الموت والحياة وذلك العود الأبدي في رواية “إلياس” لأحمد عبد اللطيف

الموت والحياة وذلك العود الأبدي في رواية "إلياس" لأحمد عبد اللطيف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

من إلياس؟ من ذلك الذي لا يكف عن التأمل لذاته وعن الاستبطان لأعماقه؟ من ذلك الذي لا يحاكي إلا نفسه؟ إنه ذلك الشخص الذي يهيمن على الأحداث والسرد، في«إلياس"، رواية أحمد عبد اللطيف الجميلة، إنه أشبه بتجسيد لحالة مهيمنة خاصة من البحث الموغل في أعماق الذات الإنسانية، بينما تكون في حالة سعي دائم عن معنى وجودها .. عن هويتها .. عن كينونتها .. عن تجلياتها وتناسخاتها، وحلولها عبر أنواع شتى من المعاني والوجود.

هنا نجد صدًى لتجليات هذه الذات التي تحاول أن تتشكل فتنهدم، وما أن تنهدم حتى تبدأ في التشكل من جديد، وهنا أيضًا استكشاف لتلك الحالات السديمية، السائلة، الهائمة، المموّهة، الطليقة من هذه الذات، واستكشاف كذلك لحالاتها المتجسدة المبتكرة المتعينة، المنظورة عبر شروخ الوعي وجروح اللاوعي .. هنا نجد تجليات الوجود وتجليات العدم، تجسيدات خاصة لعمليات هدم وبناء لا تتوقف ولا تكاد تنتهي .. للأنا والآخر والكون وتجليات الوجود كلها في شكل أشبه بالتوالد الذاتي الذي يحدث في حالة بعض الكائنات الحية.

يقول إلياس عن نفسه: “كأن حروف اسم إلياس مكونات لذاتي. مكونات لتاريخي. مكونات لهويتي. هويتي التائهة. هويتي وأنا لا أعرف ما هويتي. كأن الاسم في نهاية المطاف هو أنا. أنا وأنا لا أعرف من أنا». ويحكي إلياس عن نفسه أيضًا، فيقول إنه إنسان لا يحب العمق ولا يفضل الأماكن المغلقة، يحب البقاء فوق سطح الأشياء، وسطح الأشياء هو ظاهرها، ومن ثم فإنه يعد نفسه ظاهرة من ظواهر ذلك الوجود الوهمي، وإنه وحيد، وليس بطلاً ولا مهمًا .. كاتب قصص فاشل، وممثل ثانوي في بعض الأفلام .. إلياس وحيد الوجود والإحساس، وقد دفعه العالم للوحدة: “وأنا لفظت العالم فأصبحت وحيدًا”.

وينظر إلياس إلى العالم على أنه غفل من المعنى، وأنه قد صِيغ من الفوضى، وأن عليه أن يحاول صنع نظام ما من هذه الفوضى، هكذا تكون الكلمات المألوفة السائرة كالحياة والحب والإخلاص وغيرها بالنسبة إليه غامضة، وربما أيضًا لا معنى لها، وذلك لأن الإنسان كما كان جورجياس الفليسوف السوفسطائي يقول “هو مقياس كل شيء” .. هكذا تتكرر في “إلياس” التساؤلات والكلمات الدالة على الرغبة في المعرفة وعلى استحالة الوصول إلى المعرفة أيضًا، وبما قد يذكرنا، على نحو ما، بتلك التساؤلات والحيرة المعرفية التي هيمنت على ميخائيل في بعض أعمال إدوار الخراط المعروفة، وتتكرر الكلمات والتعبيرات والانفعالات المرتبطة بالبهجة وبغياب البهجة، بالمعرفة وانعدام المعرفة، بمعرفة الذات والجهل بها أيضًا!

هكذا يصل إلياس أحيانًا إلى حالة من الشعور بأنه ميت، وأنه جثة متحركة، وأنه يعرف أيضًا أن “الجثة المتحركة تتجول، الجثة تنام وتصحو، الجثة تأكل وتتغوط، الجثة تنظر إلى العالم من الشرفة .. أعرف أني جثة متحركة، وأنظر إلى المرآة كجثة متحركة.. لكن لا أعرف لماذا يطاردني هذا الصوت الذي يرن في رأسي بأسئلة ولا أعرف جوابًا للأسئلة!”.

هكذا تتكرر عبر الرواية حالات متداخلة غامضة مؤرقة من الالتباسات والشكوك وفقدانات اليقين، حالات من الشعور بالغثيان ولا جدوى الوجود والأشياء والبشر والذات، تكرار للأسماء والأفعال والضمائر وأشباه الجمل، وولع كذلك بالأوراق، بالتواريخ والرفوف التي تضم عددًا لا متناهٍ من الكراسات والأوراق المبعثرة الموقع باسم إلياس.. وإلياس بلا أب أو أم أو وصف أو تاريخ، ورغم وجود توقيعه، بخط يده الواضح، على هذه الكراسات والأوراق، فإنه مع ذلك يغيب عنها الإشارات إلى ضمائر المفعول أو الملكية أو التنوين، وكأنها تشي بذلك الغياب الواضح في حياته للآخر الحميم، أو صدى الحبيب أو اليقين القار في أعماقه.

ربما كان ذلك لأن إلياس وحيد، لا آخر له صفة الحميمية في حياته، بل إنه لا يوجد أي يقين في حياته تلك؛ فهي – حياته – موجودة في كراسات وقصص وأدوار ثانوية وعلاقات عابرة مع فتيات أو نساء عابرات.

هكذا يصبح بيت إلياس أشبه بالأرشيف، وتصبح حياته مبثوثة عبر الكلمات، وكأنه من خلال الكلمات التي يكتبها، أو يؤديها عبر أدواره التمثيلية الصغيرة، قد وجد سر حياته واكتشف معنى وجوده، وكأن حياته هذه لا معنى لها خارج الكلمات أو اللغة، واللغة هنا هي التي جعلت منه إنسانًا أو بشرًا، من خلالها يحيا وعبرها يموت.. لغة ترتبط بالرفوف والأرشيف والماضي والتاريخ والقدم، هي لغة حية أيضًا، لكنها حياة تشبه حياة الدمى المتكلمة أو الجثث المتحركة، حياة هي “كلمات، كلمات، كلمات” كما جاء على لسان هاملت شكسبير، من ثم فإن إلياس يستعيد حياته من خلال اللغة والكلمات والأرشيف والتاريخ والذاكرة .. يشهد من خلالها ويرى طفولته وصباه ومراهقته، وبل أيضًا أيام موته وجنازته، وتتكرر إشاراته إلى ساقه المبتورة التي بترت في حادثة ما: “حادثة سيارة، حادثة قطار، حادثة تحدث كل يوم في مدينتي، مدينة الخسائر”.

وإلياس مولع أيضًا بالصور، بصور تشبهه وصور لا تشبهه، والصور موجودة في كل مكان في بيته، صور مرسومة، صور أبيض وأسود، صور ملونة، صور بملابس عسكرية، صور بملابس قس، صور بملابس شيخ، صور بملابس مدرسة.. إلخ، صور أطفال وصور كبار، صور رجال وصور نساء، صور متحركة، وصور ثابتة .. وكأن حياة إلياس قد أصبحت موجودة هكذا من خلال الصور والكلمات والتاريخ أكثر من وجودها الفعلي خلال الحياة، إنها صور تنتمي إلى الماضي أكثر من انتمائها إلى الحاضر، تتعلق بإلياس وتتعلق بآخرين غيره، لكنها في النهاية صور شبحية، تجسيدات أيقونية تشير إلى الجزء الذي حل محل الكل، والصور والأرشيف والكتب والكراسات تتعلق كلها بنوع ما من الموت، موت الحاضر والذات والجسد والحضور الحميم.

هكذا يتجول إلياس في بيته بساق عرجاء مثل شبح: “أتجول مثل شبح ولا أعرف تاريخ الشبح .. لا أعرف ماضي الشبح، لا أعرف تاريخ الشبح، شبح يبحث عن الشبح نفسه بين أوراق مبعثرة”.

هكذا تتجلى الذات هنا من خلال حالة ملتبسة غامضة تجمع بين الغياب والحضور، بين الحضور الجسدي بساق مبتورة والحضور الشبحي الظلي بصور وتداعيات وتوهمات لا تنتهي، والقادر أيضًا على التجول والتحول والبحث والطرح للتساؤلات التي لا تنتهي عن هذه الذات التي تنتمي إليه ولا تنتمي، عن الغائب الحاضر فيها، وعن الحاضر الغائب عنها، عن حضورها الشبحي الورقي الأرشيفي الأيقوني الغامض المفعم بالمخاوف والرعب من هذا الوجود وكأنه هنا أشبه بإنسان هيدجر، ذلك الذي حدثت له إزاحات كثيرة وتغييرات للمواضع عبر تاريخ أصابه التفكك المكاني والتصدع الزماني .. إنه أصل أصبح غريبًا ومتنافرًا، وذات صارت شبحًا، وصوت تحول إلى أصداء لا تتوقف عن التردد بين جنبات الروح الحزينة القلقة الأسيانه الضائعة .. هكذا هيمن على الذات هنا مشاعر متداخلة من الخوف والقلق، على الرغم من تظاهرها الدائم باللامبالاة والحياد.

هنا انهارت كل ألفة في العالم، وصار الكائن، الكينونة، الوجود، معزولاً بوصفه موجودًا في العالم، في هذا العالم، هنا دخل الكائن، إلياس، في شكل من أشكال الوجود، أصبح فيه غير موجود في بيته، بل في عالم موحش غريب، وقد أصابه هذا البيت/ العالم بعصاب ما، عصاب أشبه بالوسواس القهري جعله يكرر ما يقوله وما يفكر فيه ويفعله ويتذكره، كما أنه أدخله في عمليات هدم وبناء سلبية وإيجابية أيضًا لا تكاد تنتهي، سلبية لأنه جعله واقعًا في أسر التكرار أو العود الأبدي، ذلك الذي يجعل الذات غير قادرة على الخروج من أسر هذه الدائرة المغلقة المقلقة المؤرقة المدمرة، وإيجابية بالمعنى الدلالي، لأنها ترصد تاريخ هذا المكان، هذا الوطن، هذه الهوية، هذه الذات الكلية عبر هذه الذات الفردية وهي تتأمل الوجود، وجودها الخاص والعام، وهو يتجلى عبر أنحاء شتى، فترصده عبر الأرشيف والصور والكلمات والذاكرة والمشاهد الحية وتشير إلى مواطن الخلل فيه، ذلك التردد والهوس بالتكرار الذي يجعل هذه الذات تقع في المثالب نفسها، في كل مرة، وفي كل فترة، مهما اختلفت الأنظمة أو التواريخ أو البشر.

ومن ثم فإن «إلياس» بالنسبة إلي أشبه باكتشاف أو بحث إبداعي ما بعد حداثي بامتياز للهوية المصرية والذات، بينما هي تتجلى عبر أحوال شتى من الوجود والمعنى، وتبدو صورة الأم في هذه الرواية وكأنها أشبه بما يسمى بالموضوع الانتقالي أو التحولي في التحليل النفسي الجديد، كما استخدمه وينيكوت وحنا سيجال وميلاني كلاين وغيرهم.

ويعني هذا المصطلح – الموضوع الانتقالي – أنه وبعد خبرة الفطام المؤلمة، يتعلق الطفل بموضوع انتقالي من أجل أن يتجاوز صدمة الانفصال عن ثدي أمه فيتعلق بدلًا عنه بموضوع خارجي يحقق له الاستقلال النسبي عنها، وقد يكون هذا الموضوع الانتقالي متمثلًا في شيء مثل لعبة صغيرة ناعمة، دب من الفراء، دبدوب، بطانية، وسادة… إلخ، تكون له الخصائص المريحة الناعمة نفسها الخاصة بالأم وملمسها.

ومثل هذا الموضوع الانتقالي أو التحولي هو الذي يدركه الطفل باعتباره يمثل جانبًا من الذات، ومن خلال تعلق هذه الذات بذلك الشيء، وجانبًا من العالم الموضوعي أيضًا، كما أنه يكون – كما يشير وينيكوت – بمنزلة الوعد أو التمهيد أو الإرهاص بما سيقوم به الراشدون بعد ذلك من توظيف للموضوعات الثقافية المختلفة من أنماط سلوكية عدة، من بينها الأعمال الثقافية والإبداعية والجمالية.

هنا في «إلياس» عمل جمالي يشي بتعلق حميم بالأم الفعلية والأم الرمزية المجازية، الأم المرتبطة بالحياد والوجود والخصوبة والتدفق والتجدد والإبداع في عالم لا يقدِّم سوى الأشباح والظلال والصور والرفوف والكلمات والموتى والسيقان المبتورة والعلاقات العابرة، وعوالم السطح والفوضى والعماء، والاختلالات. هنا نوع من القلق المستمر، من البحث عن بدائل للذات وعن بدائل للبدائل .. هنا قلق وعدم استمرار، وبحث دائم عن الأم وعن الأب وعن الحب وعن الجمال وعن القيم، الأم هنا غامضة، والأب غامض، والحب غامض، واليقين مراوغ ملتبس غير مقيم!

هكذا يستخدم أحمد عبد اللطيف أحيانًا الفصلات وأحيانًا النقاط، والترديدات والترددات والتكرارات والتساؤلات كي يقدم لنا صورة ما مبهجة غامضة شبحية ظلية هائمة مهومة عن إلياس، إلياس الذي كان وإلياس الذي هو كائن وإلياس الذي سيكون، إلياس الكائن وإلياس الوجود، وإلياس الهوية وإلياس المعنى.

وهنا أيضًا رصد لأحلام وكوابيس ورؤى وحس سيريالي أو واقعي سحري خاص يعيد إلياس من خلاله خلق العالم البصري المرئي أمامه مشاهد وصورًا يتحكم فيها، فيجعل العالم يقام ويتهدم، يتجسد ويدمر بشكل متحكم فيه وأشبه بآليات الخدع السينمائية في السينما الحديثة المتطورة، وهنا تمرد على كل شيء، وتمسك بالدقة وحسن الصياغة، وتدمير للدقة وتفكيك لجودة الصياغة، استحضار للعالم والمادة وتشكيله بصريًّا ومسرحيًّا وسينمائيًّا وحلميًّا وكابوسيًّا، وكأن الناس موجودون فيه في فيلم أو خارجون من كابوس، يصبحون خلاله ممثلين ومشاهدين في الوقت نفسه!

وإلياس موجود في الصور والخطابات والأفلام والكتب والخيال والتاريخ الفرعوني والقبطي والإسلامي، والأندلسي، ومع لوركا، ومع الكثير من مبدعي العالم المتميزين .. وترتبط آليات الهدم والبناء في الرواية بعمليات الهدم والبناء البيولوجية (الميتابوليزم)، وقد ترتبط بالتهكم السقراطي الذي ينطوي على أشكال من التلاعب والخداع، لكنه تهكم أقرب عندي إلى ما يسمى بـ”التهكم ما بعد الحداثي” الذي يتأمل ذاته ولا يحاكي إلا ذاته، إنه قد يكون أيضًا ذلك التهكم الذي قد يذكرنا على نحو ما بالمعنى التراثي للبئر عندما تتهكم، أي تنهزم ثم تبنى من جديد، إنه أيضًا ذلك التهكم الذي يستكشف الذات الإنسانية ويستبطن تناقضات ويظهر من خلال ذلك العجز الإنساني عن معرفة الحقيقة، وكذلك ذلك الوجود الإنساني الزاخر بالتناقضات والالتباسات ويسعى خلال ذلك كله إلى فتح بوابات جديدة للحرية والفهم، والكشف كذلك عن الوعي بإدراك التفاوت أو التنافض بين الكلمات ومعانيها والصور ودلالاتها والأفعال ونتائجها والمظهر والواقع، والحاضر والتاريخ، والذات ومحاولاتها الدائمة لأن تكون موجودة عبر اللاوجود.

إن “إلياس” رواية تزخر بالتوهمات وخداعات الإدراك الدالة على رغبة جامحة في الهروب من واقع مر ووحدة قاتلة إلى واقع آخر مغاير مفارق لواقعه المحدود أو الخيال الخانق. هكذا يستمر إلياس في البحث عن ذاته، مرة كشبح ومرة كغريب، ومرة كمطارد ومرة كقائم بالمطاردة، مرة موجودا في الأفلام أو الكتب والحكايات أو التاريخ، ومرة يكون مرئيًا ومرات عدة يكون غير مرئي أو بلا شخصية محددة. أحيانًا يسير إلى الخلف وأحيانًا إلى الأمام، وأحيانًا يكون رأسه قادر على إدراك ما يحدث خلفه بشكل يفوق إدراكه ما يحدث أمامه أو في داخله.

ويتوالى تكرار الكلمات الدالة التي تدور على محاور تنطلق منها الأحداث الغريبة في عالم أقرب إلى الكابوس أو الهذيان .. لتواجهنا أيضًا القبور والحفر والثلاجات التي سكنها البشر حتى أصبحوا صورة منها. وهناك أيضا أوهام وما هي بالأوهام، موتى وأشباح وظلال ومرايا وكوابيس وتكرارات واستبطان بالذات حد الموت أو حد الملامسة لبدايات الحياة.

هنا في «إلياس» عالم يموت ويحيا .. يسكن ويتحرك، في سكونه تكمن حركته، وفي حركته يولد سكونه .. إنه عالم زاخر بالإحيائية والطقسية والمحاكاة غير ذات الأصل المحدد .. إنه عالم يجسد ذلك العود الأبدي الذي لا يتوقف أبدًا ولا ينقطع.

 

*نشر في جريدة القاهرة

مقالات من نفس القسم