المبخرة والمجمرة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة ..  أحمد رجب شلتوت

 ( أ )

أبو النمرس مدينة باردة .

لا يني مرعي يردد هذه المقولة لنفسه كلما زادت إرتجافته .

أبو النمرس بالنسبة له مجرد مكان يصله الأتوبيس بالعاصمة . قصدها في الربيع الماضي . كانت رياح الخماسين تواصل هبوبها ، وكان هو مهدودًا فغفا . عند المحطة الأخيرة . أيقظه المحصل :

           إصح .. إصح يا أخ وصلنا آخر الخط .

نظر – عبر زجاج الأتوبيس – إلى المكان الجديد . رأى طفلاً يحملق فيه . الطفل من خارج الأتوبيس . يرى الأنف الضاغط على الزجاج مجدوعًا فيضحك . يغادر مرعي الأتوبيس إلى أرض لم يطأها من قبل . يسير على غير هدى ينما رياح الخماسين تلفحه ، وفي أذنه صوت المحصل يذكره بالوصول إلى نهاية الخط .

                                       * * *

” نهاية الخط . آه يا مرعي ما أكثر النهايات التي شهدتها ولم تزل سائرًا على قدميك “

                                       * * *

أراح قدميه . جلس على مقهى . طلب كوب شاي ولما أتى به النادل حادثه . سأل عن البلد والسكن وأشياء أخرى .

وهو يشرب الشاي تذكر قريته النائية .. ربما أصبحت مدينة صغيرة مثل تلك التي يشرب شايها الآن .

يشعر بحنين مفاجيء إلى قريته التي لم يعد له فيها أحد .

من يعرف هناك ؟

ربما لا أحد .. فالذي لم يتخطفه الموت أدركه النسيان . أنقذ نفسه من الأسى والحنين .

بسرعة فكر وقرر :

           أنا في كل الأماكن غريب . وما دامت الغربة واحدة

فلأسكن المكان الأقرب .

وهكذا قرر مرعي أن يسكن وأسرته في أبو النمرس .

( ب )

تعلم سعاد – إبنة مرعي الوحيدة – أن الرحيل قدر لا فكاك منه .

صاحب المنزل حصل على تصريح بالهدم وأمهلهم شهرًا .

ما دفعه ليس كثيرًا لا يكفي للحصول على شقة إلا في مكان بعيد .

مكان يقطعه الأتوبيس في ساعة من بولاق أبو العلا  إلى أبو النمرس .

                                          * * *

في رحلتها الأولى إلى المدينة الجديدة إكتشفت أمرًا رأته مهمًا . فلنيل وهي متجهة من بولاق أبو العلا إلى ميدان التحرير كان إلى يمينها ومن بعده الزمالك ، بينما النيل الآن وهي متجهة إلى أبي النمرس يكون إلى يسارها ومن بعده المعادي .

                                         * * *

” آه يا نيل ..

شاطئاك علامتا فصل ، وأنا بينهما مشدودة . منفية . تهفو روحي إلى ما قبل أو ما بعد العلامة الفاصلة . أنا بين قوسيك محاصرة . أكاد أختنق . إعتاد أبي أن يحذرني من الضياع إذ يرى بين قوسيك منجاي ومفازتي . فبينهما – حسبما يرى – شهامة ونخوة أولاد البلد .

وأنا على يقين من ضياعي وتبددي سواء بين الفاصلتين أو خارجهما .

أخي طار فوقهما إلى العراق وعاد ميتًا ، ومثله زوجي الذي مات غريبًا في الصحراء . ضاعا .. وأنت يا أبي مثلهما ضائع حتى وإن لم تبرح مكانك بين الفاصلتين .

الآن تقودني إلى مكان جديد كل ميزته – بالإضافة إلى كونه بين الفاصلتين – هو قربه النسبي من القاهرة .. لم يجديك هذا القرب ؟ .. أنت لا تحتاج القاهرة إلا مرة في الشهر لتقبض قروش المعاش . تلك القروش التي يمكن أن تصلك في أي مكان . فبم يجديك القرب من القاهرة إذن ؟

أنت حر في سكناك . أما أنا فكل الأماكن عندي سواء “

 ( ت )

           هذا الشتاء قاس .

قالها مرعي فأشعلت سعاد النار في كومة أخشاب . تركته – مع أطفالها – يستدفئون وقامت لتعد حساء العدس .

أشعل عود بخور ليبدد رائحة الدخان .

قبل أن يجيء الحساء إنبثقت الفكرة كومضة .

سيحول المجمرة إلى مبخرة .

قال لإبنته وهما يأكلان :

           البلد الذي لا يعرفك فيه أحد …

لم يكمل المثل فهي تعرفه . راح يحكي عن مشروعه للمستقبل . علبة من الصفيح . مجرد علبة من الصفيح . يثقبها من حوافها ثقبين متقابلين . ومتر سلك ، بل نصف متر يكفي . يجدل السلك ويصله بالثقبين . يجعله يدًا للعلبة . يضع في العلبة رمادًا ، بعض مخلفات الإستدفاء . يضعها حتى نصف العلبة ، وفوقها يضع بعض جمرات وحفنة بخور .

يطوف شوارع وحواري أبو النمرس . يبخر الحوانيت ومداخل البيوت . كل المطلوب منه أن يشعل البخور ويسيؤ . يتوقف أمام الدكان أو البيت صائحًا :

           صلي على النبي .

يطلق بخوره ويمد يده ، فتمتد أياد أخرى  بقطع من العملة المعدنية .

 ( ي )

النار في المبخرة بينما البرد يغزو جسده . يرتجف ، ويظل سائرًا حتى تنطفيء ناره وينفذ بخوره . يعود في الليل إلى مأواه .

سعاد تلم صغارها حول الموقد . توسع له مكانًا  بجوارها . يدلق قروشه في حجرها . تلمس يده.

           إنت بردان قوي

تدلك يديه بيديها الدافئتين . تدمع عيناه بينما يحاول أن يبتسم . تضمه سعاد . يذوب في حضنها .

           تصدقي يا سعاد لأول مرة منذ عمر طويل أشعر بالدفء .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص من مصر

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون