اللعب الروائي: انبثاق المتخيل من المتخيل في “أبناء الجبلاوي” لإبراهيم فرغلي

اللعب الروائي: انبثاق المتخيل من المتخيل في "أبناء الجبلاوي" لإبراهيم فرغلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تعد رواية "أبناء الجبلاوي" للروائي المصري إبراهيم فرغلي من النصوص الروائية الجديدة التي تذهب إلى آفاق مبتكرة في خلق عوالمها السردية، وتشكيل متخيلها الروائي. إن "أبناء الجبلاوي" من النصوص الروائية التي تؤكد أن الرواية تتولد من رحم الكتابة، ومن ارتشاف رحيق الأعمال السردية الكبرى التي تدفع المبدع الذكي المالك للموهبة والقدرة على الكتابة إلى أن يصير مبدعا استثنائيا يستطيع بناء نصوصه الخاصة المتميزة. هكذا نجد أن لعبة رواية "أبناء الجبلاوي" تنبثق من رحم النص المحفوظي (نسبة إلى نجيب محفوظ)، لكنها تذهب بعيدا في بناء متخيلها الخاص القائم على أساس فانتاستيكي، وتشكيل سردي يحقق، في بعض جوانبه، قطائع فنية مع ما عرفته الرواية العربية (والمصرية طبعا) حتى حين تدوين المتن المشتغل به. فما تجليات انبثاق المتخيل من المتخيل في الرواية؟ وكيف يتمكن البعد الفانتاستيكي من توليد المتخيل وبناء العوالم السردية في النص؟ وكيف يتشكل اللعب الروائي في هذا النص السردي الفاتن؟

 لا يدري قارئ رواية “أبناء الجبلاوي”، وهو يطالع فصولها الأولى، أنه يقرأ رواية، أو بالأحرى مشروع رواية لشخصية من شخصيات الرواية لن يعرف اسمها ووسمها إلا في جزئها الثاني، وسرعان ما يتماهى المتلقي مع عوالم الشخصيات الأولى في نص “كاتب الكاشف”: كبرياء ونجوى ورفيق فهمي وفاطيما.. وغيرها من الشخصيات. وسرعان ما يندمج في حكاية اختفاء أعمال نجيب محفوظ من كل مكتبات البلد، وسعي كبرياء، في حركة بحث غرائبية، اكتشاف سر هذا الاختباء، وأسباب هذا الحدث الغريب. وفي هذا السياق تنبثق شخصيات نجيب محفوظ لتصير شخصيات روائية فاعلة في “أبناء الجبلاوي” توهمنا بصدقية أدوارها الجديدة، وإسهامها الفعال في كشف سر اختفاء أعمال مبتكرها/خالقها نجيب محفوظ من الأسواق. وهكذا حينما ينتقل كبرياء للعيش في القبو سيلتقي عددا هائلا من الشخصيات المحفوظية التي تؤدي دورا هاما في بناء الأحداث وتشكل متخيل الرواية. يقول السارد في مقطع دال من مقاطع الرواية:

” تأمل كبرياء الوجوه من حوله في ذلك القبو ذي الإضاءة الكابية. فرك عينيه مرات عدة كأنه يخشى أن يكون ما يراه ليس سوى حلم من الأحلام الغريبة التي بدأ يحلم بها مؤخرا، أو وهم من أوهام خيالاته المريضة. لكن حرارة أنفاسهم، وهيبة حضورهم كانت تفيض على المكان بما لا يدع مجالا للشك في وجودهم.

تأمل كبرياء وجوههم جميعا، مرة أخرى، منتهزا فرصة تحلقهم حول الجبلاوي والسيد أحمد عبد الجواد، اللذين كانا يتحدثان بالتبادل، بنبرة صوت واضحة لكنها أقرب للهمس. بحث كبرياء عن “زهرة”، العاملة في بنسيون “ميرامار… ومن بعيد ظهر رهط من “الحرافيش” و “أولاد حارتنا”، لم يستطع كبرياء أن يميزهم، إذ ثارت جلبة مفاجئة، واختفوا جميعا عن الأنظار خلف ساتر، من جدار القبو القريب من المقابر..” (ص.301)

بهذه الكيفية نجد الجبلاوي وأحمد عبد الجواد وعاشور الناجي.. وغيرها من الشخصيات الروائية المحفوظية تؤدي وظائف جديدة في نص “أبناء الجبلاوي” فرضها المتخيل الفانتاستيكي الذي تقوم عليه الرواية، وتجعله أساس تشكيل عوالمها السردية. وبهذه الشاكلة نجد الشخصيات المحفوظية تسهم في حضن كبرياء والسهر على حياته وتجنيبه كل الأخطار المحدقة به، خاصة أنه اضطلع بمهمة بعث إرث نجيب محفوظ المختفي وإعادة كتابته، ولو من الذاكرة. وقد لمست الشخصيات مدى مغامرة كبرياء في محاولته هذه، خاصة بعد مقتل صديقه رفيق فهمي في ظروف غامضة، ثم موت حبيبته نجوى بسبب المرض. وهكذا انخرطت جل شخصيات نجيب محفوظ الرجالية والنسائية في تأثيث العوالم السردية الجديدة التي خلقها إبراهيم فرغلي خلقا جديدا.

ولم يقف متخيل الرواية عند هذا الحد من استدعاء شخصيات نجيب محفوظ، وتوظيفها في سياق متخيل جديد مبتكر يقطع مع ما عرفته من حيوات وأحداث سابقة، وإنما نجد بعض أجواء محفوظ السردية تتخلل رواية “أبناء الجبلاوي” لترصد انتشار الشر، وسيطرة وباء الفساد وتغلغله في نسيج المجتمع المعاصر. يقول السارد على سبيل المثال مصورا لحظة لجوء كبرياء إلى القبو في سياق سعيه لمحاربة مؤامرة تدمير تراث نجيب محفوظ ومحو أثره:

“على مدى الأيام التالية كانت الأخبار تتوارد على سكان القبو من شخصيات نجيب محفوظ، ومعهم كبرياء. ولم يكن فيها ما يبشر بخير. الطيور التي كان أهل المدينة الشاسعة يسمعون رفيفها ليلا، منذ اختفى تمثال نجيب محفوظ، تحولت إلى أسراب تغطي السماء، وتحجب الشمس، حتى أصبحت المدينة تعيش في عتمة تامة، في النهار كما في الليل. انتشر وباء قاتل في أرجاء الحارة، وتمكن، تماما كما تغلغلت جرثومة الفساد عميقا في روح الحارة، وهو ما جعل الأمر مأساويا..” (ص. 303)

يذكرنا هذا المقطع، بشكل لا يخفى على قارئ نجيب محفوظ، بعوالم روايتي “أولاد حارتنا” و”الحرافيش”، إذ إن تصوير تحول المجتمع، وانتشار منطق الشر على الخير، يصبح ظاهرة كونية يستشعرها الإنسان والحيوان على السواء، كما أن الطبيعة، بدورها، تتأثر بهذه التحولات وتكون فاعلا في الاحتجاج والرفض، كما نلمس في المشهد الذي نقف عنده. وهذا السحر المحفوظي، الذي يتخلل رواية “أبناء الجبلاوي” يبين بما لا يدع مجالا للشك، أن الرواية تستلهم بعض جوانبها الفانتاستيكية من متن نجيب محفوظ ذاته، وهو الروائي الذي بذر البذور الأولى لهذا المنحى في الكتابة الروائية العربية، إذ تنزاح رواياته عن المنحى الواقعي الصرف. غير أن إبراهيم فرغلي، يطور هذا المنحى بما يخدم دينامية روايته، ويمنحها فرادة كبيرة من خلال تعدد مستويات الحكي فيها وتنوع رواتها، إذ إلى جانب كبرياء، وكاتب الكاشف، نجد قرين كاتب الكاشف الذي أوحى له بكتابة قصة كبرياء ونجوى وفاطيما، وتعالقات كبرياء واشتباكه بشخصيات نجيب محفوظ، ومغامرته لكشف سر اختفاء أعمال الكاتب العالمي من المكتبات العامة والخاصة.  

إن تعدد مستويات اللعب الروائي وتنوع إمكاناتها تجعل الرواية على قدر عال من الفنية والمتعة. ولعل التركيب المكثف للسرد، والتعدد الهائل للحكايا، والتنوع الكبير للشخصيات: ما بين شخصيات ابتكرها إبراهيم فرغلي، وأخرى استمدها من عوالم نجيب محفوظ منح الرواية مجالا شاسعا لتوليد متخيلها السردي الفاتن، وقدرتها على تشريح الواقع وحالات الشخصيات الروائية عن طريق الفانتاستيك الذي شغله الكاتب في مستويات عدة.   

وعبر البناء الغرائبي الفانتستيكي تتشكل التمفصلات الكبرى لمحكي يجعل من توليد المتخيل من المتخيل لعبة روائية تتميز بالحيوية، والقدرة على تحليل الواقع، والسخرية منه، والسخرية به، أيضا، بحيث إن الرواية، لا تجعل من لعبة الفانتاستيك، ومن الإغراق في اللامعقول، وأسطرة الوقائع غاية في ذاتها، بل إنها تجعل من كل الإمكانات الموظفة فيها، بابا نحو محاولة تشريح الواقع وتأويل بعض مجرياته. وبهذا يصبح السرد أداة لفهم العالم، وفهم أعماق الإنسان وحقائقه النفسية.

وهذا البعد الفانتاستيكي لا يوظفه الكاتب في رواية كاتب الكاشف التي يكتبها، كما كتب قبلها نصوصا أخرى يأبى نشرها، والتي تروي حكاية كبرياء ورفيق فهمي ونجوى وفاطيما، وعلاقة كبرياء بالجبلاوي وأحمد عبد الجواد وعاشور الناجي وزهرة ورادوبيس (التي رعته وقادته وأحبته)؛ وإنما يمتد هذا البعد إلى حياة كاتب الكاشف نفسها، إذ يجد نفسه يلوب في متاهة الكتابة، ودوار الحياة، موزعا بين نجوى وجيسيكا، وبين الأمل في الكتابة واليأس منها. وهكذا تصبح بلاغة المتاهة، وفصاحة الدوار ميسما فانتاستيكيا يؤدي دورا هاما في معرفة اهتزاز كاتب الكاشف وخوفه على نقيض بطله المغامر: كبرياء. وبهذه المرآوية المتضادة يتمكن الروائي من كشف حقيقة شخصيته الرئيسة، في الرواية، كاتب الكاشف. كما يكشف عن علاقته المهتزة بكل ما يحيط به، في العمل، والبيت، وفي الحب، فنجد حكايته مع دومينيك، ونجوى، وجيسيكا. كما نلمس ميله إلى العزلة، وخشيته من الآخر وعدم ثقته سوى في صديق طفولته –شبه الساذج- شامخ. وبهذه الشاكلة يصبح المحكي الواقعي الممتزج باللعب الفانتاستيكي وسيلة لقراءة الواقع وتفسير حقائق النفس الإنسانية.

عبر كل ما سبق نتبين أن رواية “أبناء الجبلاوي” قد استطاعت اتخاذ آلية توليد المتخيل من المتخيل في أفق مبتكر جديد وسيلة لتشكيل عوالمها السردية، وبناء شخصياتها. وعبر هذه التقنية الفنية، مع منح المخيلة كل حريتها، استطاع إبراهيم فرغلي صياغة نص فريد في تعدد مستويات حكيه، وتعدد رواته، وتنوع أحداثه وتشعبها، وتغير الأجواء ما بين الواقعية والغرائبية، والأسطورية والحلمية، وكل هذه الإمكانات منحت النص تميزا كبيرا في السردية الروائية العربية الجديدة. 

وبهذه الكيفية يجعل إبراهيم فرغلي من المتخيل الغرائبي المتولد من متخيل نجيب محفوظ، مع الإضافة إليه، وإغنائه، بل تجاوزه أساسا لبناء عالم روائي مبتكر، وعلى قدر عال من الفنية. وبهذا وجب الإعلام والسلام.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم