع، تكرة الجميع، حتى وهي تحاول أن تدعي أنها خادمة أحد الأولياء لتساعد المحتاجين، ولكنها تتخذ ذلك كوسيلة للسخرية من أوجاعهم ودفنها في الرمال. تخرج مقتها وغضبها في النوم مع الرجال وتجريدهم من نطفهم، تدرك أنها لعنة تصيب كل من يلمسها بالخواء والعقم. يتورط القارئ تلقائياً بالتعاطف مع شاهيناز، حتى تعترف في سردها للأحداث بخيانة كل من كانوا سبباً في نشوب “حرب الولادة”، من أجل الحب، من أجل الرجل الناجي الوحيد الذي لا يزال يحتفظ بماءه، في بلد تخصي العزاب وتحبس العوانس وتزوج الجميع من الجميع عبر إجراءات روتينية مقيتة وصارمة، وتبدأ شخصية شاهيناز بالتشظي والإنفلات نحو القاع.

تنشب حرب الولادة عقب تفشي وباء العقم بين الرجال، تعتصم النسوة، يردن ماء الحياة، يردن الإنجاب، يردن الحق في الحياة، في الحرية، تهجم ميليشات مسلحة تابعة لمافيا شركات الأدوية على الإعتصام ليلا وتتم إبادة جميع النسوة اللاتي كانوا في إعتصام الميدان، نفس الميدان الذي أغتصبت فيه شاهيناز “ميدان الخضراء”، ثم تندلع حرب ضروس بين ميليشيات المرتزقة من جهة، وبين كتائب النسوة من جهة أخرى.

في أكثر من موضع، تظهر أجواء ألف ليلة وليلة وروائحها في سطور النص، بين الأجواء الكابوسية للحب والخراب والعنف والخيانة تبرز حكايات الأرمني العجوز الذي يبيع أرضع قطعة قطعة مقابل القصص، وأيضاً في حكاية حسين المشرحجي مع الست أم دينا والتي تقتل الرجل في الصباح بعد أن تمتص رحيقهم طوال الليل وتدرك خوائهم، كما تتجلى تماماً في أسلوب إعدام الثائرين وخصوصاً ذهني بالخوزقة.

تتناوب الشخصيات في سرد الحكاية بلا ترتيب، وتسلم ناصية السرد، ابتداءاً من ياسمين وذهني، أحد مؤسسي التنظيم السري الذي كان سبباً مباشراً في التعريف بالوباء الذي أصاب البلدة. إلى شخصية تتدخل دائماً بلا ضوابط في أحداث السرد وهي شخصية “شاكر” الحيوان المنوي، نسمع وجهة نظره فيما يجري، تحالفه مع النسوة، مساهمته في أحداث حرب الولادة، تسخيره لكتائب هلامية، وهمية لخدمة كتائب النسوة المحاربات. نرى شخصية السياسي الفاسد، يحكي كواليس السلطة، الجميع مسخر للفساد، في خدمة الفساد، والمرتزق بعل زبول، العزرائيلي مقاول الحرب من الباطن، الذي يعيث فساداً في المدينة، يقتل بلا رادع، وبلا رحمة، حسين المشرحجي، أحد جنرالات السلطة قديماً، العارف بدهاليزها السرية، يرى الشعب كالبهائم، الجميع بالنسبة له يستحق الذبح والسلخ، ولكنه في النهاية يحارب في جانب النسوة، ويقع ضحية لخيانة شاهيناز في النهاية كما وقع الجميع. سين عين، الناجي الوحيد، النباتي، مربي السلاحف وكاره البشر، لا يزال يحتفظ بماءه، تحتفظ به شاهيناز في منزلها لعله يكون هو المهدي المنتظر الذي سيزيل غشاوة عمرها المنقضي في الغل والحقد، مصيره يختلف عن الجميع، تنتهي الرواية بوقوعه في قبضة المرتزقة وهو محور التنازع لما يمثله من قيمة رمزية بالأساس.

الثابت هنا أن الجميع قد مُني بالهزيمة، جون وياسمين وذهني وحسين وأم دينا وشاهيناز وشاكر والعزيز رئيس الوزراء، والأهم بلد المحيط نفسه، والذي عبر مسارات عدة نلمح تشابهات مثيرة بين ما حدث في بلد المحيد وبين ما حدث في المحروسة منذ تسع سنوات بالضبط. كل أبطال الرواية والمتورطين في السرد على اختلاف مسعاهم منيوا بهزائم فادحة إن لم تكن في الأرواح، فقد منيوا بفقدان أنفسهم، حتى بلد المحيط، لم يعد ذلك البلد البائس التعيس الذي دخله جون قبل الحرب بثلاث سنوات، لم يحتفظ حتى بحقه في التعاسة بشكل هادئ.

الجميع كان يبحث عن الحب، بشكل أو بآخر، الحب بمعناه الأشمل، ومع ذلك فقد خرج الجميع بلا طائل، ورغم ذلك كتب أحدهم على جدار أحد الجدران “الحب سينتصر على الحكومة”. رغم السوداوية الحالكة، ورغم الغرائبية المسيطرة، ثمة من يؤمن بإنتصار الحب في النهاية، مهما حدث.

على أي حال فالنسوة اللاتي رواية متفردة في خيالها، في علاقتها بالواقع، في شخصياتها، والأهم من ذلك في صنعة الكتابة نفسها، وستظل طويلاً راسخة في بنية السرد المصري كحدث يستحق الاحتفاء.

 

مقالات من نفس القسم