الليل: بحر الروح، قهوة الجسد

موقع الكتابة الثقافي writers 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

هناك أرواح تتفتَّح ليلاً، عقول تُضىء ليلاً، وأجساد تتألَّق ليلاً.

فى الليل، يمكنك أن تكون أىّ شىء، وكل شىء، تتفتَّح كل الأبواب السريَّة، ويأتى هو بأبواب لا تكون إلا معه، فى الليل يكشف العالم عن نفسه، يلتقط أنفاسه، يُخرِج ألعابه السحرية، شجونه، مجونه، فنونه، يُبعثر أسراره، يخلع كل شىء عن نفسه طاقية الإخفاء، ويتحرَّر من قيوده.

فى الليل، تُصادِف كائنات لن تصادفها خلال النهار، كائنات ليليَّة، هم عيال الليل، وأصدقاؤه، هو أيضًا عَيِّلُهم، وصديقهم، يعرفهم من مشيتهم، ضحكتهم، رائحتهم، نزَقَهم، موسيقاهم، وليلهم الخاص.

ولولا الليل ما كان السَّهَر.

فى الليل تتخلَّص الأرواح من الحجارة العالقة بها، تَنْبُتُ الأجنحة، تتحرَّر الكائنات من الجاذبية الأرضية، يصير لكل شىء جاذبيته الخاصة، لونه، وسحره، مداراته، وكواكبه.

الليل مصنع الأحلام، والأوهام، الظلال، والألوان، الغامض، الواضح، تصفو فيه الأفكار والمشاعر، الليل يعيد ترتيب العالم، الليل يصنع فوضى محببة فى العالم.

كم مَنْ كائنات تنتظر الليل كى تظهر، ليس لأنه يستُرها ويُخفيها، ولكن لأن طبيعته تُشجِّعها على أن تُحرِّر ذاتها، لأنها تستطيع معه أن تعبَّر عن نفسها كيفما تريد، وبأجمل ما يمكنها أن تكون.

ولولا الليل ما كانت حكايات ألف ليلة وليلة.

عكْس ما هو شائع، فكل شىء يكون واضحًا فى الليل، لأنه يكون على طبيعته، وأصغر شىء ستكون له أهميته، أصغر نظرة سيكون لها معنى، كل شىء يأخذ أبعاده الحقيقة، ويتخِّذ أبعادًا جديدة، فى الليل هناك مكان لكل كائن، الليل يتَّسِع للجميع، يتمدَّد العالم بشكل حقيقى، الليل يكشف فى كل مرة عن مناطق جديدة لم تظهر من قبل، ويخترع مناطق لم يكن لها وجود، يزداد عدد الأراض، والسماوات، والبحار، والشوارع.

ولولا الليل ما كانت فتاة اسمها “ليلى”.

يمكنكَ بسهولة أن ترى أن الشوارع ليست كما هى عليه خلال النهار، كل الأماكن، والأشخاص، ليسوا كما هم عليه خلال النهار، يأتى الليل فلا يبقى شىء على حاله.

ويأتى الليل فأتصرَّفُ بطريقة مختلفة، يتغيَّر إيقاعى، أرى كل شىء بطريقة جديدة، حتى المفردات التى أستعملها تتغيَّر، المشية، طريقة النظر، تصير كل تفصيلة فرصة للتحليق والانتقال إلى مستوى جديد من.. من ماذا؟ لا أعرف.

يمكنك أن تلاحظ أنَّ الأشخاص الليليِّين يبدأون فى التصرف بطريقة مختلفة مع بدايات الليل، يتغيَّر إيقاعهم الداخلى، والخارجى، طريقة كلامهم، مفرداتهم، وكأنهم يحتفلون بقدومه، وكأن مساحة داخل أرواحهم وعقولهم لا تعمل إلا فى وجوده، تستيقظ بداخلهم وحوش، سَحَرة، تنهض غابات، يهطل مطر، تتفجر بحور، حكايات، موسيقا، ألوان، أشعار، حقول الورد، الشهوة، اللذة، النشوة، متعة الجسد والروح.

أرواح الليليِّين وأجسادهم تحتفل فى كل مرة يأتيهم فيها الليل، هو أيضًا يحتفل بهم.

والليل لا يتأخَّر أبدًا، سيمرُّ أثناء قدومه إلينا بمناطق مُوحِشَة، مرعبة، لكنه لا يتراجع، هو يحب ذلك، المغامرة، ومَسّ الجنون والفنون، الرعب والحب.

ولولا الليل ما كان عواء الذئب بهذا العمق والجمال.

العجيب، أو ربما هو طبيعى جدًا، أن يصير للأشياء حضور أقوى خلال الليل، وفى الوقت نفسه أكثر خِفَّة، كل شىء واضح وله عِدَّة أشكال وأرواح، يمكنكَ أن تشعر بحضور الأشياء حولك، وفى الوقت نفسه تبدو غير حقيقية، تصير حتى اللمسات العفوية بين الأشخاص مقبولة، هى نفسها اللمسات التى قد تكون سببًا للصدام فى وقت آخر، مع الليل يبدو كل شىء متسامحًا، والوقت غالٍ، عزيز، وفاتن.

الليل المُلْهِم، المُلْهَم، البسيط، العميق، الحكيم، الطائش، المتهور، النبيل، الراقى، الشفاف، الحَسَّاس.

فى الليل يمكنك أن تنعزل عن كل شىء، وفى الوقت نفسه تتواصل مع كل شىء، تسافر إلى أبعد مدى، يمكنك أن تركب قطارًا بجوار نافذة وتكون مستعدًا أن تبقى هكذا لآخر حياتك، تتطلَّع إلى العالم بالخارج، وفى الخلفية صوت القطار، ينقصك وقتها أن يهطل المطر، ويلمس وجهك، هل يمكن لأحد أن يتخلَّىَ عن مشهد كهذا؟ يمكننى أن أستمر فى هذا المشهد إلى الأبد، لكن سينقصنى أنْ تأتى فى وقتٍ ما من هذا الليل، فتاة، أو امرأة، ذكية، لطيفة، وتجلس فى المقعد المقابل لى.

مع الليل لن تكون مشغولاً بموت أو حياة، ستكون فى نقطة أعلى منهما، أو مجال ثالث، مُصفَّىَ من الوقت والمكان، حيث لا يمكن الإمساك بك، ولا يمكن لشىء أن يُغريك أو يخيفك، أنت حُرّ، خرَجْتَ من كل شىء، وخرَجَ منك كل شىء، احتويت كل شىء، وتسرَّبْتَ أنت داخل كل شىء، أنت روح مسافرة.

ولولا الليل لقَضَىَ عُشَّاق الليل حياتهم وهم يشعرون بأن شيئًا ينقصهم ولا يعرفون ماذا يكون.

الليل ليس بيتًا للأسرار، على العكس، هو يسخر من هذه الفكرة عنه، كيف ونحن نفعل فيه كل ما يخطر ببالنا، ونُؤجِّل لحظاتنا الرائعة حتى نفلعها معه، مسموح فيه بكل شىء.

الليل هو التفاصيل الصغيرة، أن تفعل الشىء بتفصيلاته الدقيقة، أن يمنحك كل شىء فكرة جديدة عنه، فى الليل يكشف كل شىء عن أجمل وأعمق ما فيه.

ليس هناك سَفَر أجمل من السفر ليلاً بجوار نافذة قطار، ليست هناك تمشية أجمل من المشى فى الشوراع ليلاً، ليس هناك طعام أشهى من وجبة يطبخها معًا عاشقَيْن فى وقت متأخر من الليل.

ولولا الليل ما كانت اللذة بهذه اللذة.

فى الليل يمكنك أن تقابل الملائكة، الشياطين، الأشباح، ويكونون جميعًا أصدقاء لك، يمكنك ألا تقابل أحدًا، وأن تقابل نفسك، يمكنك أن تصحب نفسك إلى المقهى، و”تعزم” نفسك على فنجان قهوة، تتمشَّى مع نفسك فى الشوارع، يمكنك أن تمسك الموسيقى بيديك، وترقص معها، فى الليل يمكنك أن تسامح كل شىء، ويمكن لكل شىء أن يسامحك.

الليل لن يكون فى شىء إلا وجَعَلَه أجمل، وأكثر حساسية وعمقًا.

ربما لو جَرَّبَ أحدنا ونَزَع الليل من حياته، سيكتشف أنه ينزع أهم لحظات حياته، أجملها، وأكثرها إيلامًا.

لكنى فى الوقت نفسه أُرَجِّحُ أن أَصْفىَ اللحظات كانت ليلاً، لحظات كنتَ فيها مع نفسك، أو مع شخص تحبه، أشخاصًا تحبهم، لحظات المتعة الخالصة، الرُقىَّ الخالص، الصفاء التام، التسامى، ستجد أنها فى ليلِك.

ولولا الليل ما كتَبْتُ هذا النَصّ.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار