المنسي : المهمشون وسيكولوجية الحوار بين الطبقات *

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
      رامي عبد الرازق* إذا كان وحيد حامد قد استطاع أن يقدم لنا في فيلمه "الإرهاب والكباب" فيلم سياسي ذو صبغة إنسانية فأنه في المنسي يقوم بتحوير المعادلة لتكون فيلم إنساني ذو صبغة سياسية وعلى الرغم من أني لست من هواة تصنيف الأفلام ألا أنني أرى أنه أمر مَلزم في كثير من الأحيان على الأقل لاعتبارات نقدية تتمكن من منح الرؤيا أفقا أكثر رحابة على غير ما يعتقد البعض من أن التصنيف يؤدي إلي (قولبة) الأفلام.   رامي عبد الرازق* إذا كان وحيد حامد قد استطاع أن يقدم لنا في فيلمه "الإرهاب والكباب" فيلم سياسي ذو صبغة إنسانية فأنه في المنسي يقوم بتحوير المعادلة لتكون فيلم إنساني ذو صبغة سياسية وعلى الرغم من أني لست من هواة تصنيف الأفلام ألا أنني أرى أنه أمر مَلزم في كثير من الأحيان على الأقل لاعتبارات نقدية تتمكن من منح الرؤيا أفقا أكثر رحابة على غير ما يعتقد البعض من أن التصنيف يؤدي إلي (قولبة) الأفلام.

فإذا كان الإنسان/المواطن عند وحيد حامد هو المرادف الطبيعي/الاجتماعي لكلمة سياسة-على اعتبار أن السياسة في الأصل قد نشأت لخدمة المجتمع الذي يشكل الإنسان عنصره الأساسي- لذا فأننا لا نستطيع أن نفصل أيا منهما عن الآخر في أكثرية أفلامه منذ “طائر الليل الحزين” حتى “معالي الوزير” فالموظف البسيط في “الإرهاب والكباب”الذي تضعه الظروف السياسية للدوائر البيروقراطية في الدولة موضع الإرهابي مُحتجز الرهائن لا يختلف كثيرا عن الموظف السكة الحديد الذي يضعه الوجه الآخر للمعايير السياسية في الأسواق المالية في مواجهه- طبقيه- مع القوانين التي تحكم هذه الأسواق وإذا كان وحيد حامد قد قدم شخصية الموظف في إطار نمطي-داخل دائرة العاديين-(الأولاد-ليلة الخميس-الرسوب الوظيفي)و الذي يمثل آلاف من الموظفين المصريين.. فأنه في”المنسي”يتوغل إلي أقصى أطراف المجتمع (سواء من الزاوية المكانية أو الاجتماعية) ليصل إلي المهمشين الذين لا يعيشون فقط على حافة المجتمع ولكن على حافة المدينة بأكملها.مواطن/مهمش/بسيط يضعه حامد في زمن يمكن أن نطلق عليه (الزمن-الحلم) ف”يوسف المنسي”شديد الواقعية في الإطار العام لحياته الخارجية/العادية ألا أنه يحمل في داخله مخيلة فانتازية تمكنه من الحصول على أقصى الرغبات التي تتجلى لا معقوليتها بل استحالتها بالنسبة لمن هم أمثاله..أنه يستعين بالخيال على مواجهة الواقع- بل و تجاوزه- دون محاولة منه لتقنين هذا الخيال بل يتركه يجمح كما يشاء على اعتبار أنه أخر ما تبقى له من حقوق طبيعية /اجتماعية  (وسياسية) كإنسان بل ونرى صديقه “أحمد آدم” لا يختلف عنه كثيرا فلديهما نفس الدرجة من الكبت الجنسي ونفس الرغبة في محاولة تجاوز الواقع ففي مشهد سينما المهرجان التي تعرض أفلاما بدون رقابه نراهما يتحايلان للدخول بعد أن يتأكدا -في واحد من أهم تعليقات السينما المصرية- أن الفيلم مناظر ونلتقي في الداخل بشخص ثالث “علاء ولي الدين” الذي يحمل نفس القدر من الكبت بدرجة- مع سمنته المفرطة -توحي أنه على وشك الانفجار ثم يصطدم الجميع بفيلم آخر لا علاقة له بالمناظر وكأن حامد يحاول أن يقدم لنا مسبقا نهاية كل المساعي التي سوف تَهدر في سبيل اجتياز الواقع لأنه مهما بلغت شهوة الخيال فأنه يظل خارج نطاق المتحقق ولكن “يوسف” يختلف عن صديقه في أنه يمتلك القدرة على الحلم مستعينا بكل الموارد التي يكن أن تمده بها بيئته الفقير(بضع مجلات تحمل أغلفتها صور راقصات و فنانات من صديقه “أحمد أدم” الذي نلاحظ أنه يعمل في مهنة هامشية/بسيطة هو الأخر على الرغم من وجوده في قلب المدينة وهي مهنة بائع الجرائد) بل أن “يوسف” يرفض أن يتزوج من رئيسة زوج أخته العانس التي تكبره في السن مفضلا أن يعيش هذه الحياة/الحلم خارج دائرة الملموس.

و في خط متوازي مع الخط الحياتي لشخص مهمش مثل “يوسف المنسي” نجد الكاتب يقوم بعملية استعراض حياتيه سريعة للطرف الآخر من المجتمع أو بؤرته المتمثلة في شخصية “أسعد ياقوت” المليونير الذي يدين بالدين الجديد للدولة بل للعالم “الفلوس” أنه يعتبر نفسه واحدا من أتقي أتباع هذا الدين الجديد وعليه فأنه لا يتورع عن تقديم أية قرابين في سبيل الحصول على صك الدخول إلي الفردوس الأخضر (ده حيشتري مني مصنع وشركه خسرانين صفقة بعشرة مليون دولار)وكعادته لا يتخلى وحيد حامد عن لغته اللاذعة التي تكشف دوما عورات التفاصيل في مهارة- وحرفنة من أتقن التعرية دون التعرض للمسائلة – فهو يستعرض على لسان “أسعد” طبقات المجتمع الجديد الذي شكلته شرائع هذا الدين :رجال الأعمال والوزراء(اللي عاملين ذي عود الكبريت يولع مرة واحدة بس) وصحفيين وفنانين (كريمة المجتمع) و(شوية شواذ…دول بيبقوا فاكهةأي حفله) ونجد “يسرا”- السكرتيرة الحسناء- في حديثها مع “المنسي” مع لقائهم تؤكد له(الحفلة فيها كل الكبار..الكبار بفلوسهم..بنفوذهم..بمواهبهم..والمواهب أنواع)

أن”أسعد ياقوت”و”يوسف المنسي”هما القطبان الأساسيان في الفيلم وإذا كان الأول يمتلك المال فالثاني يمتلك الحلم بل أننا نلاحظ استخدام الكاتب لأسم يوسف وارتباطه بالأحلام- لكن يوسف النبي كان يفسرها أما يوسف المنسي أو المصري فلم تعد لديه القدرة سوى على الحلم فقط –  وهذه المداومة على الحلم هي التي تجعله مؤهلا لتلقي أسطورة الفتى(المعجباني) والفتاه الغنية الذين قتلوا في كشك السكة الحديد لأنهما كسرا شريعة الإله الجديد.

و استخدام وحيد حامد لتيمة الأسطورة يًأصل فكرة الزمن/الحلم الذي تدور داخله أحداث الفيلم..بل أن مهارة حامد تبرز في حفاظه على الدفة مستقيمة دون الجنوح في الفنتازيا أو الغرق في الواقع و هو ما يظهر في حلم “يوسف” بالراقصة دينا بعد قراءته لمقال في إحدى المجلات عن طموحاتها في دكتوراه الفلسفة وأعتقد أن الكاتب قد أختار هذا المقال بعينه للدلالة على عبثية الواقع الذي أصبحت الراقصات فيه أساتذة في الفلسفة !

ثم تتحقق الأسطورة/النبوءة التي يلقيها أحمد راتب في بداية الفيلم لنستعرض إمكانية تحقق الحلم بل ومدى مشروعية تحققه مع لقاء السكرتيرة الحسناء والمنسي..بعد أن يستعرض “المنسي” أمامها تاريخه الطويل مع الحلم يتعرف على قصة هروبها من إحدى معابد الإله الجديد..لقد رفضت أن تكون قربانا له في سبيل حصول “أسعد على صك/صفقة للفردوس لقد رفضت أن تًقدم لرمز الإله الجديد المتمثل في مستر حسان (الذي لا نراه يتحدث طوال الفيلم و كأنه صنم من أصنام الجاهلية الجديدة أو عجل السامري بل أن فيلا “أسعد نفسها تتحول إلي ما يشبه معابد “أفروديت” بكل الطقوس الكهنوتية الجنسية التي كانت تقام فيها)

ويصبح هذا القربان الهارب هو محك الاصطدام بين القطبين الرئيسيين وتتجلى بين “أسعد ” ويوسف” سيكولوجية الحوار بين الطبقات داخل المجتمع في زمن( معاك قرش تسوى قرش )الذي لا يجد قوة سياسية تردعه أو تقنن من سطوته..بل أن القوى السياسية ذاتها تؤازره وتقف إلي جانبه فنجد “أسعد” في حديثه عن “المنسي” يقول(عاجبك كده يا مدام تخلي واحد ما يسواش هاموشه يطردني من صندوق الزباله اللي قاعد فيه) فيرد “المنسي”(خلي بالك يا باشا أنت كده بتشتم الحكومه) فيرد أسعد في تجبر(طز فيك و في الحكومة) !!!!وتعلق سكرتيرته(نص الحكومة معزومين عنده) وعندما يتصدى “المنسي” لرجال “أسعد”تحاول السكرتيرة الجميلة أن تكافئه بالدخول إلي عالمه-عالم الحلم- بعد أن يرفض هو أن يمسها في الواقع (أبوسك في الحلم أه لكن في الحقيقة لا) لقد أصبح هذا “المنسي”عاجزا عن الحياة الواقعية و كأنه أوزوريس حداثي يبحث عن إيزه التي تلملم أشلائه من أرض الحلم بعد أن مزقته الطبقية التي صنعها ست/المال/الفساد السياسي.

و لكن الإله الجديد يملك من القوة ما يمكنه من تحطيم أي شئ في واحدة من أبلغ مشاهد الفيلم تعبيرية مشهد الرجل الضخم وهو يلقن “المنسي” الدرس الطبقي الأخير..مثال “أسعد” لم يكتفوا بتنحي “المنسي” وأمثاله في هامشية مطلقة بل راحوا أيضا يحكمون قواعد الحلم الذي يحاولون اجتياز واقعهم من خلاله ويتعرضون لهم بشتى ألوان التنكيل إذا ما حاولوا التمادي أو الخروج من دائرة ألا ملموس بينما يبدو المهمشون أخفت من أن يواجهوا مثل هذا الطوفان الكاسح نجدهم يتشبثون حتى في أقسى لحظات هزيمتهم-و خفوتهم- بحلمهم المغتصب في مشهد تعلق يوسف بقدم السكرتيرة/الحلم والكائن الوحشي يحملها بينما الدماء تغطي يديه وتصبغ ساقيها.

وحينئذ يقرر “المنسي” أن ينتقم لكرامته المسلوبة (بالاعتداء الجسدي) وحلمه المغتصب (باختطاف السكرتيرة)فيتأهب بأدوات قتالية -تحيله إلي نفس خط الموظف/الإرهابي في الإرهاب والكباب-وعبر باتجاه الضفة الأخرى (في مشهد عبوره بالقارب الترعة الصغيرة وكأنه عبور آخر ولكن داخل الوطن لاستعادة الكرامة والحلم)ويتسلل إلي فيلا/معبد “أسعد” لكي يستعيد “غاده” عن طريق احتجاز وتهديد رجل الأعمال/الصنم/الرمز.

ونلاحظ هنا أنه لم يقم باحتجاز “أسعد” أو زوجته مثلا..لقد قرر أن يضع يده- أو شريط الكبسولات المتفجرة- حول عنق العجل الذهبي للحفل بأكمله بينما يحاول “أسعد” في حديثه بصيغة الجمع- تعبيرا عن طبقته بأكملها- (أحنا كلنا هنا ناس كبار وقد كلمتنا) أن ينقذ رمز الإله الجديد من أيدي (الهاموش) وعندما تنفذ أعواد الكبريت-محلية الصنع-من “المنسي” يبدل “أسعد” لهجته الدبلوماسية-دون أن يتخلى عن صيغة الجمع- إلي أخرى تعبر عن مفردات الكواليس النفسية لدى طبقته تجاه (الهاموش/ الحشرات/الجرابيع) إلي أن تنتهي المواجهة بمعاونة “مصطفى متولي” -فوزي بيه-الذي يبرز في مشهدين فقط وكأنه -في حالة السُكر- الشيطان الذي طرد من رحمة الرب المالي الجديد..فنجده في هذيانه يصرح بتعاليم الحفل/الطقس (كلنا هنا حسب مزاج مستر حسان يشرب نشرب ياكل ناكل) ومن تفاصيل هذا الهذيان نتبين أنه كان واحدا من كهنة هذا الإله ولكنه طرد من جنته بعد أن صار بلا نفوذ أو سلطة سياسية  وهذا التمهيد الاعتراضي داخل الفيلم يؤهلنا للقرار الذي يتخذه في النهاية بمساعدة “المنسي” وكأنه أستعاد أدميته -من الناحية الإنسانية-وصار أكثر عبثية-من الناحية الواقعية -بعد خروجه من ملكوت الإله الجديد (كلكوا كنتوا ذي الدبان على بابا مكتبي…ولما خرجت مبقاش حد يسأل فيا..لكن أنا بعرف مواعيد الحفلات و باجي لوحدي)وفي النهاية بعد مطاردة قصيرة يقدم لنا حامد رأيه في مدى مشروعية الحلم وزمن تحققه فعند أول لقاء بين المنسي وغادة تطلب منه أن يوقف لها قطارا وفي نهاية لقائهما الأسطوري يتمكن من إيقاف إحدى القطارات لها وكأنه يحاول أن ينقذ حلمه الخاص بتهريبه بعيدا عن سطوة مطارديه ولا يكتفي وحيد حامد بذلك بل أنه يجعل الأمر الوحيد-والأخير-في النهاية الذي ينقذ “المنسي” هو بضع خطوات يترجع بها إلي الوراء لينضم إلي أمثاله من الفلاحين -والبسطاء- الذين يجتازون شريط السكة الحديد كل صباح -دون أن يشعر بهم أحد- وكأنه لا يقصر المنسي على الرمز ولكنه يقدم لنا ما يشبه الإرشاد أو التوعية-وكأنها منشور سري- بأن التكتل بين هؤلاء المهمشين وأمثالهم من البسطاء من الممكن أن يخلق جبهة ما ضد هذا التيار الطبقي الكاسح التي نراه ممثلا في كرافت” أسعد ياقوت”-رمز الكبرياء الطبقي- وقد التوت معوجة على كتفه وقد استطاع حامد أن يبرز مدى تمرسه في تقنيات كتابة السيناريو فنجد أنه على الرغم من أن أحداث الفيلم تدور في ليلة واحدة من السادسة مساءا حتى السادسة صباحا ألا أنه استطاع حشد كل ما أراده أن يقدمه من أحداث كذلك كان موفقا في أغلب الأحيان في استخدام لغة تعبيرية لا تخدم فقط أفكاره بل وتؤصلها داخل النص مثل مشهد الراقصة دينا وهي تسير فوق قضبان السكة الحديد فعلى الرغم من إيروتيكية مشهد المرأة وهي تتمايل-شبه عارية- فوق القضبان مختالة مهتزة ألا أنه يطرح أيضا بُعدا أخر داخل النص وهو قطار الحلم الذي يتوقف عند كشك عامل التحويلة الذي نراه يعلن للسكرتيرة (وأنا صغير فاتني قطر اللعب ذي العيال ولحقت قطر التعليم من السبنسه حتى شقاوة الشبان قطرها يعدي عليا من غير مايهدي ودلوقت قطارات كتير بتعدي عليا ولا بتعبرني) وكذلك ذلك التوازي بين وظيفة عامل التحويلة والسكرتيرة(أنا من الأتباع يا منسي والدي كان موظف كبير ) فيرد المنسي(الموظف الصغير ذي الموظف الكبير الأتنين غلابة).

ألا أن نقطة الالتباس الاكيدة في هذا العمل هو تقديم “غادة” لنفسها إلي”المنسي” كمكافأة على إنقاذها (ممكن تبوسني) فأي امرأة تلك التي تهرب من محاولة استغلالها جسديا لتلقي بنفسها في أحضان رجل غريب لم يمر على معرفتهما سوى كوب من الشاي و”لقمة مسقعه” وإن كان الحدث محتملا بل ومعقولا إذا ما نظرنا إليه -بأكمله- من خلف عدسة الزمن/الحلم -أو خيالهما المتعانق من خلف زجاج النافذة – ولكن يبقى الأمر ملتبسا على العديد من المتلقيين العزل من الرؤيا الفنتازية.

كذلك كان من الممكن الحفاظ على الصمت التام “لمستر حسان” للتأكيد على فكرة الصنم/الرمز بدلا من الكلمات القليلة التي نطقها دون أي جدوى درامية في نهاية المطاردة(أمسكه ..أوعى تسيبه).

يعد الثنائي وحيد حامد/شريف عرفه واحدا من أنجح الثنائيات السينمائيه في فترة التسعينيات نظرا لما يتمتع به كل منهما من رؤيا واسعة وواضحة لما يريده الآخر..بل أنني أعتقد أن هذا الفيلم بما يحمله من رؤيا فلسفية لم يكن ليجد مخرجا أبرع من شريف عرفه لتناولها بهذا الشكل المميز وبتلك القدرات الأخراجيه عالية التكنيك والجودة-والخصوصية- فنلاحظ أنه إستطاع أن يدير بمهارة توزيع الضوء وأستغلال الديكور الطبيعي لموقع الفيلم بما يوحي وكأنه خارج الزمن أو داخل منطقه أسطوريه سوف تتفاعل مع الاحداث وتؤثر فيها بشكل ملموس..مثل مشاهد طريق “المنسي”إلي العمل وقد عمد إلي أستخدام اللقطات المتوسطة والكاملة والعامه دون اللجوء إلي اللقطات الكبيرة التي كان من الممكن أن تقوم برصد ردود الافعال في هذا الجو الأسطوري وإن كان قد أستعاض عنها (بالزووم أن) على شخصياته في اللحظات الانفعالية ووفق في إستخدام طبيعة كشك السكه الحديد المرتفعة بما يمكنه من توظيف الكرينات المختلفة -التي تشكل واحدة من خصوصيات حركة الكاميرا في أسلوبه- وكذلك اللقطات المأخوذة من خارج وداخل نافذة الكشك  وكأنها-النافذة-منطقة برزخية بين عالم”المنسي” والواقع أو بين الواقع الذي يعيشه والحلم(أنا أي واحده تعجبني أتجوزها ابص من الشباك اللي قدمكِ ده و أسرح في الضلمه).

ولم تأتي موسيقى مودي الأمام معبرة عن الرؤيا الفلسفية و الأنسانية في الفيلم بل لم يخدمه أسلوبه في التوزيع الموسيقي -بأستثناء الكورال الخلفي- فجاءت الموسيقى منفصلة عن الأحداث في أكثر اللحظات تفاعلا وليس أنفعالا -فيما عدا مشهد المطاردة الأخيرة- ألا أنه نجح في التعبير عن الكثير من التفاصيل الصغيرة مثل حركات الوجه المشهورة لعادل أمام و هو الأمر الوحيد الذي مكنه من الأستمرار للنهاية.

وجاء الأداء “مطاوعا” بدرجة كبيرة بالنسبة لكرم مطاوع وخاصة تلك اللعثمة التي أشتهر بها  وذلك المط اللذيذ لأواخر الكلمات كما قدم مصطفى متولي على الرغم من قصر المساحة الحضوريه له دوره بشكل ناضج خاصة في لحظات هذيانه وهو في حالة السُكر التي تصبح فخا محكما لكثير من المؤديين غير الأصلاء الذين يقعون -من خلالها – في شرك الأبتذال.

ولم تؤد يسرا واحدا من أحسن أدوارها فلا أعتقد أنها أضافت شيئا عما كان كائنا بالفعل داخل النص ويبدو ان طغيان فكرة كونها تؤدي سكرتيرة حسناء جاء على حساب ملامح الشخصية الداخلية التي يعتمد فيها الممثل على فهمه للدور وبالتالي تشخيصه .

أما عادل أمام فقد حافظ على أسلوبيته التعبيرية وأن كان كثير من صدئ النمطية قد تكوم في أركانها خاصة تشكيل ملامحه وتلك الأبتسامة التي تجمع ما بين الاحراج والاستهبال و بالطبع حركة حاجبه الشهيرة .

و لكن في النهاية يبقى المنسي رؤية فلسفية انسانية سياسية لوقع معاش وحلم يحاول الهرب من سطوة محكمة لأنظمة فاسدة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقال لم ينشر من قبل من الأرشيف الخاص للكاتب جاء نتاج ورشة دراسات نقدية عقدت في جمعية كتاب و نقاد السينما عام 2001 و كان يشرف عليها كل من الدكتور نبيل راغب وقت أن كان عميدا لمعهد النقد الفني و د. رفيق الصبان و فتحي العشري الذي كان رئيس صفحة السينما بالأهرام آنذاك و الناقد طارق الشناوي  

* ناقد سينمائي مصري

مقالات من نفس القسم