المكان من المتاهة إلى الفردوس!

المكان من المتاهة إلى الفردوس!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

المكان في العمل الروائي ليس مجرد خلفية تتحرك عليها الشخصيات، إنما عنصر أساسي من عناصر العمل يؤثر فيه ويطبعه بطابعه، فرواية تدور أحداثها في الكاريبي تختلف عن أخرى تدور في سيبيريا أو أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ما أقصده هنا ليس خصوصية المكان بالمعنى المباشر الساذج، لأنني كنت وما أزال منحازة للأدب الكوزموبوليتاني العابر للهويات الضيقة، بل أقصد معرفة الكاتب بالمكان الذي يكتب عنه ورسمه لخارطته في ذهنه أثناء الكتابة حتى لو كان مكاناً مخترعاً لا وجود له في الواقع. معرفة تصل حد أن يصير المكان بطلاً من أبطال الرواية، وشخصية إضافية تتفاعل مع شخصيات العمل وتؤثر عليها وفيها.

أتذكر أن ماركيز ذكر في “رائحة الجوافة”، أنه أعاد كتابة رواية من رواياته أكثر من مرة، بسبب شعوره بالإخفاق في استحضار أجواء الكاريبي فيها، كانت تفتقد روائح المكان وسماته المميزة، ما كان يبحث عنه إن لم تخنّي الذاكرة، هو رائحة أوراق الجوافة المتعطنة بفعل المطر بعد سقوطها على الأرض في الغابات شبه الإستوائية.

وثمة رواية تحضرني وأعتبرها مثالاً رائعاً على كتابة المكان بأرضه وناسه وحيواناته ونباتاته وكل ما يخصه، وهي رواية “محب” للروائي والكاتب المصري الراحل عبد الفتاح الجمل، وفيها يرسم بورتريهاً ثرياً بالغ الحيوية لقريته “محب”، بل ينظم قصيدة مهداة لها وعنها كأنما يشيدها من جديد بالذاكرة والخيال.

وهناك روايات أخرى عديدة لا يمكن تذكرها بمعزل عن المكان الذي وقعت فيه أحداثها منها على سبيل المثال لا الحصر: “فساد الأمكنة” لصبري موسى، “صخب البحيرة” لمحمد البساطي، “رباعية الإسكندرية” رائعة لورانس داريل وغيرها الكثير.

وثمة روايات قد لا يكون المكان شغلها الشاغل، لكنها تنجح في حفره في ذاكرتك، كأنه جزء أصيل لا ينفصل عن الشخصية الروائية، فحين زرت لندن للمرة الأولى صاحبني طيف كلاريسا دالواي بطلة فرجينيا وولف في روايتها “مسز دالواي”.. بينما أسير في شوارع المدينة العريقة، كنت كأنما أتابع كلاريسا في رحلتها لشراء الزهور: شارع فيكتوريا، شارع أرلنجتون وبيكاديللي، متنزه سان جيمس وقبل أي شيء شارع بوند.

خُيِّل إلي أنني لو ذهبت إلى شارع بوند، سوف أجد محل الزهور نفسه والأنسة بيم تقف بين باقات من الليلك والقرنفل والورود والسوسن وعشب العايق بزهوره الزرق، وزهر البازلة الملونة.

***

شخصياً أنظر للأماكن لا بوصفها حيزاً جامداً أو هامشياً، بل بوصفها العنصر الأهم في ما أكتب، هناك شخصيات رسمتها بالكامل انطلاقاً من علاقتها بالمكان الذي تعيش فيه مثل شخصية يحيى في “متاهة مريم”: ” بيت يحيى لم يكن متسعاً.. كانت مساحته محكمة، ولا شئ فيه متروكاً للخيال.. لم يكن به فراغات كثيرة.. حرص يحيى على ملء كل المساحة بالأثاث، كأن هذه القطع من الأثاث بمثابة الأوتاد التي سوف تثبت المكان، وتمنعه من التطاير والتبدد في الهواء.. الحوائط بدورها كانت مغمورة باللوحات والصور.”

ويمكنني المجازفة بقول إن البطل الأساسي في روايتي الأولى “متاهة مريم”، ليس مريم بل سرايا التاجي ومعها شوارع وسط البلد المتشابهة وشبه المعتمة، ومدينة القاهرة التي صورتها الرواية كمدينة من الورق المقوى “مجرد مبانٍ من الكرتون في انتظار بعض الهواء المشاكس كي يزيحها من الوجود كاشفاً عن الخراب الذي استولى على جوهرها“.

في البداية، حين كنت أكتب عن القاهرة، كانت دائماً ما تأتيني، كمدينة شبحية مغلفة بظلمة خفيفة.. تتشابه شوارعها وتتحول إلى متاهات حقيقية يصعب الفرار منها.

لم أتوقف وقتها للتساؤل: لماذا تظهر القاهرة في كتاباتي على هذه الصورة؟ هل مشاعري الحقيقية نحوها ظلت متوقفة لسنوات، عند اللحظة الأولى التي خطوت فيها وحيدة في شوارعها؟ وقتها أحسست أن مبانيها عملاقة وطرقاتها لا تفضي إلى شيء.. مجرد شوارع متقاطعة ومتداخلة دون أن توصل العابر بها لأي هدف.. تجبره فقط على الخضوع لسطوة التيه.

اختلف الأمر الآن، بعد عشرين عاماً من العيش في القاهرة، ورغم هذا فعندما أمنح شخصية ما اسماً وصفات، وأتركها لتتحرك في هذه المدينة المثقلة بتاريخها، أجد نفسي كأنما أغدر بالشخصية التي ابتكرتها بدفعها إلى متاهة مربكة، ثم أحاول التكفير عن فعلتي بإجهاد نفسي في معاونتها على فك شيفرة هذه المتاهة.

***

من ناحية أخرى، يلعب المكان دوراً مهماً في تخليق غرائبيته الخاصة، فالغرائبية التي يقترحها مكان مديني تختلف عن تلك التي يوحي بها مكان ريفي زاخر بتراث خرافي وأسطوري حافل، ويتعايش في حكاياته البشر مع العفاريت والأشباح، وينظر للمعتقدات الغيبية العصية على التصديق كتفاصيل حياة يومية.

اختبرت هذا، بينما أكتب روايتي الثانية “وراء الفردوس”. فقبلها نبعت الغرائبية في معظم قصص “ضوء مهتز” وفي “متاهة مريم” إما من اللعب على الهلاوس والهواجس النفسية والإيحاء بالجنون، أو من الأحلام الممزوجة بالواقع والتحرك في المسافات البينية بين العالم الواقعي و”واقع” كابوسي مضفور به.

أما في “وراء الفردوس”، فكان العمل يأخذني نحو الميتافيزيقي والغيبي والأسطوري بدرجة أكبر، توقفت عن الكتابة أكثر من مرة، إذ لطالما تحفظت على هذه الأجواء وابتعدت عنها في نصوصي السابقة، مع الوقت وباستمرار الكتابة، انتبهت إلى أن المكان الريفي المعزول على ضفاف النيل يفرض عليّ منطقه ويُخلِّق غرئبيته الخاصة به، خاصة أن الشخصيات في معظمها، مسكونة بهذا الوعي الميتافيزيقي، على عكس شخصيات “متاهة مريم” ذات الوعي المديني.

في “وراء الفردوس” طمحت إلى إعادة خلق المكان الريفي بخصوصيته النباتية والحيوانية، بأصواته وروائحه ولغته وصوره. رغبت في رسم تفاصيل جمال الطبيعة المنطوي على الرعب بداخله، والشر المضمر داخل أكثر الأشياء جمالاً، لكن قبل هذا أردت ألّا يكون المكان ناتئاً عن شخصيات العمل وأحداثه، بل متناسقاً ومنسجماً معها.

***

أفكر أحياناً في مفارقة أن كتابتي تقوم – في معظمها – على الشك وانعدام اليقين، وأبطالي أغلبهم مشوشون، ممسوسون، بل ربما على حافة الجنون، ومع هذا يحتفظ المكان بقدر كبير من التماسك ووضوح السمات حتى لو كان عبارة عن متاهة، أو مدينة ضبابية مغلفة بظلمة خفيفة.

ولأن للكتابة لا وعي خاص، يُظهِر أحياناً، ما لم يتعمده الكاتب تشير عناوين رواياتي الثلاث إلى أماكن: “متاهة مريم”، “وراء الفردوس”، و”جبل الزمرد”، وبين المتاهة والفردوس والجبل ثمة ظلال وأطياف كثيرة.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم