المسحراتي.. عبثية الواقع الافتراضي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

"المسحراتي".. هذا الشخص الغامض ذو الصوت القوي الرخيم، الذي يسبقه ضجيج طبلته الضخمة ليعلن الاستعداد ليوم صوم جديد. كان سر غموضه وسحره عجز هذا الطفل المتعب من كثرة اللعب طوال اليوم عن مواصلة الاستيقاظ حتى الثانية صباحا في ليالي رمضان لمشاهدته وهو يمر من تحت نافذته. كان تصل أدعيته الرخيمة إلى فراشه وهو مزيج مرهق ما بين النوم واليقظة. في مرات قليلة حاول الخروج إلى الشرفة لرؤيته، لكنه كان دوما يصل متأخرا.. ويرى الشبح العجوز وهو يشق هالات الظلام وحيدا.

كان عم “خيري” درويشا حقيقيا، محبا أصيلا. وكان مع قدوم رمضان، يستعد بالطبلة ويجلس على مقهى “إبراهيم” في الشارع العمومي المزدحم، يحتسي الشاي ويدخن “الشيشة” بهدوء. ولما يحين الموعد يتحرك في الشوارع المحيطة. لا يزال الطفل يتذكر صوته الجهوري وهو يبدد صمت الليل في الشوارع النائمة”الله الواحد الأحد.. الله الفرد الصمد. السحور يا عبّاد الله”. ويدق على الطبلة عدة دقات قوية.. ثم يسير قليلا، ويعيد الكرة. وفي أول أيام العيد يمشي الناس إلى بيته بهدايا الكعك “البيتي” اللذيذ، وأطباق من “الترمس”. علاقة غامضة فيما بين الكعك والترمس!! ولماذا الكعك والترمس تحديدا؟ 

كانت القناة الأولى في التليفزيون، وقتذاك، تختم برامجها البسيطة بمسحراتي عمنا العظيم فؤاد حداد وصوت الشيخ سيد مكاوي رحمهما الله، كانت شاعرية كلمات “حداد” تأخذ بألبابه وهو يسمع صوت الشيخ العذب في المقطع المكرر كل ليلة: ” المشي طاب لي والدق على طبلي.. ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال.. الرِجل تدب مطرح ما تحب.. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال.. حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال.. وكل شبر وحتة من بلدي.. حتة من كبدي.. حتة من موال”.

كان يبدو مسحراتي “حداد” كالناصح الأمين، الذي يشحذ همم الناس للعمل والنهضة، لم يكن الأمر يتعلق فقط بإيقاظهم للسحور، بل للبعث من جديد في مجتمع الثورة الناشئ، الذي كان يواجه تحديات عظام. كان “حداد” بشاعريته المذهلة، وروحه السمحة، وتمكنه الرائع من ناصية العامية، يخاطب أهل الحرف والفلاحين والعمال والطلاب كل ليلة، يستحثهم على مساندة حلم الثورة ومجابهة الاستعمار والصهيونية البغيضة. طلة “مكاوي” هو الأخر، وهو يسير مستندا على طفلة صغيرة جميلة في حارة مصرية تضج بالحياة في صخب ليل رمضان الاستثنائي، كانت تزيد المشهد جمالا طوته السنين سريعا.

رومانتيكية هذه اللحظة البهية، وروعة هذا الحدث، الذي كان الناس ينتظرونه كل سنة، جنبا إلى جنب مع أغنية الراحل محمد عبد المطلب “أهلا رمضان”، تعرضت للاغتيال بمرور الوقت. بموت عم “خيري” هدأت الشوارعفي الليل ساكنة – رغما عنها- عدة “رمضانات”، لم يكن يقطع صمتها سوى صوت “أبو يونس” مؤذنا للفجر. وعندما نسي الشارع “المسحراتي” في غمرة انهماكهبمتابعة “دراما رمضان” وانفصال الناس عن دوائرهم، حتى الذاتية منها- في زمن  “الريسيفر” وعصر السماوات المفتوحات، ظهر فجأة “عيسوي”!!

وفيما كان يستعد لأول ليالي رمضان فاردا جسده الثقيل على السرير، يفكر كيف يواجه مشقة الصيام في عز الصيف، تناهي الى سمعه طبلة وصوت يأتي من بعيد؟ عاد “المسحراتي” أذن، لكن للوهلة الأولى لم يكن العم “خيري” ويبدو أنه لن يكون، كان صوت الوافد الجديد واهنا وخاليا من خشوع اللحظة، وعبقرية الحدث، “مسحراتي رمضان”، يضرب على طبلته ضربات سريعة قبل أن يقول “يا شهر 30 يوم كلك هنّا وسرور”. ومع اقتراب “عيسوي” انفتحت كل شرفات الحي فجأة عن أعداد غفيرة من الأطفال المزعجين، في الثانية صباحا!! وبدا فاصلا من الصياح المتبادل بين “المسحراتي” والأطفال، بين الشارع والشرفات، يقذفون إليه جنيها أو أكثر مقابل أن يردد هو أسماؤهم مصحوبا بالطبلة والرنة التقليدية. ينحني “المسحراتي” ليلتقط الجنيهات وبعدها ينادي:” السحور يا نرمين”ّ!! “يا شادي وحّد الله”. وترمي إليه طفلة عابثة جنيها، وتطلب منه أن ينادي على “بوجي”. ويلبي طلبها ويصرخ بصوته الواهن المزيف ” يا بوجي وحّد الله”. تضحك الطفلة بصخب، ويبكي أخوها وهو يصرخ “اسمي رامي يا عمو مش بوجي”. مقلب صغير كان المسحراتي المسكين ضحيته. ينقلب الحي الصاخب في تلك الساعة الصاخبة من ليلة صاخبة في شهر صاخب بمجيء “عيسوي” كل ليلة. لماذا يظل الأطفال مستيقظين حتى هذا الوقت المتأخر أصلا؟ ولماذا يأتي “عيسوي” أساسا ولأي غرض؟ يبدو وجوده عبثيا للغاية ضمن عشرات الأشياء العبثية غير المفهومة. قرر على الفور أن يمنحه لقب “بطل المهنة الأكثر عبثية في العالم”، لكنه تذكر موظفي مترو الأنفاق، الذي يقفون أمام ماكينات التذاكر المعطلة في بوابات الخروج، وينتظرون حتى يلقى الراكب تذكرته أعلى الماكينة، فيأخذونها من أعلى الماكينة ثم- لاحظ من فضلك المشقة وحجم الجهد المبذول- يضعونها في برميل ضخم مخصص للتذاكر!!

الأشياء تفقد قيمتها بمرور الوقت، ربما يكون ذلك صحيحا. وتتغير هذه الأشياء، في البلدان التي يحكمها أغبياء، للأسوأ غالبا، وفي الواقع يبدو تلاشيها أفضلمن وجودها على هذا النحو المقرف، كي تحتل على الأقل مكانا خاصا في الذاكرة. لكن تعود الأشياء الآن، على هذا النحو السخيف، الخالي من أي منطق، تماما مثل التمسك ببقاء مترو مصر الجديدة في زمن ميكروباص “موقف العاشر– رمسيس”!! لا عجب أذن أن يعيش في الحاضر بتشوهاته، وأن يسبح عقله طول الوقت في الماضي حتى وإن لم يكن مثاليا!! صار هذا الماضي مرادفا للتفاؤل والراحة. سيل من الطمع و”الفهلوة” والزيف والكذب يصر على غزو واحتلال الحصن العتيد للأمل. محاولات لا تنتهي عن قصد ودون قصد لسرقة التفاصيل الجميلة التي كانت يوما، ليحل محلها واقع جديد يعتمد في كل تفاصيله على المكسب والثراء. ولا عجب- مرة اخرى- أن يثير إعلان تليفزيوني ضجة كبيرة وتعاطفا كبيرا وشوقا بالغا في رمضان لأنه قرر أن يعيد الناس الى لحظات وأشخاص ارتبط في أذهان المشاهدين بالماضي.. كان أشبه باستفتاء على هذا الماضي والحنين إليه…لست وحدك أذن!!

 من يأخذ “عيسوي” بنزقه الطفولي الشره، ويعيدالماضي والعم “خيري”، في مقابل مكافأة لذيذة “كعك وترمس”!!

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار