الكراهية.. ونصوص أخرى

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

الأنبياء جميلون. المؤمنون خطرون.

***

حطت فكرة على رؤوس الجمع ثم اصطادت رأسا، اقتلعتها، ومضت. في اليوم التالي، كانت الرأس معلقة على عمود إنارة أمام مقهى، تبتسم في نزق لجمال الفكرة، بينما يبتسم الجالسون تدبرا للعظة.

***

الكره كالحب، يولد لأشياء تافهة ومن لاشيء ومن الحب نفسه، كما يولد الفطر في الرغيف. لا يحتاج أبدا لشيء عميق أو جارح كي يبدأ ولا ينتظر معركة ليباغتك، بل يسقط مع المطر، يسكن الورود، الضحكات، اليقين المسالم، ينغرس بين التحام عاشقين، يظلل الجلسات الصافية على المقاهي، ينسل من غبار المصافحة، الشهوات البريئة وأحلام العظمة الطيبة. شائع كنزلات البرد، متواضع كناسك. ملازم كظل، حاضر كملاك حارس.

ومن نفسه يولد، كل يوم. فالعداوات الصغيرة التي تتراكم خطوة تلو خطوة، وتختبيء كالعناكب في الزوايا، وكالوسخ أسفل السجادة، دون أن تنتبه لها، لأنك دهست جنيا دون قصد فأغضبت العشيرة، أو لأنك أغفلت “صباح الخير أثناء مرورك” أو لأنك كنت تحب القتل في فتوة صباك، أو لأنك كنت تظن أنك خلقت ملكا على هذا العالم، أو لأن مملكتك ليست من هذا العالم. لأنك أصبت شيئا أسرع، أو أخطأته أسرع. لأن رائحتك تثير النفور وتظنها الشذى، لأن شذاك يكشف العطن، لأن خطوك كان ثقيلا على أرواح بالغة الخفة. لأنك كنت خفيفا كطير هذا المساء وسط أرواح يثقلها العطب، لأنك أشحت النظر، أو لأنك تفحصت الجريمة مليا، لأنك أنهكت بحرا بخيبة الأمل، أو لأن عجوزا تحرقه الرغبة وتقتله العنة، أو لأن شابا تقتله الفتوة ويزعجه ذكر الموت. أو لأن معزولا يبصق على المارة، بينما التوق للاندماج هو جرحه السري، أو لأن نزوة العزلة صارت مستحيلة، لأنك غردت خارج السرب، لأنك غردت مع السرب، لأنك طلبت من النار التهام المدينة كي تشعل سيجارتك، لأنك عطلت الريح كي لا تشعر بالبرد، لأن حماسك عدته الشمس قلة ذوق وظن القمر أن ضجرك ضراط. لأنك كنت شجاعا، لأنك خفت، خنت، جبنت، أقدمت، انتصرت، انهزمت، لأنك كنت هنا ولأنك لم تكن. تلك العداوت الصغيرة التي تُصنع من لا شيء وكل شيء، ستصير سحابة سوداء وضخمة، ستتفتت إلى موتى مبثوثين في الطريق. لا. لن يحدث شيء سوى تبادل الأقنعة، والكراهية بمحبة بالغة، فنحن نعرف أن مخالب الكراهية، هي الأثر الوحيد الصامد ضد الزمن.

 أنت تسكن صدور أعدائك، أفضل مما تسكن صدور محبيك، يخشون على صورتك من التحطم والنسيان، فيدخرون لها أفضل البراويز، ويضعونها في أفضل الأركان، من نكرههم ويكرهوننا، هم أوسمتنا السرية، ونجومنا في صحراء شاسعة من التيه، فبهم فقط، نقبض على شيء وسط فراغ الجنون والخذلان.

ورغم وصايا الإله أن المؤمن هو من أحب، فالكارهون يؤمنون بقوة الكلمة على المحو، كمحو سدوم وعمورة بكلمة إلهية، ويخترعون أسماء بديلة للكفر والخطيئة مطلقة وعصية على الامساك أو الدفاع ، كالجهل، لون البشرة، التفاهة، الموسيقى، الركاكة، الشاعر المفضل، الخمر، الجنس، البن، الملابس، شكل الأنف، اللثغة، اللعثمة، التهتهة، الشتاء والصيف. ألف سبب في عريضة ترفع سرا إلى الإله كي يدرج أعدائهم تحت بند العصاة، فيمحوهم. الأسباب وحدها هي ما تدنس براءة الكره، وتفسد طويته. فعلى عكس التصورات الرومانتيكية عن الحب، لا أحد يقول: “أنا أكرهك. فقط وبدون أسباب. من أجل لا شيء. لو فهمت لما أكرهك حقا، هل يعد ذلك كرها؟” الأسباب؟ بها تُهلك الكراهية أرواح حامليها، وتحول جمالها الوحشي إلى خطيئة ادعاء النزاهة، وقوة الإيمان إلى شك في أن ذلك العطر الغرائبي للكراهية هو هبة سماوية كالماء والهواء والشمس وغيمة تستر حقيقتنا كبراز فوق أطباق من ذهب.

الكراهية؟ إنها يد الإله الممدودة لبؤسنا اليومي، الدرع الأخير ضد هباء موتنا ونكتة الهاوية، وشعلة ذواية في سراديب الحزن، وعبره نخبر عن أنفسنا أشياء حلوة، لا وجود لها. فنولد كل يوم من لا شيء.

الكراهية نفي للذات في آخر، لنولد عبره. أليس هذا هو الحب؟

***

لحظات التنوير قد تأتيك أحيانا على هيئة مقصلة. ألم خاطف تكمن رقته في حسمه. كأن تكتشف مثلا أن الذنب الذي كشط حلاوة عمرك واستنزفك تماما كان محض ألعاب لغوية، بنية من وهم. وأن ما عرفته، تعرفه، ستعرفه ليس إلا أمراض أسلوبية شائعة. سينهار حينها كل شيء، وينبت مكانه لا شيء جديد، لا ندري كنهه، ولا مساره ولا إلام يفضي.

لو تخيلت للحظات مالذي ينكشف لرأس مقطوعة لتخيلت نورا يشبه الظلمة ورنين التخلص من الرجاء، يتبعه صمت الخلاص. إدراك لا ينفع، لا يسعى لأي فعل، لا تغيير الماضي أو الحاضر أو المستقبل. يتداخل الفردوس والجحيم عبر لحظة الإدراك تلك، يصيران شيئا واحدا، مزيج يفضي إلا لا شيء، فيسقط الخير والشر، وتمحى الفوارق الفاصلة بين القديس والشيطان.

لحظات التنوير؟ كيف يمكن التخلص من روح العظة إلا برأس يائسة، رأس مقطوعة.

****

الكتابة جميلة. الكتاب خطرون. يحملون خرافات كثيرة عن ما يجب أن يكون عليه” الكتبة الحقيقيون”. يؤمنون بالكتابة، كنص واحد طويل، ككتاب مقدس، لا تنتهي صفحاته أبدا، يمتد قسرا في نصوص الآخرين، لن ينقصهم العنف، لو امتلكوا السلاح لفعلوها.

أفكر في كاتب، أشعث مترب، مجذوب خرافي في شوارع المدينة، يفر عاريا من نصوصه القديمة، تلحق به في النهاية وتبدأ في أكله حيا، ثم تمحو كلماته، كلمة وراء كلمة، ونصا وراء نص. فيفكر أثناء سلخ فروته، ممتثلا للنشوة، أن ما يحدث في تلك اللحظة هو أفضل نصوصه.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون