المقام الصوفي واشتغال المتخيل الشعري في ديوان “مقام الخمسة عشرة سجدة” لأسماء غريب

المقام الصوفي واشتغال المتخيل الشعري في ديوان "مقام الخمسة عشرة سجدة" لأسماء غريب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تعد تجربة أسماء غريب –الشاعرة والمترجمة المغربية المقيمة بإيطاليا- تجربة متميزة، ونمط فريد في الشعرية المهجرية المغربية؛ فعلى غير النمط الذي سار فيه عدد من الشعراء المغاربة المقيمين بالمهاجر الأوروبية (عبد الإله الصالحي، بنيونس ماجن، محمد أهروبا، عبد اللطيف الإدريسي...)، اتخذت الشاعرة من الأفق الصوفي مجالا لتشكيل متخيلها الشعري في ديوانها "مقام الخمسة عشرة سجدة"، كما انطلقت منه في دواوين سابقة قصد بناء رؤيتها إلى الذات والآخر والوجود والحياة. وهذا الاشتغال ارتبط، أيضا، بالكتابة النقدية للشاعرة، وخاصة في قراءتها لتجربة الشاعر العراقي أديب كمال الدين، في كتابها الممتع: " تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين" الصادر عن منشورات ضفاف ببيروت سنة 2013. ويتكون ديوان "مقام الخمسة عشرة سجدة" من أربعين قصيدة حملت جميعها لفظة "مقام" مقترنة بكلمة أو كلمات أخرى، وقد اتخذ الديوان اسم قصيدة تحمل هذا الاسم. فما تجليات اشتغال المقام الصوفي في الديوان؟ وكيف يُسهم في تشكيل متخيل القصيدة؟

إن قارئ قصائد الديوان يجد مفهوم المقام الصوفي لا ينحصر في الأفق الاصطلاحي للكلمة في دلالاته الروحية وارتباطه بمعارج القربى والاتصال بالذات الإلهية، وهي مقامات التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والمجاهدة والتوكل والرضا والمحبة.. وغيرها من المقامات التي تحدث عنها الصوفية، ولم يتفقوا على حصرها. إن المقام، هنا، يتصل بالمادي والوجود الملموس، كما يرتبط بالروحي وبالوجود المجرد أو المعنوي. وهو لا يدل على أي معنى مرتبط بالتسامي ضرورة، ومن ثم، فإنه يعود إلى اليومي والمبتذل للانطلاق منه في بناء رؤية الشاعرة إلى ما يجري حولها، وإلى فهمها الخاص لمعنى المقام. وبهذه الكيفية نجد كلمة مقام تقترن في عناوين النصوص بالأشياء والطبيعة والإنسان والحياة والنفس والروح والزمن.. وكل العوالم الكائنة والممكنة التي يقتضيها سياق اشتغال متخيل النص الشعري، ولكن في أفق صوفي. وبهذه الكيفية تتمكن القصيدة من الجمع بين معطيات معنوية وأخرى مادية في فهم المقام وتشغيله شعريا. تقول الشاعرة في نص “مقام الطفولة“:

            “بالأمس حينما تسربل الليل برداء الخزامى

            ألقى الملك فوق سريري بسبعة أساور من نور

            ثم قال وهو يرفع ستار الفجر بغرفتي:

            “لا تعودي إلي يا صغيرتي إلا وأنت طفلة

            قلت:”كيف السبيل وقد اشتعل رأسي شيبا

            يا سيدي؟

            قال:”ابني لي ببيتِك مقاما وأسميه مقام

            الطفولة“.

            قلت:”وهل هناك في الدنيا مقام يليق بهيبتك

            وجلالك يا سيدي؟

            قال:”نعم قلبك وقلب كل محب يا صغيرتي

            أضرمي النار فيه واحرقي

            كل ما علق بداخله من عناكب الشيخوخة

            عندها فقط ستعود إليك طفولتك

            وأعود أتربع ملكا وحبيبا فوق قلبك”.”(ص.46)

بهذه الشاكلة تنزاح الشاعرة بمفهوم المقام الصوفي عن دلالته المتداولة ليتخذ أبعادا جديدة حسب متخيل النص الشعري وأفق اشتغاله. وهكذا نجد للطفولة مقاما جديدا له طقوسه الخاصة وممارساته التي تقترحها الذات المتعالية -المخاطَبة في النص- على الشاعرة. إنها طقوس تطهر وتطهير وسيلتها الاحتراق بالمحبة والأشواق قصد التجدد واسترجاع الغضاضة الأولى، والأوبة إلى الطفولة المشرقة الريانة. أليس الملك ألقى على الشاعرة سبع أساور من نور، وعند انبلاج الفجر وشروقه؟ أليست النار نور آخر يطارد برودة وظلمة الشيخوخة؟

إن اشتغال هذا النص في أفقه الصوفي يستدعي، إلى جانب النص القرآني من خلال عبارات عديدة واستعارات كثيرة، نصوصا من الخطاب الصوفي الإسلامي: النفري في مواقفه ومخاطباته، وإلماحات أسطورية ثاوية في تضاعيف النص: أسطورة طائر الفينيق الذي ينبعث ويتجدد. غير أن اشتغال كل هذه العناصر تتخذ إهابا مختلفا عن المتداول في الشعرية العربية نظرا إلى ارتباطها، أساسا، بتجربة روحية خالصة وأفق صوفي بين

ونشهد الميل إلى هذا النوع من الأسطورية والخرافة، أيضا، في عدد من نصوص الديوان، كما نجد في “مقام الغوث والثور والتنين”، إذ تستدعي الشاعرة إشارات عدة من الموروث الثقافي الخرافي وتستثمره في سياق رمزي جديد، تقول:

أدخلني مقام الغوث وقال:

السلام عليك أيها الشاعر البنفسجي الحزين

ما لي أرى قزحة عينك تزداد كل يوم اتساعا

وحال أيامك تزداد كل ساعة ضيقا

أنا يا صديقي نسرُك الناري

أتيتك من سماء الزخ الأزرق

وأحمل إليك بمنقاري طوق الغوث الأخضر

فلتأخذه مني ولتعلم أن رأس الحكمة:

ترك حجاب الستر مسدولا أمام عينيك

حتى تتسع حالك وتضيق قزحة بصرك

فترى ما يجب أن تراه وتبتعد عما لا تراه.

واعلم أن المقام الأشد وطأة عليك

مقام الثور الأسود

وأن السيد الأشد عداوة لك

الرجل ذو الكعب العالي

صاحب الرداء والحزام الأسود

لسانه ليس كلسانك

ودمه مختلط بدم وريد أجدادك

النازفين فوق أرض مجمع البحرين.

واعلم أن المقام الأشد عونا لك

مقام التنين الأصفر

وأن الرجل الأشد محبة لك

صاحب الرداء الأحمر

والحزام الذهبي

والنعل الخفيفة ذات اللون الفضي

لسانه ليس كلسانك

وغدا سيترجل عن فيله ويمتطي ناقتك

فلا تعطيه سيفك ولكن إن أهديته كتابك وحرفك

فسيعطيك تنينه وأعاصيره الشرقية العاتية

وسيزرع بصحاريك دوامات من الرمال

تأتي على الثور الأهوج

ومروضه الراقص الأسود”.(ص. 75- 77)

يشتغل هذا النص من أفق رمزي يتكئ على عناصر خرافية وأسطورية، وهكذا يشكل متخيله استنادا إلى جعل المقام الصوفي مقام عبور نحو الانفتاح على الكوني، وذلك عن طريق مزج عناصر ثقافية متنوعة، متشعبة إلى حد الإحساس بالغرابة والتضاد بين المنطلق والمنتهى في القصيدة. وبهذه الكيفية نجد النص يستثمر جوانب من صميم التصوف، وأخرى من تراث المحكي الأسطوري الفارسي والصيني، إضافة إلى الإحالة على عوالم الفلك والتنجيم. وكل هذه العناصر منحت مفهوم المقام نكهة شعرية جديدة وشغلته في أفق شديد الترميز. ويبقى مدار هذا النص يركز على مقام الغوث، أو الخلاص الروحي. ونجد تركيبة النص تنبني على المفارقة التي تنسج خيوطها بين عناصر جذب وإرخاء نحو قطبي الخير والشر، أو قطبي الصلاح والطلاح. وبهذه الرمزية الشفافة، وعن طريق تداخل هذه الإشارات الثقافية المتنوعة، يتمكن النص من خلق متخيله الشعري الفريد، كما يتمكن من جعل مفهوم المقام أكثر رحابة وأشد اتصالا بالحياة في دلالاتها الواسعة التي تشمل الواقعي والوهمي، وعالمي الشهود والبرزخ، وإمكانات الجسد والروح.

والمتأمل في النص الذي نقاربه وفي النص السابق، أيضا، سيلاحظ أن توظيف الحوار يعد وسيلة من وسائل بناء النص الشعري وتشكيل المتخيل. وهي سمة نجدها في أغلب النصوص الشعرية التي يحتويها الديوان. وتذكرنا هذه اللمحة الفنية بمواقف النفري ومخاطباته، وبنصوص صوفية أخرى استثمرت هذا البعد الجمالي لبناء عوالمها الصوفية. تقول الشاعرة في نص “مقام الكيف حدث هذا؟“:

قالت له:

أفتيل أنت أم شعلة؟

أشمعة أم شمعدان؟

أدف أم إيقاع؟

أراقص أم رقصة؟

قال لها:

أنا كل هذا وأكثر، وأنتِ من تكونين؟

أغيمة أم ماء؟

أشمس أم ضياء؟

أقمر أم نور؟

قالت له:

أنا نفْس عاشقة وبقلبي غرستَ نبالك

فكيف حدث هذا

يا سيد الصبابة والألم

يا صاحب الحزن والأمل؟

قال لها:

يا نفس لا تسألي كيف وقع العشق

يكفيك أنه وقع

ولا تسألي أين الطريق

يكفيك أنك على دروبها

ولا تسألي أين النجوم

يكفيك أنه بين يديك سلال من غبارها.

فلا تكثرتي لشيء وأنا معك“.

قالت له:

أنتَ أنيسي ورفيق وحدتي

وبدونك لن تشدو أغنيتي

ولن يزهر ربيعي

بل لن ينبُض قلبي

أنت نصيري وولي نعمتي

وبدونك لن ترن أساوري

ولن يسيل قلمي وريشتي

بل لن تنطق حروفي“.

قال لها:

أنا هنا فاسألي تُجابي

أصحة تريدين؟

هي لك مسربلة بالسقم

كي أنزع عن عقلك الغفلة

وأتوجك بالحكمة

أمالا تريدين؟

هو لك مدثرا بالفاقة

كي أنزع عن قلبك القسوة

وأتوجك بالرحمة

أخلودا تريدين؟

لن يكون لك فعليك أن تذوقي الموت

لأني أنا وحدي الحي القيوم

لا حي ولا قيوم قبلي وبعدي”.”(ص.ص. 80-83)

يعد الحوار، في هذا النص، وسيلة جوهرية لصياغة متخيل القصيدة وتوظيف المقام منطلقا لتشكيل الدلالة وبناء الرؤية الشعرية. ومن خلال الحوار يتجلى النزوع الصوفي الواضح في النص بحيث يجلي مقام القربى والسعي إلى الأعتاب العليا في إصغاء وعشق وذوبان. يجد القارئ نفسه، وهو يتملى هذا النص الفاتن، أمام لغة صوفية إشارية سامية تجد لها نسبا في الخطاب الصوفي الإسلامي شعرا ونثرا، بما حفل به النص من صور مشرقة، وحوار هامس متأدب خاضع لما يلقيه المعشوق (الذات الإلهية) في روع العاشق الصوفي (الشاعرة) من ظلال معان وإشارات زاكية زكية. إنه نص يلامس حقيقة النفس الإنسانية ومدى الأهواء التي تلابسها، والحدود التي ينبغي أن تقف عندها. وعبر السؤال والجواب، ومن خلال توظيف المقام الصوفي في معان متسعة، يتشكل النص وينبني متخيله الشعري الراقي في أبعاده ومراميه.

وإذا كان النص الذي اشتغلنا به قد استعمل تقنية السؤال والجواب أداة لتشكيل قسمات الحوار وتحديد معالم المقام وبناء عوالم النص الصوفية، فإن النص الذي حمل الديوان اسمه “مقام الخمسة عشرة سجدة” تطغى عليه نبرة الجدل والحجاج، والاقتراب بلغة الشعر من لغة النثر المباشرة؛ ولكن على الرغم من ذلك تمكنت الشاعرة من توظيف المقام في سياق جديد، وتشكيل متخيل النص بما يخدم رؤيتها الشعرية، إذ يطرح النص فهما شعريا/فكريا للعلاقة بالذات الإلهية، قد نجد لها نسبا في الخطاب الصوفي غير أن الشاعرة تمنحه أفقا جديدا في متخيلها الشعري، إذ تنبري إلى تصوير فهمها إلى علاقة الإنسان بالخالق في سياق يقطع مع بعض أوجه الخطاب الصوفي ذاته، وخاصة مع تصور الحلاج. تقول أسماء غريب:

قال: “لاشأن لك بالحلاج وأهله

قلت: لمَ؟

قال:”قيل عنه قتل لأنه باح بالسر.”

قلت:أوَ هناك سبب غير هذا؟

قال:”مات كما هو أراد لنفسه.”

قلت:”أو يمكن للمرء أن يختار على أية حال يموت؟

قال:”كل نفس ذائقة الموت

وكل امرئ يموت على ما عاش عليه

ويُبعث على ما مات عليه

وأنا لست من أهوى ومن أهوى أنا

لا أحل في أحد ولا يحل فيَّ أحد

يحترق الإنسان إن أنا فعلت ذلك

أنا من لا ألد ولا أولد

من لا كفؤ له ومن لا شيء مثله

ولست بسر ولا بسر سر

وليس لي خاصة ولا خاصة خاصة

لي أولياء ولي أصفياء

لي عشاق ومحبون وأصدقاء

ولي مجانين وفقراء لا يستطعمون ثراء

إلا بذكر اسمي وفي القرب مني

فلا تقوِّلوني ما لم أقله في كتاب ظاهر أو باطن.

كلكم شأني وكلكم سري وكلكم خاصتي

وأنا بينكم وفوقكم وتحتكم ومحيط بكم

فلا تفرقوا بين عبادي ولا تستعلوا عليهم

واقتربوا مني اليوم جميعكم

وادخلوا مقام محبتي لكم

مقام الخمسة عشرة سجدة”.”(ص.58-60)

هكذا تنسف الشاعرة فهم الحلول ومعاني الاتحاد، كما ترفض تصور صفوة الصفوة وادعاء تمكن بعض المتصوفة من معرفة سر لا وجود له –في نظر الشاعرة-، عن طريق حوار بين المبدعة والذات العلية التي ترجع الأمور إلى نصابها وتجعل مقام القربى وسر الخصوصية في مقام الخمسة عشرة سجدة. في مقام الصلاة والزلفى إلى الله بما أوجبه على الناس جميعا. ولعل هذا المقام الذي تبتدعه الشاعرة يجد له نسبا في أحاديث الرسول محمد (ص)، وفي معاني القرآن ودلالاته. وبهذه الشاكلة نجد هذا النص الحواري ينطوي على طاقة جدلية حجاجية إذ إنه يحاور فهما ساد لدى عدد من المتصوفة في الإسلام، أو ربما هو فهم نتج عن تأويل لخطاب هؤلاء المتصوفة.

 وبهذه الشاكلة تشتغل الشاعرة أسماء غريب بانية مقاماتها الشعرية الصوفية في أفق جديد. من خلال توظيف صور شعرية صوفية المنزع حتى فيما يتعلق بالارتباط باليومي وتجلياته، مع الميل إلى السرد وأسطرة اللحظة أو المقام كما رأينا سابقا، ومع استعمال الحوار وطاقاته المتنوعة وسيلة لتشكيل النص الشعري وصياغة المقام في إطار فني جديد. وتميل أغلب نصوص الديوان إلى الاسترسال والإطالة نظرا إلى طابعها الحواري، ونادرا ما تميل نصوص الشاعرة إلى التكثيف والإيجاز. وهذا ما لمسناه في الكتاب، وما قلنا غير ما علمنا. اللهم فاشهد.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم