اللعبة المركبة والخطرة لوحيد الطويلة في روايته: “جنازة جديدة لعماد حمدي”

جنازة جديدة لعماد حمدي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 أحمد المديني                                                                           

في حوار جرى بين فليب روث( 1933ـ 2018) وميلان كونديرا(1929ـ) سأل الروائي الأمريكي زميله التشيكي متحيِّرا كيف يجنِّس تأليفه :” كتاب الضحك والنسيان“(1979)، إنك لم تضع على غلافه نوع(رواية) لكنك في مجرى النص دوّنت: ” هذا الكتاب رواية في شكل تنويعات“؛ فهل هو رواية أم لا؟. أجاب كونديرا بأنه انطلاقا من اقتناع شخصي مبنيٍّ على حكم إستطيقي، فكتابُه رواية، من غير أن يلزم أحدا بهذا الرأي. الرأي عنده أن: “الشكل الروائي يسمح بحرية فسيحة، ومن الخطل اعتبار بنية نمطية ما بمثابة جوهر للرواية لا يُخرق“. لا يقتنع روث، هو الروائي الكلاسيكي والواقعي إلى حد بعيد، فيعترض، دأبُه، بمنطق المتشبث بالقواعد الفنية:” ومع هذا، ثمّة بالتأكيد ما يجعل من الرواية روايةً [ حقا] ويحُدّ من حريتها”. ما يجيب عليه كونديرا، قائلا:” إن الرواية هي نثر طويل مركّب ينهض على لعبة بشخصيات مختلقة، هذه هي الحدود الوحيدة. وأعني بالتركيب، أن الروائيَّ يقبض على موضوعه من كل الزوايا، بشكل كامل، ما أمكنه ذلك. هكذا فهو يقدم مبحثا ساخرا، محكيا روائيا، مقطعا سير ذاتيا، حدثا تاريخيا، خيالات طائرة، والقوة التركيبية للرواية تجمع بين هذا كله كما لو أنها أصوات بوليفونية[ تعدد أصوات]. إن وحدة الكتاب لا تتولد بالضرورة من القصة محبوكة، يمكنها أن تتأتى من التيمة“. (أنظر: روث. فليب، ” لماذا أكتب” الترجمة الفرنسية، غاليمار، فوليو، 2019).  

ـ هذه الفقرة المسهبة أقدمها هنا لا لأدعم بها لزوما كلاما سيلحق، بقدر ما أريد أن أتخذ منها مدخلا لهذه القراءة، مرجعية ممكنةً ومثمرة أيضا لإنارة عملٍ وطريقة فنية، نهجٍ في كتابة الرواية، لمحاولة مرافقة العوالم الكبرى التي تزخر بها رواية ” جنازة ثانية لعماد حمدي” للروائي وحيد الطويلة(دار الشروق، القاهرة، 2019)، والشخصيات المركزية والمحيطية الفاعلة والمصاحبة، مشتركة جميعها في تركيب عالم كلِّي، حافلٍ، متشابكٍ وعديدِ المحاور، بمنطقٍ ورؤيةٍ راجحتين تَمُدّان هذا العالم ـ العمل، بفرادة ميزت دائما نصوص صاحبه، وزودت قراء الرواية العربية، محترفين وهواة، بمادة ومنظور وأسلوب لا تتكرر وتتطلب منه في كل مرة التوفر على أدوات قراءة لحرث أرض بِكر ومزروعة في آن بكدٍّ واجتهاد، معلومة في روايتين هما اليوم علامة توَسِّعان وتطرِّزان صحيفةَ السرد العربي المعاصر المجدد والمتطور:” باب الليل”(2016) و”حذاء فلليني”(2017). هنا، حيث الكتابة حقلُ تجربة، والسرد دفقُ حكايات، والوصف فرجةٌ على الخلق وطباعهم ورسمٌ للحياة فواجع ومهازل. هنا، حيث تستقل اللغة بوظيفة أدائية وجمالية مسهمةً في بناء نسَق مبنَى القص وهي حاملة لخطابه ودلالته. لا يسوس الطويلة خيل حكي مستعاد شخوصا وأحداثا ومشاعرَ ومعانٍ نمطية ركيكة، فالرواية عنده إمّا خلاقةٌ بفن مولَّد ومكر ثاقب لحياة ثانية أو لا تكون.

     لذلك علينا أن ننتبه، قراءً محترفين وهواة، ونحن عند عتبة” جنازة ثانية لعماد حمدي” إلى ضرورة فرك العيون وشحذ أدوات القراءة من جديد، لكي نتفاعل مع نص، نعم هو يتقدم إلينا مقترحا كاملا، لكن، وهذا جزءٌ من بنيته، ما ينفك على امتداد عملية تكوينه وسيرورته يحرِّضنا على الانتباه ويدعونا إلى الاشتراك في بنائه وترتيبه وتركيبه وفهمه؛ إنه باختصار نص سردي ناقص في كماله، وكامل بنقصانه، ولهذا حديث طويل يمكن أن نجتزئ منه بما يسعف بعض الملاحظات:

ـ  نستمد أولاها من مدخل الحوار سالف الذكر بين العملاقين الروائيين الأمريكي والتشيكي، والذي يضعنا في صلب رهان الرواية الحديثة(رواية الأزمنة الحديثة)، في اهتزازها وتحوّلها من النسق الكلاسيكي إلى نسَق حداثي، بالمعنى القِيمي والاستطيقي، المرتبطين بتصوّر مختلف للإنسان ورؤية الحياة ومفهوم الفن، بالأحرى الأجناس الأدبية ونظُمها، بين الضوابط والإنزياحات، إذ تخلق بدورها ضوابطها. بخلاف كونديرا، فإن الطويلة جنّس كتابه، وسأفترض أنه لم يفعل، لأقل لم يجد بُدّا لداعي( السوق) ولو وُجد في بيئة إبداعية متفتحة وأكبر من مواضعات النشر والذوق العام المحنط، ما أحسبه إلا سار على منوال المعلم كونديرا، يشربان من الكأس نفسها، الأول صرفا، وكاتبنا العربي يشربها ممزوجة، مبتغاه ومنهجه وعطاؤه، وبعربية أليق وأنسب(الضحك والسلوان) يتوسّل إليهما بكم عنوان.

ـ ثانيها، ونحن لا نسعى إلى المقارنة بتاتا، ينهلان من المنبع الأول الذي مثّل أصل السرد التخييلي، وكبرت معه شجرة أنسابه أصولا وفروعا، أعرقُها ذاك الذي رصده ونظّر له كونديرا(فن الرواية1986) وسار على منواله باعتباره أصل المحكي، أنتروبولوجيا وفنيا، يجمعه ثنائي (الدعابة والتهويل) يصبح مثلثا بإضافة الضلع الثالث الذي صنعه ثربانتس في الكيخوطي ( بارديغم الوهم والسخرية)، كل رواية جديرة بهذا التجنيس لا بد أن ترتسم فيها خطوط وسمات هذا المثلث، بالإضافة إلى ما تنحته متفردة تسرد تجربة بمنظور وطريقة.  

ـ ثالثها، الأبرز، أن رواية الطويلة، باختراقات كونديرا وبدونها، تقطع مع السرد الكلاسيكي لا بتطليقه، نبذه، فمن لا يسرد ليس روائيا أصلا، وإنما بصقله وتفكيكه إلى عناصره الأولى هي جماع محافلَ وأدواتٍ، حكياً وأحداثاً وسخريةً وخطابات ولغاتٍ وأساليبَ متعددةٍ حول شخصياتٍ ومن محكياتٍ متنوعة شكلاً تصبّ في النهاية في مجرى، في صهريج كبير يمتلئ بها فيما هي تُغذّيه وتسبح فيه، ما يتوجب على القارئ أن يتابع امتلاءه ويقيس عمقه، ذا ما عوّل عليه صاحب العمل ووضع ثقافته وخبرته العامة ومراسه زيادة عن ما يريد هو من الرواية لا ما يتراكم بلا جدوى في الرفوف، هو تسليط الضوء بكثافة ودقة كشّافة على موضوع طاوٍ لمواضيع، على تيمة كبرى هي ما يعتبرها تمثل” وحدة الكتاب”، لا القصة ذاتها، بالضرورة، بالأحرى الحبكة التشويقية التي اعتاد عليها قارئ غاوٍ ومخدوعٌ  تربّى في حضن هذا النوع . نعم، وحيد الطويلة وريث كونديرا، إنما يلعب لعبته الخاصة، أيضا.

ـ تجسيد اللعبة يتم عبر تمثيلها في عديد ألعاب، وهي مجتمعة تصنع تركيب ما سبق تفكيكه، بالطبع، لكي يتخلّق منه جديد، هو مِن رحِمه، وآتٍ على غير منوال، برهانُ أصالة فن، وحذقُ كاتب في (إعادة تدوير) لما يبدو استُهلك وإذ روح جديدة تنفخ فيه وإذا هو حي آخر. لنبدأ من البداية، نختبر كل عنصر على حدة، سنختصر قسرا، القصة التي ترويها الرواية، ويتناوب على سردها سارد واحد، ومضاعف، ومتعدد، انسجاما مع البنية الحكائية الكبرى مكونة من طبقات، تنضوي بداخلها أخرى دنيا، مُشكلة بناء هرميا أو لعبة قطعة puzzle . أولها يبدأ من ضابط مباحث وينتهي إليه وهو يمشي مشيا حقيقيا في خط سير يبدأ من نقطة أ( ميدان) وينتهي إلى نقطة ب(سرادق عزاء) إنما هو خط في حركة دائبة بين ذهاب وإياب، تارة أفقية، خطوة الضابط الذاهب إلى مقصده، حيث أصل مكمن أزمته، يصل إليه بالاستشراف والإستيهام قبل الوصول الواقعي في نقطة نهاية الحركة والسرد ـ النص معا؛ وتارة، الغالب، عمودية وتهبط في استدارات وحفور، هي بمثابة تمثيل وتوسيع مخاوف شخصية مبرزة أزمتها في الرواية، واستعراضُها هو بناءٌ لموضوعها لا سردٌ لحكاية منتهية من البداية. هو الضابط (فجنون) ترك العمل في البوليس قبل شهور بالأحرى فُصل منه، رأسه تطن بالحوادث محشوة بوجوه المجرمين والمرشدين وخصوصا ( المسجلين خطرا)، وفي طريقه لتقديم العزاء يستيقظ عالم العفاريت المعشش في الرأس وتترى قصصهم بؤرتها المركزية شخصية( ناجح) كبير المسجلين، رقم واحد، مخبر الحكومة وسبب غرقه. ذاهب لتقديم العزاء، متردد، إلى الشخص الذي استخدمه من موقعه ضابط مباحث، اقام معه علاقة بأمر رؤسائه ليكون عين وساعد الأمن في كل ما يحتاج إليه، فهو سيد في قومه( دولته الموازية) يده العليا أتباعا ونسلا من كل الحرف ولكل الجرائم، وصولا إلى ابنه( هوجان) الذي لن يعرف كيف يرث(مجده) فيقتل غدرا، وها هي جنازة عظيمة تقام له يتوافد للعزاء فيها كل القبيلة، ورغم أن(فجنون) فُصل من وظيفته بسبب ناجح، بل لهذا السبب، ولما اشتركا من( عيش وملح) وكي يبعد عنه شبهة الاشتراك في قتل الوريث، قرر أن يقصد سرادق العزاء، مركز عالم وبؤرة رواية، نبع ومصب، وبينهما مياه عميقة وحكايات.   

ـ عالم مثير حقا للصوص والقتلة والنصابين، أعلاهم رتبة المسجلون خطرا” المسجل خطرا هو من يكرر جرائمه مهما نال من عقاب(…) من يصرون على اقتراف فعل ما مهما كان ثمنه، ومهما كان سيّئا في عُرف القانون والمجتمع” وهم” يتحدون دولة المباحث وسلطتها”. للتذكير، إنه عالم مندرج في مدوّنة السرد والحياة الاجتماعية للعرب، قديما أولا، حول حياة من سموا ب” الشطار والعيّارين”(انظر هنا كتاب محمد رجب النجار بالعنوان ذاته ـ عالم المعرفة  ع 45، سبتمبر 1981)؛هم بوصف الجاحظ “اللصوص والصعاليك من الشطار والعيارين والفتيان والزّعار والدّعّار والعيناق والحرافيش وأصحاب المهن المُحَقّرة” مثال لقصصهم في تراثنا العربي(علي الزيبق) و(ألف ليلة وليلة)؛ نمط شائع كذلك في الآداب العالمية، يعرف بنوع(البيكاريسك) ازدهر في إسبانيا في القرنين17 و18(انظر Chandler(F.W). Romance of Roguery ;Part I.The Picaresque Novel in Spain.Newyork . (1961)

لا عجب إذ يرشح وحيد الطويلة نموذجهم شخصيات بطولية مهيمنة في مجتمع يعرفه جيدا وفي مرحلة تاريخية محددة، وإن عدمت الإشارة إليها زمنيا وكنّي عنها، باعتبار هذا النوع الحكائي الروائي، كشكل فني مغلق، أمكنه الظهور والانتعاش في فترات تاريخية  تميزت بتصدع الحكم وتفكك أوصال الدولة واستشراء الفساد وتنازع وتضارب المصالح.. وقد تطور استعمال المصطلح ليطلق ابتداء من الخمسينات ليشمل مواضيع الهامشية واستلاب الإنسان والاضطراب الاجتماعي، ّمواضيع تعبر كلها عن ” وضع إنساني في مرحلة أفول وانحطاط، قريبة من تلك التي أنجبت الرواية البيكاريسكية في إسبانيا” وتبلور عنها ما سمي بالبطل الضد(anti-hero) نقيض موقع ومفهوم البطل المركزي في البيكاريسكية الأم. 

ـ يزاوج وحيد الطويلة بين البطولتين وعوالمهما متنقلا بخفة ويُسر متسلِّلا بين فضاءاتهما، ثقافتهما وقيمهما المهيمنة،، سالكا في المسار الحكائي أولا، الهموم والأزمات، ثانيا، واضعا طرفين، بطليين حدّين نقيضين في الطرفين، ولا تجوز المفاضلة بينهما، هما ضروريان معا لتشكيل هذا العالم الذي تحتفي به الرواية وتحفل بحكايات شخوصه وحوادثه ومعضلته، بتيمته. بطولة فجنون ضابط المباحث المكلف بربط العلاقة مع كبير المسجلين، جسر السلطة مع وسط الجريمة والانحراف، في مهنة إلتحق بها بضغط والده الضابط السابق، بينما هواه في الفن، الرسم، وبذا يعيش إزدواجية وتناقضا يهز باستمرار نفسيته وسلوكه، هو البطل الذي ليس في مكانه الطبيعي أو الصحيح، سيخسر في نهاية المطاف وظيفته على يد السلطة نفسها التي ورطته، بتهمة” إقامة علاقة مع مسجل خطر، بالمخالفة للقواعد الوظيفية واللوائح واحترام المهنة” ولن يربح فنه، هو الرسام عرضة لهزء رؤسائه وزملائه ( يترك شغله ويذهب لحضور جنازة الممثل عماد حمدي، كأنه قدوة لنهاية حياته في بؤس)؛  وبطولة المسجل الكبير الحاج(ناجح) لننتبه للإسم، يسبغ عليه الكاتب ألقابا شتى(أبو المرشدين، الدكتور، الفيلسوف، رئيس الجمهورية الخامسة للمسجلين الخ..) تاب عن المهنة لكن سطوته بلا حدود تمتد من آخر لص ومحتال في دويلة الحشيش والجريمة والاحتيال، إلى أكبر رأس لو شاء في الدولة الحقيقية، هو مرشدها وخادمها، هذه بتلك، قوتان تتساندان.

ـ هما بطلان، وفي الوقت آفلان، مثل وسطهما حيث يحكمان أو يتخبطان، توجد بطولة فجنون(الفنان المجنون) في مكان غير مناسب، ومع الوظيفة تتجلى بوسائط، بشخصيات تجسِّد الرغبة التي يفتقدها هو(الملسوع من دماغه، مركوب من عفاريت)، هي من يملك شغف المهنة وفحولة القوة فتكون الفاعلة، من يحل أسرار الجرائم ويتماهى مع السلطة إلى حد العشق الشهواني (من طراز عبقرينو، باسل،،)، أبطال فجنون الحقيقيون هم (المسجلون خطر). ممثلهم وكبيرهم هو الحاج ناجح. هو أيضا في جَزْر الحرفة( لم يعد يدخل بيده في أي عملية، يكتفي بوضع الخطة) يتجلى في الآخرين، في جيش المحتالين، يده العليا على عالم الحشيش والحشاشين، عُسر المباحث عنده يُسر، قدّم الطويلة لائحة عريضة لنماذج لهم في صيغة بورتريهات بديعة ومفحمة، تشي ببحث واستقصاء دقيقين في عالم واقعي خام، شغل الروائي الجاد والمحنّك، تحتاج لائحة هؤلاء(العيارين والشطار)الجدد إلى دراسة مورفولوجية وسيميائية مستقلة، سيشغف القارئ بشخصيات(شحتة؛ الأصفراني، سيد كبابة، أبو شمس، البيه المفتش المزور)كلهم بمهارة تبرهن على سلطة رئيس جمهورية المسجلين، ما بالك بشخصية(منير) المنسق العام لحفلات المزاج، وعن الفاتنة (أمّ حواء)، هل سمعتم يوما ب” امرأة تحبل من عينيها”(!)، كلهم في خدمة وإمرة ناجح مؤسس حزب الانبساط، شعاره(الجوزة)، تلتقطه الرواية كما ينبغي لها في أفول، وهو يفقد ابنه هوجان ليبدأ الخطر. 

ـ ينبغي أن نعود إلى البداية، لأن الرواية بالرغم ومع كل ما هي مشحونة به من حكايات وشخصيات شطّارية، ما تبثّه من معان وتتحدث من خطابات ولغات وترسم من علامات، تغتني بما هو في مكان آخر، لا يقل جدارة عن الانتباه والتنويه، نعني صناعتها، هندسة كتابتها لتنتسب إلى الرواية وفق نظام، سواء انبنى على قواعد مكرّسة ومألوفة، هنا تسلس قياد قراءتها لارتباطها بشكل سابق؛ وإما فالأدوات وخطاطات العمل السردي المطروقة تَقصُر عن تأطير عامها واحتواء رؤيتها واجتراح مكونات وأبعاد تيمتها المعقدة والمركبة، وهنا ترجح كفة اجتهاد الطويلة في هيكلة طرائق تؤهل إبداعية نصه، على مستويين: إعادة ابتكار موضوعه بالانغماس في معضلات وحوادث زمنه، وسرده بكسر نسق الكرونولوجية ومركزية القصة المحبوكة ومراحلها، ومثله، أولها بدايتها، وخصوصا وصف وتقديم كل كائن وحادثة وشيء بحس الاحتمال ومنظور الشك وفظاظة الوجود والتيه وانعدام اليقين. وهو ما يوائم، باستثناء عناوين وإشارات محدودة، تجريد المكان ولاـ زمنية الرواية ما دام النسق في الجوهر(أليغوريا)، نهج المؤلف في أعمال سابقة، وفي روايته الجديدة يسخِّر أدوات: الإيقاع، الضمائر النحوية، اللغة/ اللغات، وهوية السارد، ليؤهل عمله باستحقاق.

ـ  تمضي الرواية من أول سطر إلى ختامها بخطوات شخصيتها ينتقل من إلى، في خط مستقيم مرة، ومتعرِّج، حلزوني أخرى، كما سبق أن ألمعنا ، إنها تكتب بإيقاع ـ له عديد تعريفات، ليكن نبراً، حركةً منتظمة، تكراراً، هجساً متململا، إدراكها كلها والتنفس بها ـ إيقاع الإيحاء والإشعار بالتردد والإقدام على الخطر: ” إلى اين أنت ذاهب؟ عشت أياما خطرة في حياتك، لكنك الآن أمام خطر من نوع جديد(…) يمشي بقدمين مترددتين إلى سيارته، يقدّم واحدةً ويؤخِّر أخرى.”. بدءا من هذا العنصر، أكبر وأقوى محفل للعمل، تُرسم الطريق وتُفتح الدائرة، ويندلع القلق، ويسري التوتر، وتنطلق القصة وهي تعطى كاملة باقتضاب شديد لترمي الشخصية، ومعها القارئ، في أتون الإحتمال:” سؤال وحيد يكاد يشرخ دماغه: إلى أين أنت ذاهب؟ إلى مسجّل خطر! إلى أخطر الخطرين، ملك الإجرام الذي تُطبخ المصائب في دهاليزه”. لكي يوجد الإيقاع يحتاج إلى ضبطه وقياسه وانتظامه في بنية التكرار مسموعا أو مقروءا أو مضمرا حسب خصائص النص ونوعية الموقف وطبيعة الموضوع. يصاحب خُطى الشخصية(فجنون) وهو ذاهب إلى(سرادق العزاء) مكمن الخطر، يقرَع نذيرا بأفعال الأمر والنهي” تنهّد الآن”؛ “خُذ نَفَساً”؛ تَراجَع خطوتين”؛” لا تتلفت يمينا” ؛” لا تتلفت يمينا أو يسارا” ويرافق سمع وبصر القارئ، يشوّر طريق الخطر التي يخوض:” إحترس. إحترس أيها القارئ. قف مكانك. ثبٍّت قدميك في الأرض جيدا. إسحب نفسا عميقا(…) قلت لك قف مكانك..”.

ـ إنها كتابة مسموعة، ولكي يعلو فيها الإيقاع وتذهب بإنذار الخطر وتهويل أجواء المخاطر بالفاعلين والأفعال حدا أقصى من الإيهام والتوتر، يعزّزه الكاتب باختيار(استراتيجي) يملي استخدام ضمير المخاطب، ستتعدى وظيفتها الصرفية، ليست إبدالا، كما تستخدم أحيانا بقلة خبرة ودون مسوِّغ، لضمير المتكلم. في هذه الرواية، سنجده ضميرا للخطاب شكلا، فقط، وإلا فهو مضاعف، بل متعدد، يُضمر في إجرائيته ضميري المتكلم والغائب أيضا ويكتسي بهما لحما وعظما، فكأنه ضمير، صوت جمعي، يستبطن الذات وينزاح عنها، ذلك الانزياح الذي يصنع الحياد مع ال(أنا) التي تصرّ على حضورها فتخترق عنوة قماط المخاطب في تناوب خطابي وظيفي لنصبح أمام زوج(أنت + أنا) ثم ثلاثي ( أنا+ أنت+ أنا)، وأخيرا رباعي( أنت + أنا + أنا2 ) حين نلاحظ ضمير المخاطب يفقد السيطرة على مؤدّاه النحوي ويعمل عمل (المونولوغ الداخلي interior monologue)، يُرجَع للنص فهو حافل بالأمثلة.

ـ بإمكاننا أن نقدم تأويلات إضافية عن شكل وموقع الضمير، إذ اختياره لا يخلو من قبِل الكاتب من مجازفة، أو مغامرة، ربما محسوبة، الأفضل الانتقال لما بعده عليه المعوّل، يخص وضع(statut) السارد في هذه الرواية، وهو طرح سبقنا إليه المؤلف بالاحتراز والسؤال الاستفهامي والإنكاري وعبارات(خانات) تمويه وتشكيك بنبرة خطابية، جهورية، تبدو لا تحتمل اللبس، وتترك بابه مواربا في آن. إنه طرح مختلف عما انهمكت فيه السرديات الحديثة منذ نهاية الستينات وبلور نحوها الدقيق، خصوصا باجتهادات جيرار جنيت المحددة لمواقع وهوية السارد في السرد تعيِّنه شكلا، لا تستثمر هذا لأي غرض دلالي ـ إيديولوجي، فللدلالة نحوها الخاص. بالإمكان أن نلعب اللعبة ونصنع الترسيمات، لولا أن الطويلة أراحنا منها مؤقتا، واستدعانا إلى لعبته الخاصة، وهي ماكرة ولا تخلو من الغرض، نتركه لنباهة القارئ. القارئ الشريك في هذا العمل حتى العنق، مستدعى بإلحاح من طرف المؤلف ومورّط بالرغم منه. يوجد هنا شيء يذكّرنا ب( J.D.Salinger) الذي تظهر صورة الكاتب في أعماله وهي تدخل في حقل رؤية القارئ، بما يقيم علاقة معينة بين وضع ومسار السارد كشخصية في التخييل وبين وضعه بوصفه شخصا حرفته كاتب.

ـ لتبيان هذا الموقف، عندنا ومن بداية الرواية خطاب موجه إلى القارئ بعد تنبيهه: ” إحترس أيها القارئ” ملفوظه:” لا يعنيك أن تعرف من يتحدث معك، الراوي أم الضابط[ فجنون]، أنت في شأن آخر”. ثم ينتقل إلى مُرسَلٍ إليه آخر، إلى الضابط نفسه:” طهِّر روحك من أدران المحبة والطيبة قبل أن تدخل[ إلى السرادق]” ربما هو القارئ ضمنا، ما يلبث أن يعود إليه( من هو؟) مباشرة ليفطِّنه إلى المسار الحكائي بعد أن أوقف خط السرد الخطيِّ، وهو قليل، في عشرات الوقفات تُرسم بورتريهات المسجلين والمرشدين وأفعالهم:” ربما تكون الآن أيها القارئ أمام باب السرادق..”؛ ” ربما قلت لك أيها القارئ أن صلاح جاهين كان يستغرق ليلة كاملة في رسم أنف سعاد لطفي..” لنفترض أن المتلفظ هنا ثلاثة: المؤلف والسارد والشخصية[ فجنون] التي تتبنى الإرسالية” في سياق واحد:” أنهيت لوحتي (…) أدور في الغرفة وأرقص”. تتم العودة بعد انفصال مؤقت بمثابة لازمةleitmotiv   كوحدة إيقاعية في الإيقاع الكلي الساري : ” لن أحذِّّرك هذه المرة أيها القارئ..”.

ـ  ينتفض الرواي( السارد) ليكشف هوية السارد، ليسترد في نهاية المطاف ما يعتبره سلطته وحده، وهي كذلك إذ إنما يُعير لسانه حين يتحدث آخرون، فيخاطبنا، القارئ مباشرة، ليضع النقاط على الحروف ويعيد القصة ومحمولها ومسؤوليتها إلى نصابها كما يراه، ممهدا بملفوظ قابل للاحتمال، أولا: ” إنتبه معي أيها القارئ، هذا الضابط ربما [ التشديد من عندنا] كان يضحك علينا، أو أن خياله هو الذي رسم هذه الحكاية؟”، ومنه ينتقل رأسا إلى تلفّظ قطعي ومُبرم يُزيح الشك ويُلغي أيَّ احتمال، ومن ضَرْبِه الخيال، يخاطبنا:” خذ مني [أيها القارئ، الكلام الصحيح، أنا الراوي، أنا من يعرف،[التشديد من عندنا]، وإذا كنت قد تركتُ هذا الضابط [ فجنون] يتكلم، فالسبب أنني أردت أن أعرف خبيئته”.

إن تحديدَ موقع الضمائر، وتنازعَ هوية الراوي، وتحمّلَ مسؤولية السرد، هو سلطة بالتأكيد، على جدارتها أكبر من أن يشتملها وصف في خطاطة شكلانية، وتَحصُر حدودَها ترسيمةٌ نحوية، وتؤشِّرها دالاًّ علامةٌ سيميائية ـ وهي كذلك ـ ، فللشكل محتواه، وللمحتوى الشكلُ الأنسبُ له، من أدواته وتجلياته الكبرى اللغةُ التي كُتب بها هذا العمل، حيث تتعدد اللغات، وتتقاطع الأصوات وتصطفق النبرات، متفاوتةَ الأداء، ذات طبقات، علوّاً وخفوتاً، همساً وجهراً، إعلاناً وإضماراً، تصريحاً وإيحاءً، حسب الشخصيات والمشاعر والمواقف، وكلُّه متناغم، معزوفٌ بإيقاع لا يتوقف تتناوب على صُنعه لغاتٌ ناطقةٌ بالنيابة عن شخصيات هي عمدا أقرب إلى الظلال، لأنها فعلا تستظل بشجرة الشخصية المحورية الثانية، الحاج ناجح، هو نفسُه تكتب سيرتَه وتُفصِح عن أشجانه وأزمته القصوى، فقدان ابنه غيلة..

ـ إنها لغة جامعة ، من مستويات، متعددة السجلات، كتابية أو شفاهية، هي قول فصيح في صيغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، بأبسط تعريف للفصاحة. تعدد الضمائر في العمل وبوليفونيته من خصائص هذه اللغة، تتكون من المفردة والصوت والنبرة، نفضت غبار القاموس الطباعي وامتشقت زيادة على (المطاوي) معجمها لسانا ودرعا لأصحابها في حرب حياة ضروس، تتواجه فيها دولتان وسلطتان ورؤيتان للعالم، نساؤها ورجالها، الرسمية، قاموسها مسكوك، والثانية، النقيض الموازية، دولة المسجلين والمرشدين، فتلعب بالمخدرات بأنواع وأسماء: (برشام حضر كفنك، المزاج، أبو صليبة، أبو مفتاح) وهذا طبيعي إذ ” المنطقة كلها تعمل بالحشيش، تدخنه كأنها تؤدي الزكاة”. هكذا تكتسب الكلمات ملامح المتلفظين بها وفجاجة الواقع الذي يتمرغون في مستنقعه. إن للابتذال والفظاظة و(الغروتيسك)جماليتها. هي ليست قميصا يوضع على جسد النص بل لحم حي بندوب غائرة تخرط الوجه والأعضاء، ولكي توفر الرواية شعريتها تحتاج إلى أن الكسوة الجمالية الملائمة لموضوعها ومعناها، وللمواقف الدرامية المشخّصة، فتستطيع أيضا أن تنزاح عن (نثرية) الكتابة واليومي، لترقى إلى مقام الشعر تنقل لنا به حالة الحاج ناجح في ذروة أزمته وانحداره النهائي إلى الأفول، وهو يستقبل المعزين في مقتل ابنه في السرادق الذي ومن البداية إلى النهاية المفتوحة تتبأر فيه مختلف مكونات وروافد الرواية:” هائم في ملكوته، لا يريد لهذه الليلة أن تنتهي، لا يريد لليل أن يغادر رغم أنه ليل وسيمضي، لا يريد أن يواجه نفسه في الصباح، لا يخشى أحدا، بل يخشى على نفسه من نفسه، من ضوء النهار”.

ـ عندي، يدخل هذا كله أخيرا في مضمار اللعب، حيث جوهر كتابة الرواية ومجتلى تصورها وفعلها، يحضر ويشغل السرد فيها لعبة جدية، مصوّبة، تتعدد صيغُه وتنفتح على إمكانات مقعَّدة مجربة، وأخرى تجريبية، كلاسيكية وتحديثية، هذا العمل كتب في هذا التيار، باختيار فني حاسم وقاه من استنساخ من حرثوا هذه الأرض في الرواية العربية، المصرية خاصة(خيري شلبي،على سبيل المثال) ومنحه صوته المتفرد، بنوع ما يرويه من حكايات، ويعرضه من أحداث، ويستبطنه من مشاعر، ويكشف عنه من خبيء ويفضحه من مستور، وينتهكه من محرم، ويعرّيه من صفيق وقبيح، وينشره على حبال، وكل ما في رواية وحيد الطويلة تظافر وتناغم ليصل به إلى كرشندو لعبة التخييل بالقول على لسان الراوي:” صدقني[ أيها القارئ] وأنت حر طبعا، ربما لم يحدث كل ما سبق، وربما حدث”. واضح، ، يحاول الكاتب أن يتنكر ولن يلبث ينقض إنكاره، سيعلن عن نفسه بمواربة من خلف (فجنون)، في ملحق الرواية المعنون ب” أربع لوحات ورقصة، زعانف توجّب الاستغناء عنها، إنما لكل كاتب اختياره، وقراره، أبى الطويلة إلا أن يثبته بصيغة الفصول اللوحات الملحقة (وهي ميتا ـ نصية) يقول لمن يعنيه الأمر إن كل ما رويته حدث، وأنني غرضي الموضوع مثل كونديرا الذي كتب دائما ملتزما ضد التوتاليتارية والاستبداد، وبالإبداع دائما

    كتب قاسم حداد في سيرته:” ليس بهذا الشكل، ولا بشكل آخر“:” يأتي الكاتب من حدود الأشكال إلى حرية الكتابة، نحو لذة المجازفة ونشوة الاكتشاف، ليشهر جمالية المغامرة، وعندما لا يصدر الكاتب ـ في النص ـ عن تصور/ مثال، سابق يقلده أو ينسخ على منواله، فإن مسؤولية الإقناع تتوقف عندئذ على طاقة الابتكار والجمال، حيث ينبغي على الأدوات والعناصر المبتكرة أن تكون قادرة على بعث الروح الإنساني في شكل يليق بالحرية التي يزعمها، وينبغي أن يتشكل هذا الفعل في كل لحظة”. (مسارات للنشر والتوزيع، الكويت، ط مزيدة ومنقحة. 2015. ص 23).

    

مقالات من نفس القسم