“المستبقى” الراوي “المقنّع” يبحث عن مدينة غائبة

"المستبقى" الراوي "المقنّع" يبحث عن مدينة غائبة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ثمة عبارة دالة لإيتالو كالفينو، يصدِّر بها القاص والروائي المصري حسين عبدالرحيم روايته الجديدة «المستبقى»: «المدينة شيء بالنسبة إلى من يمر بها من دون أن يدخلها، وشيء آخر بالنسبة الى من يجد نفسه واقعاً في شباكها ولا يخرج منها...». تمثل هذه العبارة مدخلاً أولياً للولوج في جوهر الرواية، حيث تبدو المدينة حاضرة بتنوعاتها المختلفة، وبأوجهها المتعددة. غير أن حسين عبد الرحيم في مدينته المبتغاة يظل باحثاً عن وجه المدينة - الحلم، فيفتش عن الوجه الغابر لبورسعيد، «المدينة - الرمز»، محققاً ارتحالاً «زمكانياً» بارعاً، يرتحل السارد الرئيس عبره بين أزمنة مختلفة (1956، 1967، 1977، 2005)، وبين أماكن دالة: بورسعيد 77، بورسعيد 2005، القاهرة الآن، كاشفاً عن قدرة واعدة في الإفصاح عن وجوه متعددة لـ «ذات» المكان الواحد. فمثلاً بورسعيد 1977، التي شهدت انتفاضة الخبز مغايرة تماماً لبورسعيد ما بعد 1977.

يبدأ الاستهلال السردي للرواية ملتحفاً بلغة شعرية: «ليس نداءً خفياً هو الذي ناداني،ولا حنيناً الى ماضٍ ولّى،ولا هو عبث السبعة وثلاثين عاماً التي توارت،أظنه الزمن.. الزمن وتراكمات التجارب وضيق المكان». ثم يلي الاستهلال جملة سردية تتخذ من الاستفهام صيغة لها: «لماذا الآن يا محمود؟» ليبدأ السرد التقليدي في بداية الفصل الأول وعنوانه «ديسمبر 2004، وفيه يفتش السارد – البطل محمود محمود طلخان عن جثة «الأب»، فيبدأ الاستدعاء الماضوي لكل ما حدث عبر استخدام الفلاش باك، ولتبقى البداية مشرعة على عدد من الأسئلة: هل ما رآه الابن محمود طلخان في شأن جثة أبيه الغارقة، والمتناثرة شظايا، كان حقيقياً؟ إن اتكاء هذا الفصل على تقنية الحلم كان شكلاً من أشكال المزاوجة بين الخيال والواقع، خصوصاً أن النص تحدث فيه حال من التماهي بين ما يعرف بالراوي الضمني والسارد الرئيس، إذ يخبرنا الكاتب حسين عبدالرحيم عن عائلة عبدالرحيم السوهاجي وولديه حسن، وحسين، وفي الآن نفسه يحمل البطل المركزي اسم محمود طلخان لتصبح حال المراوحة بين حسين عبدالرحيم السوهاجي ومحمود طلخان البورسعيدي مراوغة تقنية على يد الكاتب منحته ديناميكية في الانتقال بين الماضي والحاضر، الواقع والحلم، وليصير حسين السوهاجي ممثلاً للحظة الراهنة بتداعياتها المأسوية وارتحالها «الزمكاني» القلق، ويصبح محمود طلخان البورسعيدي الشخصية المركزية التي تتماس مع اللحظة الفائتة والمالكة حضورها الدال حتى لو بدا هذا الحضور واهناً في راهن يزداد تحولاً وتشابكاً.

ثمة موازاة بين زمنين يتجادلان داخل الرواية، أحدهما ماضوي، والآخر يعبر عن اللحظة الراهنة. ولعل من الأمور اللافتة داخل الرواية أن حضور الزمنين معاً قد يحدث في بعض المشاهد السردية في النص، مثل الحديث عن دخول محمود غرفة العمليات في اللحظة الحاضرة، وخروج الأهالي من بورسعيد أثناء التهجير الماضي.

تتشكل الرواية من عدد من الفصول السردية مثل: ديسمبر 2004، أصوات، المستشفى، غرف عمليات القاهرة، مفارق طرق، بورسعيد 1977، الليلة الأخيرة، قضية المعلم ضاحي، مالينا ومايكل وجاك، ديسمبر 2005… ويلاحظ أن بعض الفصول السردية تبدو قائمة ومستقلة بذاتها حيث يمكن أن تتحول إلى قصص قصيرة، وهذا يفسر الترهل في البناء الفني في بعض المواضع داخل الرواية.

في الفصل الذي يحمل عنوان «أصوات» تهيمن تقنية التداعي الحر التي نتعرف عبرها الى عوالم مغايرة لدى السارد البطل (محمود طلخان) المعاون الإداري في أحد المستشفيات الذي يقاوم الفساد بضراوة، لنرى كشفاً للأقنعة، وفضحاً للزيف الذي يظلل كل شيء، وتعرية لتلك العوالم الخبيئة (العوالم السرية بين الممرضات والأطباء، السرقات، تواطؤ الإدارة).

وفي ذلك نلمح حالاً من الاغتراب تسيطر على البطل، وهذا ما يبدو في توظيف المونولوغ الداخلي الذي تتكئ عليه مقاطع داخل الرواية: «من الذي أتى بي إلى هنا، من أخرجني من بلادي. من أتى بي من الشاطئ الساحلي إلى تلك المدينة الفاجرة».

تمثل المفارقة تقنية مهمة ارتكز إليها العمل، وهذا ما بدا في مقاطع سردية داخل الرواية،لعل من أبرزها التوازي بين تصوير جثة الأب الغارقة وحال الأسى المسيطرة على البطل، وفي الآن نفسه تصوير حال الفرحة العارمة التي تنتاب السائحين وهم يسيرون بمراكبهم في المياه: «المراكب تحمل سائحين أوروبيين وعرباً، وبينهم مصريون قلائل يقتربون من النوافذ الزجاجية المشرعة مطلقين الصواريخ النارية والسهام الكاشفة وسط مجرى النيل وقرب محطة الزهراء».

ترصد الرواية التحولات الاجتماعية العاصفة التي حدثت في الآونة الأخيرة، متخذة من بورسعيد مكاناً مركزياً لها، كاشفة عما جرى فيها،وهذا ما يشير إليه الفصلان «بورسعيد 1977»، «منطقة حرة»، فالسارد لا يحكي فيهما عن شلة الأصدقاء والصحاب المختلفين فحسب، بل إنه أيضاً يبحث عبر وجوههم عن بورسعيد «الغائبة». وهذا ما نجده أيضاً في الفصل الأخير من الرواية «ديسمبر 2005»، إذ تلح صورة فاطمة شقيقة محمود طلخان عليه دائماً متوازية مع الصورة القديمة لمدينة لم يأكلها الانفتاح، ولم تلتهمها الرأسمالية المتوحشة: « صورة شقيقتي فاطمة لماذا تقتحم ذاكرتي الآن وعلى الدوام». تبدو الشخصية المركزية في الرواية ذات هوى ناصري، وهذا ما وظفه الكاتب ببراعة،خصوصاً أن محمود طلخان يعد واحداً من أبطال المقاومة الشعبية في القناة، ولعل النص لم يقع في فخ هيمنة الأيديولوجي على الفني لاعتماده عدداً من التقنيات المختلفة والمشار إليها مــثل: تيار الوعي، تداخل الأزمنة، البناء المشهدي، المفارقة.

وبعد… مثلما حملت بداية الرواية حادثاً مأسوياً بغرق الأب، فإنها تنتهي نهاية فجائعية بانتحار إبراهيم أبو حجة (صديق البطل)، وكأن ثمة رؤية قاتمة تظلل زاوية النظر إلى العالم، فانتحار (أبو حجة) لم يكن نهاية لواقع رديء فحسب، بمقدار ما كان رغبة عارمة في الخلاص من الواقع الشرس الذي تحياه شخوص العمل، إنه تعبير عن حال العجز عن فهم ما حدث من تحولات عاصفة، هذه الحال التي قد تفضي بالبعض إلى الإقدام على الموت.

 

 

مقالات من نفس القسم