المُرهَف

ياسر عبد اللطيف.. ولا أحد سواه
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام مصطفى إبراهيم

التقيت محمد خير لأول مرة، في جريدة الدستور القديمة، أيام كنت أُحرّر صفحة "في الغميق"، بصحبة محمد هشام عبيه ونانسي حبيب وشادي عيسى ومحمد فوزي وعبد الله أحمد، رفاق الزمن الجميل، لم أكن قد قرأت له شيئًا بعد، وإن لاحظت هدوءه وابتسامته المريحة، وتواضعه الجمّ.

فيما بعد، أهداني عبيه مجموعته القصصية “عفاريت الراديو”، لأجد أنني أمام سيد من أسياد الحكي والتكثيف، وعندما وضعتُ كتابي “نعيق الغراب” الذي أوردتُ به نصوصا قصصية لأهم كتّاب الشباب في هذه الفترة، بالإضافة لدراسة نقدية لكل قصة، كان خير من أوائل اختياراتي، لأتحدث عن قصته البديعة “لم نفكر”.

اللقاء الثاني كان بعد سنوات طويلة، في دار ميرت، عندما كان خير يوقّع روايته الفريدة “سماء أقرب”، وسط حشد من محبيه ومعجبيه، الذين تركوا ما بأيديهم، ليستمتعوا بلحظات يقضونها خارج الزمن والعاديّ والطبيعيّ، في حضرته، وحضرة فنه.

المرة الثالثة للقاء، كانت بين دفتي كتاب، عندما كلّفتني الصديقة كرم يوسف بمراجعة كتابه الأخير “رمش العين”، الذي أزعم أنه نافذة جديدة على مدى تطوّر ونضج خير، الذي أصبحت الكتابة بالنسبة إليه، رحلة حقيقة لسبر الأغوار الإنسانية، ورصد تقلباتها بيعني خبير، وإعادة تضفيرها في شكل جديد، يكشف لنا ما لم نتصور قبلا وجوده.

آخر لقاء جمع بيننا، كان في حضرة الأستاذ ياسر عبد اللطيف، في احتفالية الكتب خان، بحصول على ساويرس، كان خير مرهقا، ويعاني فيما يبدو وجعًا في أسنانه، لكن هذا لم يمنعه من معانقتي بود، ومنحي واحدة من ابتساماته الطيبة.

ماذا أردت بكل هذا؟

أردت أن أقول، إن خير، الإنسان والكاتب، وجهان لعملة واحدة، عنوانها الرئيسي الرهافة، وبراعة التقاط التفاصيل، هذا كاتب مختلف، لا يُقبل على الكتابة كونها حرفة، وإنما كمعادل موضوعي للحياة، يمنحها ويأخذ منها، ليكون المنتج النهائي أدبًا حقيقيًا، واقعيًا، وإن كانت لغته شاعرة، يأخذ من حياته ليضع في كتابته، ويأخذ من كتابته ليعيش حياته.

وهو في كلٍ، مبدع.

 

نص “لم نفكر” الذي نشرته لخير بكتاب “نعيق الغراب” والتعليق عليه

لم نفكّر

كبرنا في نفس البناية، ودخلنا ذات المدرسة، وراقبت منها ما سمح به انحسار الملابس العفوي، وانتهينا من المدرسة وابتعدنا، دخلنا الجامعة وتخرّجنا، وتزوّج كل منا، هي غادرت الحي، وأنا غادرت البلاد، وعدت، ثم قابلتُ واحدة تشبهها، تحمل طفلة فيها من ملامحنا لو اندمجت سويا، ومع ذلك لم أفكر فيها أبدًا، ولا أعرف إن كانت قد فكرت فيّ يوما!

وعلى ناصية كل مفترق في حياتنا، كانت حياة مختلفة، تتحفز للانطلاق، لو أننا التفتنا إليها معا في نفس اللحظة.

لن أفكر فيها أبدًا، ولو كاحتمال بسيط، لم يعد ممكنا، ولكنني أحيانا أحب أن أكتب على ورقة عدد الاحتمالات، وشكل الأطفال، وأنواع المشاجرات التي كانت ستولد بيننا، واللحظات الحلوة التي كنا سنخلقها سويا في أماكن غامضة.

محمد خير

 

التعليق على القصة:

نيجاتف حياة أخرى

حوار مع النص:

بداخل كل منا حكاية قديمة، أو قصة مطويّة، يحملها برفق بين ضلوعه، من أيام الشباب والانطلاق والحب الأول، ربما يحلو له أن يستخرجها بين الحين والآخر، يتأمل التفاصيل، ويلهث وراء الخطوط الباهتة المتبقية، ويحلم، ويضع الاحتمالات.. ماذا لو كنا قد اجتمعنا معا في النهاية؟ وماذا كان يمكن أن يطرأ على مصيرنا الحالي!

لكن الإجابات –غالبا- ما تكون مُفحِمة، أو غير موجودة، أو مقدّمة لمزيد من الألم الذي يملك كل منا –في الواقع- ما يكفيه منه.. ويزيد!

والقاص المتمكِّن محمد خير، يستحضر –عبر ضربات من قلمه.. حادة ومؤلمة- قصة من هذه القصص، التي تظل –مهما مضت السنون- ذات طابع لاذع وحرّيف، وباستخدام لغة شديدة التكثيف والبراعة، مليئة بالإيحاءات والدلالات، يُلخّص سنوات من العمر، ويستحضر الأيام الفائتة ليحاكمها، ويتأمل زخمها.

ومع أن موضوع استعادة الذكريات -في حد ذاته- مغرٍ بالاستطراد، والتوجّع، وانتهاز الفرصة للتنصل من الأخطاء القديمة، وارتداء ثوب الملاك، إلا أن شفافية خير وخبرته، منعتاه من الانزلاق في هذا الشَرَك، وأمدتاه بالقدرة على التسامي فوق كل هذه الإغراءات، وتقديم مادته بصورة مختزلة، وفي نفس الوقت عامرة بالإيحاءات!

فبطل القصة أحب ذات يوم، ونبض قلبه بالمشاعر الرقيقة، ومع ذلك، لم يكتب لقصته أن تكتمل، في إشارة واضحة إلى أن الحب –حقيقة لا خيالا- ليس كل شيء، وليس هو المقوِّم الوحيد الذي ينبغي أن تسعى لامتلاكه، فإذا نجحنا في ذلك، أزيحت من أمامنا كل العقبات!

ولعل خير لم يشأ أن يحدد أسبابا معينة، كانت وراء بتر القصة، لكي لا يُزحمنا بالتفاصيل من ناحية، ومن ناحية أخرى، لكي يترك لخيال كلٍ منا –المليء بمخزون من حكايات الفراق- أن يخترع الأسباب التي يرى أنها قادرة على التفريق بين المحبين، وهو ذكاء من القاص بلا شك، لأنه هكذا يُورّط المتلقي في فعل الحكي نفسه، ويشركه –شاء أم أبى- في صوغ الأحداث.

وفي منعطف من منعطفات الحياة، تبرز محبوبة البطل فجأة، لتجعله يتوقف قليلا، ويتذكر بعض ما فات، بل ويحاول تخيّل ما كان يمكن أن يحدث لو أنهما اجتمعا معا!

حدث ظهور الفتاة، لم يأخذ وصفُه من خير كثيرًا، ولم يحفل بالجمل الفخمة في هذا المقام، ولا العبارات الرنانة، ذات الطابع العاطفي، وإنما تم التعامل معه مثل غيره من الأحداث، ليس للتقليل من قيمة قصة الحب التي عاشها البطل، وإنما للتأكيد على أن الحياة تمضي، سواء كنا سعداء أو تعساء، تحققنا أم أخفقنا، فإنها تمضي، وتستمر، وهو ما يناقض اعتقادات الرومانسيين الذين يتصورن الحياة فيلمًا سينمائيا، من الممكن أن يتجمّد عند لقطة بعينها، تمثل لهم أهمية خاصة!

وربما تكون رسالة خاصة يوجّهها البطل للمحبوبة –ولنفسه- أنه لم يتأثر لهذه الدرجة بما وقع وتمّ، وأنه أقوى من أن يترك ندبة كهذه، تؤثر في حياته، أو تملي عليه قراراته، فهو قد عاش بدونها، وسوف يستمر في طريقه مهما حدث.

بل إنه يقول إنه لم يفكر فيها مطلقا قبل هذه اللحظة، وهو الادعاء الذي قد يكون صادقا بالفعل، لانشغال البطل بحياته، ورغبته في تحقيق ذاته، وقد يكون على سبيل ادّعاء القوة، والقدرة على تجاوز اللحظة المؤلمة، دون بذل أي مجهود!

لمحات:

-ألفاظ خير، تم اختيارها بعناية فائقة، دون أن يسمح للفظ زائد بالتسلسل، أو يغفل عن لفظ من المفروض أن يوضع، وهي تختزل الأزمنة، وترسم صورة حية لتتابع الزمن.

-عنوان العمل، معبّر، ويشير لرغبة خير في توريط المحبوبة معه في تحمل ذنب الفراق، على الرغم من أنه ها هنا يعرض رؤيته هو للحكاية، دون أن يسمح لنا بمعرفة رأيها، الذي ربما يكون مختلفا تماما، لكنه يبادر فينسب عدم التفكير، وبالتالي الاشتراك في الوصول لهذه النتيجة، للمحبوبة وله معًا.

– قِصَر العبارات، وتتابعها، كأنها تلهث، له معنى آخر، فخير يريد من خلاله، التدليل على سرعة مرّ الأيام، وانقضاء الحياة، بحلوها ومرها، وبالتالي فلا شيء يستحق الوقوف أمامه طويلا، أو البكاء عليه، مادام العمر يسير في النهاية، ويتحرك شريط الأحداث، للمحطة التالية.

-مع أن القصة واقعية، بل شديدة الواقعية، فقد اتسمت بعض ألفاظها بالشاعرية، التي منحت النص روحًا شفيفا من الرقة، وجعلت وصوله لقلب المتلقي أسرع، فيما يعد مهارة حقيقة من خير، وقدرة على اختيار القالب الذي يصب فيه موضوعه.

كلمة أخيرة:

لا يمكنك قراءة هذه القصة لمرة واحدة، وإنما لابد –كالظامئ-أن تعاودها مرارًا، وفي كل مرة، وحتى لو كان المعنى الذي يصلك لا يتغيّر، فإنك سوف تشعر بشعور جديد، وبلذعٍ ما في جانب صدرك الأيسر، وربما يكون هذا هو كل ما تحتاجه، لتجلس مع نفسك جِلسة صراحة، وتحاكم أنت الآخر حكايات الماضي البعيد.  

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم