«المايسترو».. السّرد بوصفه أفقا لتعايش الثقافات والتصورات المتناقضة

المايسترو سعد القرش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم الحجري
يواصل سعد القرش، الصحفيّ والروائيّ المصريّ، مشروعه الروائيّ الرصين، بإصدار رواية جديدة، اختار لها من الأسماء: «المايسترو«»، وهي اللّقب الذي ألصقه المحكي بشخصية «مصطفى» المحامي المصري التي تكاد تهيمن على الأحداث السردية، من خلال علاقاتها الملتبسة بباقي الشخصيات، وكذا من خلال تمحور أغلب مفاصل المتن حول مغامراته المثيرة للجدل، وسلوكياته الطريفة إزاء النساء تحديدا، إلى درجة أنها بقدر ما كانت تثير السخط والقيل والقال وكثرة السؤال لدى بعض الشخصيات، فقد كانت، أيضا محط تقدير واحترام من قبل باقي الشخصيات، بالرغم من أبعادها البيكاريسكية التي تتمخض بين الفينة والأخرى، ضمن قصصه التي يسردها بأريحية على مرافقيه في الرحلة البحرية على ظهر قارب متهالك في مياه الخليج.
تلتقي شخصيات النص الأربعة (مصطفى المايسترو، تسو، أنيل، نواف) بتدبير من الصدفة، أو بتصميم من السارد، بعد الاتفاق المسبق على القيام برحلة في مياه الخليج للتسامر، وتبادل الحديث، بالرغم من كونها شخصيات تنتمي إلى تيارات مختلفة من الحياة، كل منهم أتى من عوالم جغرافية وثقافية ولغوية متباعدة، يوحد بينهم فعل السفر، الذي سيكون مناسبة لتقارب الرؤى، والبوح بما يشبه ذكريات عالقة في الخيال، يتبادلونها مثلما يتبادلون كأس شاي وحيد، فيحصل بينهم الانسجام إلى حدّ التطابق أحيانا، ويحتدّ بينهم السجال أحيانا أخرى، إلى حدّ الشجار، لكن الليل والماء والقارب المتمايل، وتضارب الأحداث من حولهم، سرعان ما تعيدهم إلى جادة التفاهم، وضبط النفس، لإنجاح الرحلة الرمزية، التي كانت سفرا يشبه أسفار السندباد، بقدر ما يتقدم في المكان، كان يتمطى في الخيال والذاكرة، متأرجحا بين سهو، ويقظة، وتحلل من إكراهات البرية، وتناقضاتها، وضغوطها النفسية والاجتماعية والسياسية. فما كان ذاك السفر على ظهر الماء، إلا أفقا لتحرير الشخصيات والرواة من رقابة ما، رقابة تتفرع إلى جزأين، الأول داخلي جواني، والثاني خارجي براني. فكانت مياه الخليج فضاء خارج الفضاء الواقعي، أو لحظة مجتزأة من دائرة السياق المجتمعي، أو فترة للاختلاء بالنفس، وإفراغ ما يضغط عليها من أسئلة، وعذابات، ومضايق، وكوابيس، بعيدا عن سلطة الآخرين، وعيونهم المترقبة المتلصّصة، وبنادقهم المترصّدة للعورات، وفلتات اللسان، وفلتات الفكر…
تكمن الأطروحة النصية التي تصدر عن الرواية في الإمكانيات المتاحة للتواصل، وفك العزلة المضروبة حول الفرد من قبل السلط المتعددة، خاصة مع تطور الميديا التي ما عاد بالإمكان التحكم فيها، وإن كانت الرواية قد اجترحت أفقا آخر للشخصيات، وهي فسحة متحررة فوق مياه الخليج. ومهما وهنت عُدّة الإبحار، واختلفت المسافات بين الشخصيات المسافرة على مستوى درجة الوعي، ومسافة الانصهار والاتفاق، فإنّ المحكيّ يريد توصيل فكرة ما حول مآل الحريات في المجتمعات العربية، وضيق أفق التعبير، وهو وضع لا يشي بأي تحول بالرغم من الحركات الاحتجاجية المطالبة بالتغيير منذ ربيع 2011م، انسجاما مع المتغيرات العالمية، وهو أمر يقبض على أنفاس الشخصيات، ويجعلها تعيش كوابيس يومية، تسعى للتحرر منها باقتراف حماقات اليومي، والسخرية من التقاليد، والنقمة على مفردات المتخيل، الذي يعد جزءا من نسق الأنشوطة المحكمة حول الرقاب، والأكمام التي تطبق على الأفواه، ومعها القلوب والعقول.
تختصر رواية «المايسترو» العالم، من خلال تمثيله في عناصر سردية موحية: فالقارب هو سفينة نوح التي تقلّ، ضمن حياة متلاطمة، شخصيات من كلّ الأطياف، والمستويات الثقافية، ومن كلّ المشارب، وهم يجرّون خلفهم تاريخا، وقصصا، وأحلاما، وتصورات للعالم، وإخفاقات بألوان مختلفة، في العمل، والحب، والسياسة، والحياة، وما اللجاج القائم بينهم، إذ يحتد، أو يخفت، إلا مظهرا من مظاهر السجالات القائمة بين الثقافات والجغرافيات، والمجموعات البشرية من كل جهات المعمور، في سعي دؤوب للوصول إلى أفق تنمحي فيه الحزازات، وسوء الفهم، وتذوب الخلافات، وما تلك المشوشات الخارجية التي تفد عليهم، بين الفينة والأخرى، لتشوش عليهم خلوتهم سوى جزء من ترهات العالم التي تجهد إمكانيات التقارب، ومد الجسور، ونبذ العصبيات، والتعايش السلمي، وضمان أفق الاختلافات لا الخلافات… وما أكثرها! وهنا، يظهر البعد العقديّ في جانبه السطحي، حينما يرغب مصطفى ولورا في توثيق زواجهما، فيصطدما بالفهم الديني المغرض للعدلين اللذين استغلا ذريعة الزواج المختلط للضغط على مصطفى للأداء المضاعف.(ص. 239).
تناقش الشخصيات الأربعة كل تلك الأسئلة الملتبسة بوعي مفارق، ساخرين حينا، ومنتقدين حينا أخرى، دون أن يخفوا تذمرهم من غياب العدل في هاته الأرض، وسيادة الانتهازية، والاستغلال، والقسمة اللامنطقية للثروات والمتع بين البشر على هاته الأرض: (تفكر نواف في حكمة الله الذي جعل الدنيا، وبيع الملذات وشراءها، أكبر هم هؤلاء، وأغلبهم من الأجانب. هم مخلصون في أعمالهم، أمناء مع غيرهم لا يكذبونهم، ولا ينكرون ارتياد حي الأضواء الحمراء، فكيف لم يذهب الله عنهم النعمة، ويحل عليهم غضبه، ويبدل غناهم فقرا؟ لا علاقة لهؤلاء بقانون السماء الذي لا يكف عن مطاردة المستضعفين في الأرض، منقوصي الهوية من أمثاله، في خطب المساجد، ومواعظ الواعظين في التلفزيون. هنا لا يأذن هؤلاء بحرب من الله، ولا تستهدفهم لعنته…) ص. 139.
ولئن كانت دردشة الشخصيات الأربعة تنصرف إلى المعتقدات، والرؤية للعالم والأشياء، وأشكال العبودية التي يستنها الأشرار لإذلال ما دونهم بأي طريقة كانت، فإن رمزية العلاقة التي تربط بين مصطفى المايسترو ولورا، تكاد تكون لبّ العلاقات برمّتها، لأنّها تكشف طبيعة التواصل القائم بين العرب والغرب، ونظرة كل منهما للآخر، والتي تتأسس، في الغالب، على مُسبقات ما عاد لها من أساس، وتقوم على أوهام متوارثة تجعل أية محاولة للتّقارب من باب المستحيل.
ولأن التواصل بين المرأة والرجل من طرفين نقيضين، وثقافتين مختلفتين، ينبني على غير ما تتأسس عليه العلاقة بين الرجل والرجل، فإنّ علاقتهما سرعان ما تجعلهما على المحك، وتبرز معدنهما الأصلي، وتعرّي خلفياتهما الفلسفية الإبستمولوجية، فكانت تلك العلاقة بين لورا والمحامي مصطفى، العاكس الذي يكشف بؤر القوة والضعف، ويبيّن مواقع الهشاشة والصلابة، ويرسم مقياس التوتر المتردد والملتبس في سلمية الاتصال والانفصال، والتوافق والتنافر، والصراع والتواؤم…
تحبل الرواية بالمفارقات الساخرة، وتجتهد في تجليتها بأسلوب جارح تماما، بما أن تتقصد تنبيه الذوات إلى أوهامها المفخمة المتعلقة بالهويات الكاذبة، والبراقة، والخاوية من المعنى، وكشف حقيقتها أمام المرايا المتعاكسة التي تجرّدها من أغشيتها المنفوخة بالهباء، لعل وعسى تخجل هاته الكائنات القابضة على الوهم، وترتد إلى واقعيتها، خاصة وهي لا تميز بين الاستيطان والوطنية، بين أن تكون فاعلة، أم مفعول بها، مسيرة أو مخيرة، واعية أم نائمة، حية أم ميتة. لعلها تعي درجة التحول التي عرفتها القيم، والأخلاق، والقوى، والمسافات، والأفكار… بما يجعلها تعدل من جنونها، وتخجل من نكستها المتوارثة في غير مبالاة، فتصبح المرأة، في مجتمع مفرط المادية، مطالبة بتحصين فمها بدل فرجها، ويعيش الرجال خصاء رمزيا، وتفخر الأمر بثقافة ليست لها، وتعتز أمم بإنجازات لم تتعب فيها، وتتنعم أخرى بخيرات غيرها، بينما يعيش السكان الأصليّون على الفتات… هذا العالم الذي يتباهى بفتوحاته التكنولوجية والاقتصادية، يحفل بالاغتصابات الوحشية للأطفال القاصرين، وتسوده العبودية بدرجة أقبح مما كانت عليه في السابق، وتنتهك الحرمات.
ولعل أكثر ما يشغل فكر الرواة المتقنعين وراء الشخصيات، هو كون الآخر يعرف عن ثقافتنا، ولغتنا، وكياننا الهوياتي أكثر مما نعرفه، ويتجسد ذلك، في شخصية «لورا» المهووسة بثقافات الشرق حدّ الإعجاب، يقول السارد: (حرصت لورا على اقتناء ما تجده من كتب إنجليزية وعربية عن مصر القديمة، في العلوم الطبية واللاهوتيةوالأساطير والفنون والحروب والدبلوماسية، وخصوصا الكتب المصورة…) ص. 178.
يشكل حضور لورا، صديقة مصطفى، أو حبيبته، أو زوجته، ليس يدري، فضلا عن تلك الفتاة الهاربة من موت أو اغتصاب محقَّقين، وغيرهما من النساء، لإعطاء العلاقة بين الشخصيات والفواعل؛ تلك الحميمية، فهن إسمنت التواشج الإنساني، على الأقل داخل الحكاية، حيث إنّ المرأة تحضر، بشكل هجاسي، في الحوارات والسجالات والحكايات التي يتبادلها الشخوص، بالرغم من غيابها على مستوى الرحلة الخليجية فعليا، إلى درجة أنها تكاد تهيمن رمزيا على مادة النص السرديّ، ولعلها تمثل، في أحايين كثيرة، ضمير الحياة، ونسغها المفقود، خاصة بالنسبة للورا التي تتقمص دور «المعلّمة، الخبيرة، الوعي المسلوب، الآخر الذكي غير المتحامل، الوجه الآخر لمرآة عقلية الشخصيات….» في حياة المايسترو، الشخصية الرئيسة في المحكي، ودينامو قصة النص، لتمرّر، من خلاله، رسالة إلى الذات (الهوية)، تستفزها، وتكشف جوانب الضعف فيها، يقول السارد على لسان «لورا» شبه معاتبة لمصطفى، والعرب، والمسلمين في كل المعمور: (تكلمني عن البرتقال والبرتغال؟ ولديكم في العربية، وهي من أحدث اللغات، تراث كتابي في الفقه والتاريخ والتصوف والآداب والفلسفة والعلوم السياسية والطبيعية أقدم وأغزر مما يوجد في أي لغة أخرى. هذا الرصيد العربي المخطوط أضعاف ما تحظى به أي لغة. وعلى الرغم من هذا الثراء، فإنكم تجهلونه وتنكرونهأو تتنكرون له. وتستعلي عليكم ثقافة مجاورة مثل الفارسية التي ليس لها منجز تدويني قبل القرن التاسع الميلادي، ويتباهون عليكم بذكر «الشاهنامه»، وعندكم «ألف ليلة وليلة» أعظم نص قصصي على الإطلاق في كل العصور واللغات). ص. 117.
تستمد أطروحة النص الروائي تماسكها من كون الإنسان المعاصر، سواء كان شرقيا لاهوتيا مسكونا بعبق العقائد، والأساطير، والقصص، ومشبعا بمظاهر الاعتزاز الزائفة المرهونة للماضي، أو جنوبيا مثقلا بخيبات التاريخ، وروائح العبودية النتنة، وحرائق التجهيل والاستغلال المستدامين، وفظاعات المصائر التي كتبها عليه لونه، وانتماؤه الجغرافي، أو كان غربيّا مغترّا بمنجزاته العلمية والسياسية والاقتصادية والحضارية البرّاقة، يبقى مشدودا إلى أصوله الفطرية، وأحاسيسه المشتركة، ولغات حاجاته الغريزية المتشابهة، ومعدنه الوجداني الأصيل، لذلك، فلو حرصت النّخب المتعددة على تذويب الفوارق، وعملت على استثمار الجوانب اللصيقة بالآدمية الرفيعة في تغييب للأقنعة والبروتوكولات المزيفة، والخرافات الكاذبة والخادعة، وتطوير الأبعاد الإنسانية المشتركة من أحاسيس الرغبة والخوف، والحنان، والشوق، والجوع، والعطش، والغرائز المحمومة، والصراع مع الطبيعة، والدهشة من المستقبل، والهلع من متغيرات الكون، والتضايق من مجاهل الحياة، والفكر النقدي النير الذي يحيّد الخصوصيات، والأنانيات، والعصب، والإيديولوجيات… والتدافع نحو التراحم، والتكافل، والجدال السليم، ستجد الإنسانية طريقها السالك صوب جزر النجاة، وبر الأمن والسلام والرفاء.
وبقدر ما تعلن الرواية ذاك الأفق سبيلا لاقتحام كوى النور، فهي تطرح مخاوفها، في شكل تحفظات من قبل الشخصيات المتحاورة، وفي شكل هواجس مسلّطة عليها، ومشوّشات خارجية تتنصّت عليها، رغبة منها في تكميمها، وقطع ألسنتها، إذ هناك دوما، منغّصات تفِدُ على العالم/ الأفق الروائيّ المبتكر، من الخارج، أو حتى من داخل الشخصيات ذاتها، فبالحجم نفسه الذي تشتغل به السلط الديكتاتورية لإلجام من يسيرون ضدّ تياراتها الطاحنة، هناك أيضا، ترسّبات جوانيّة كامنة في الفرد والمجموعة، تهيّئ التربة لاشتغال أدوات الهيمنة، وتيْسير برامجها.
إنّ خط السرد في الرواية ليس طويلا، بحكم ما سطره الباث من وراء محكيه، ولا يتجاوز مسار الرحلة الخليجية ذاتها، لكن هذا الخط يثقل مادته الحكائية، عن طريق فتح قنوات جانبية كثيرة، تكاد تصبح هي الأساس في العالم الروائيّ، منها حوارات توقف السرد، لتفتح كوى المحكي على عالم الذوات والفواعل، وتعطيها فرصا للبوح، والشكوى، والتعبير الحر عن المسكوت عنه، أو تجسّر لها سبيلا إلى التصالح مع الذاكرة، أو سرد قصص عشقية، أو مغامرات شخصيّة، أو يتيح للسارد فرصة النقد، والوصف، والسّخرية، ونقض الهواجس، والمسلّمات المطمئنة التي تؤخذ في الفكر السائد؛ باعتبارها بديهيات لا تمسّ قدسيّتها، أو إعطاء مجال للفواعل كي يزنوا الأشياء بميزان الحقيقة، وتشخيص الصورة الواقعية للذات في ميزان المرآة الواضحة بدون تعصب، أو تجاهل، أو سفسطة، ويضعوا القيم، والحضارة الإنسانية، ومساهمات البلدان فيها، ومقارنة الأنا بالآخر، وكشف الوهم الكاذب والحقيقة المزيفة عن الوجوه المقنّعة، بما يخيف سدنة التقاليد الرائجة، والثقافات المهيمنة التي تريد أن يبقى الوضع على ما هو عليه، وأن تظل الحجب تغطي على الفظاعات والبشاعات، وتخفي الحقائق المستورة، حفاظا على مواقعها، وحرصا على مصالحها المتشابكة.
اختلقت المحكيّات الداخليّة، في رواية «المايسترو»، شعريّتها الخّاصة، فهي تتوسّل بلغات مطبّقة، تتراوح بين المباشرة التي تقتضيها السّجالات العادية بين الشّخوص، والعمق الذي تستلزمه المونولوغات الغميسة، أو التمثلات والتأملات الفلسفية في قضايا جوهرية مثل: الحبّ، وطبيعة العلاقات الملتبسة، والفوارق بين الحضارات والشخصيات، نظرا لما يُداخلها من استغوار نفسيّ، وتحليل فكريّ، علما أن فلسفة النصّ الروائيّ استباحت لنفسها، بوعي مسبق من الكاتب، التجاوز الضمنيّ لسلط الرغبة، والمتعة، والتسلسلية في الحكي، والتشويق، وما إلى ذلك… كي تؤسس عمقها الفريد، ذاك الذي لا يروم مجرّد السرد، بل يلوّح بقضية شائكة يرْصفُها بين السطور، وفي ثنايا الحوارات، وفي تضاعيف الاستبطانات التي تندّ عن الشخصيات أو السُّرَّاد.
……………………….
(«أخبار الأدب» القاهرة ـ 5 / 7 / 2020)

مقالات من نفس القسم