“الكتابة من الشمال إلى اليمين”.. فصل من كتاب “اعترافات روائي شاب” لـ امبرتو إكو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 27
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

اعترافات روائي شاب

Confessions of a Young Novelist

أمبرتو إكو

Umberto Eco

ترجمة

ناصر الحلواني

[email protected]

1

الكتابة من الشمال إلى اليمين

عنوان هذه المحاضرات هو ” مذكرات روائي شاب ، وربما يتساءل المرء: لماذا “شاب”، وأنا أخطو إلى العام السابع والسبعين من عمري. لكن ما حدث هو أني نشرت روايتي الأولى ” اسم الوردة” عام 1980، ما يعني أني بدأت حياتي كروائي منذ ثمانٍ وعشرين سنة فقط. وهكذا، فإني أعتبر نفسي روائيا شابا، وبالتأكيد، روائيا واعدا، لم ينشر سوى خمس روايات حتى الآن، وسينشر العديد غيرها خلال الخمسين عاما القادمة.

هذا العمل المتواصل لمَّا ينتهي بعد (وإلا ما كان متواصلا) ولكني آمل أن يكون قد تراكم لدي ما يكفي من الخبرة كي ألقي بعض الكلمات حول طريقة كتابتي.

وتماشيا مع الروح العامة لـ “محاضرات ريتشارد إلمان”[1] سوف أركز على رواياتي لا على مقالاتي، رغم أنني أعتبر نفسي أكاديميا محترفا، أما كروائي فأراني مجرد هاو.

بدأت كتابة الروايات في طفولتي. كان العنوان هو أول ما يرد على خاطري، وغالبا ما كنت استوحيه من كتب المغامرات الرائجة في تلك الأيام، والتي كانت تشبه قصص “ قراصنة الكاريبي[2]. وعلى الفور كنت أقوم برسم كافة أحداث الرواية، ثم أشرع لاحقا في كتابة الفصل الأول. ولكن، حيث أنني كنت أكتب بحروف كبيرة داكنة، محاكيا الكتب المطبوعة، فقد كان ينتابني الإعياء بعد صفحات قليلة، ومن ثَم أتخلى عن الأمر برمته.

كان كل عمل من أعمالي، بالتالي، عبارة عن تحفة فنية غير مكتملة، مثل سيمفونية شوبيرت الناقصة.

عندما بلغت السادسة عشرة، بدأت، بالطبع، في كتابة الأشعار، مثل أي مراهق. لا أذكر ما إذا كانت الحاجة للشِّعر هي ما أثمرت حبي الأول (الأفلاطوني وغير المعلن)، أم العكس. لقد كان المزيج كارثيا. ولكن، كما كتبت ذات مرة ـ وإن في شكل مفارقة تلفظت بها إحدى شخصياتي الروائية: ـ هناك نوعان من الشعراء: شعراء جيدون، وهم الذين يحرقون قصائدهم حينما يبلغون الثامنة عشر من عمرهم، وشعراء سيئون، وهم الذين يستمرون في كتابة الشعر مدى حياتهم.(1)

ما هي الكتابة الإبداعية؟

حين صرت في الخمسين من عمري، لم أشعر بالإحباط ، مثلما يحدث مع الكثير من الباحثين، من حقيقة أن كتابتي لا تنتمي إلى النوع الإبداعي من الكتابة.(4)

لم أفهم مطلقا لماذا يُعتبر هوميروس[5] كاتباً إبداعياً ولا يُعتبر أفلاطون[6] كذلك. لماذا يُعدُّ الشاعر السيئ كاتبا مبدعا، بينما لا يُعدُّ كاتب المقالات العلمية كذلك؟

في الفرنسية، يمكن التمييز بين مبدع écrivain: شخص يُنتج نصوصا “إبداعية” كالروائي والشاعر، وبين كاتب écrivant: شخص يسجل الوقائع، مثل كاتب البنك، أو رجل شرطة يسجل تقريرا عن قضية جنائية.

لكن إلى أي أنواع الكتَّاب ينتمي الفيلسوف؟

يمكننا القول: أن الفيلسوف كاتب محترف، يمكن اختصار نصوصه أو ترجمتها إلى كلمات أخرى من دون أن تفقد كل معانيها، بينما لا يمكن لنصوص الكاتب المبدع أن تُترجم معانيها بنحو تام، أو أن تعاد صياغتها في كلمات أخرى. لكن على الرغم من تأكد صعوبة ترجمة الشعر والروايات، فإن تسعين بالمائة من قرَّاء العالم قد قرأوا “الحرب والسلام[7] و”دون كيشوت[8] مترجمتين، وأحسب أن أعمال تولوستوي المترجمة هي أكثر إخلاصا للأصل من أي ترجمة إنجليزية لأعمال هيدجر[9] أو لاكان[10]. هل لاكان أكثر “إبداعا” من سرفانتس؟

لايمكن أن نعبر عن هذا الاختلاف بحسب الوظيفة الاجتماعية لنص محدد؛ إن نصوص جاليليو، بالتأكيد، على درجة كبيرة من الأهمية الفلسفية والعلمية، ولكنها تُدرس ، في المدارس الثانوية الإيطالية، كأمثلة للكتابة الإبداعية الجيدة ـ كعمل فني أصيل في أسلوبه.

لنفترض أنك قيِّم مكتبة، وقررت أن تضع ما يسمى بالنصوص الإبداعية في الحجرة (أ)، وما يسمى بالنصوص العلمية في الحجرة (ب)، فهل ستضع مقالات أينشتين مع “رسائل إديسون إلى رعاته”، في مجموعة واحدة، و” آه سوزانا[11] مع “هاملت[12] في المجموعة الأخرى؟

اقترح البعض، كمعيار للتفرقة، أن الكاتب “غير الإبداعي” أمثال: لينوس[13] وداروين، إنما أرادا نقل معلومات حقيقية عن الحيتان أو القِرَدَة، أما حين كتب ملفيل[14] عن الحوت الأبيض، وحكى بوروس عن “طرزان ابن القِرَدَة“، فقد تظاهرا فحسب بأنهما ينقلان الواقع، ولكنهما، في الحقيقة، اخترعا حيتانا وقِرَدَة ليس لها وجود، ولم يعبأ أحدهما بالحقيقي منها.

هل بإمكاننا القول، بدون أي شك، أن ملفيل، حين روى تلك القصة عن حيتان لا وجود لها، لم يقصد قول أي شبئ حقيقي عن الحياة والموت، أو عن الغرور والعناد البشريين؟

إنها إشكالية ؛ أن تصفه بأنه “مبدع” ذلك الكاتب الذي يخبرنا، ببساطة، بأشياء تخالف الواقع. لقد قال بطليموس[15] شيئا غير حقيقي عن حركة الأرض، هل ندعي حينئذ أنه أكثر إبداعا من كبلر[16]؟

يقع الاختلاف، بالأحرى، في الطرق المتباينة التي يمكن أن يستجيب بحسبها الكتَّاب لتأويلات نصوصهم؛ فإذا قلت لفيلسوف، أو لعالِم، أو لناقد فني : ” أنت كتبت ذا وذاك “، فيمكن للمؤلف دوما أن يرد بحسم قائلا : ” لقد أسأت فهم نصي، أنا أقصد العكس تماما”، لكن إذا طرح أحد النقاد تأويلا ماركسيا لرواية: “البحث عن الزمن المفقود[17] ـ وقال: إنه في ذروة أزمة انحلال البرجوازية فإن الانغماس التام في مجال الذاكرة، قد أدى، بالضرورة، إلى عزل الفنان عن المجتمع ـ فإن هذا التأويل قد لا يروق لبروست، ولكن قد يكون من الصعب أن يدحضه.

كما سنرى في محاضرة لاحقة، فإن الكتاب المبدعين ـ كقرَّاء مدركين لأعمالهم ـ يملكون، بالتأكيد، الحق في تحدي التأويل غير ذي الصلة بأعمالهم.

ولكن ينبغي عليهم، عموما، احترام قرائهم، بما أنهم قد ألقوا بنصوصهم إلى العالم، كرسالة وضعت في زجاجة وألقيت في البحر، إذا جاز التعبير.

بعدما أنشر نصا عن السيميوطيقا[18] فإني أكرِّس وقتي إما للإعتراف بأنني كنت مخطئا، أو لإثبات أن أولئك الذين لم يفهموا النص، على النحو الذي عنيته، قد أساءوا قراءته.

وعلى العكس من ذلك، بعد نشري لرواية، فإني أشعر مبدئيا بأنه يجب عليَّ، من الوجهة الأخلاقية، ألا أتحدى تأويلات الناس لها (وألا أشجع أيَّا منها).

ذلك يحدث ـ وهنا يمكننا تمييز الفارق بين الكتابة الإبداعية والكتابة العلمية ـ وذلك لأنه في المقال النظري يريد المرء عادة أن يوضح فرضية معينة، أو أن يقدم إجابة لمسألة محددة.

بينما في حالة القصيدة أو الرواية، فإن المرء يرغب في أن يصور الحياة بكل تناقضاتها. يريد المرء حينئذ أن يَنظِم سلسلة من التناقضات، وأن يجعلها جلية ومؤثرة. ويطلب المبدعون من قرائهم محاولة الوصول إلى حل، إنهم لا يطرحون صيغة قاطعة (عدا كتَّاب الفن الهابط والكتَّاب العاطفيين، الذين يهدفون إلى تقديم التعزية الرخيصة).

وهذا هو سبب قولي، حين كنت ألقي كلمة حول روايتي الأولى عند صدورها: أنه يمكن للروائي، أحيانا، أن يقول شيئا لا يستطيعه الفيلسوف.

وهكذا، حتى كان عام 1978، عنها أحسست أني قد أتممت تحقيق كوني فيلسوفا وعالمًا سيميائيًا، حتى أني كتبت، ذات مرة، بلمسة تعجرف أفلاطوني: أن الشعراء والفنانين، عموما، سجناء أكاذيبهم، مقلدون لأمور مقلَّدة، بينما كنت، كفيلسوف، حائزا لمفاتيح عالم المُثُل الأفلاطوني الحقيقي.

يمكن القول، إذا استثنينا الإبداع، أن العديد من الباحثين قد أحسوا بالدافع إلى سرد قصص، وأسِفوا لعدم استطاعتهم تحقيق ذلك ـ وهذا هو السبب في أن أدراج مكاتب العديد من أساتذة الجامعة تمتلئ بروايات سيئة لم تُنشر. ولكني، عبر السنين، أشبعت رغبتي السرية في السرد الروائي بطريقتين مختلفتين:

أولا، بالانخراط في السرد الشفاهي، فكنت أقص الحكايات على أطفالي (لذا أصبحت في حيرة بعدما كبروا، وتحولوا من سماع القصص الخيالية إلى سماع موسيقى الروك)؛ ثانيا: صوغ كل مقال نقدي في قالب سردي.

حينما ناقشت أطروحتي للدكتوراه عن “الجماليات في فلسفة توما الأكويني” ـ وهو موضوع مثير للخلاف، إذ كان العلماء في ذلك الوقت، يعتقدون عدم وجود تأملات جمالية في مجموع أعماله الضخمة ـ اتهمني أحد الأساتذة المناقشين بنوع من “المغالطة السردية”؛ حيث قال: حين يشرع الباحث الناضج في عمل بحث ما، فإنه، حتمًا، يتقدم في بحثه عبر مسار التجربة والخطأ، يطرح ويرفض الافتراضات المختلفة، ولكن في نهاية البحث يكون قد تم هضم جميع هذه المحاولات، وعلى الباحث أن يعرض الاستنتاجات النهائية فقط، ثم أضاف قائلا: أنني، على النقيض من ذلك، قد تناولت قصة بحثي كما لو كان رواية بوليسية.

وكان الاعتراض وديا، وأوحى لي بفكرة جوهرية، مفادها: أنه ينبغي لكل النتائج البحثية أن “تُسرد” بهذه الطريقة.

يجب أن يكون كل كتاب علمي أشبه ما “بالرواية البوليسية”[19]، تقرير عن السعى إلى ما يشبه الكأس المقدسة Holy Grail[20]. وأحسب أنني قد حققت ذلك في كل أعمالي الأكاديمية اللاحقة.

كان يا ما كان

في بداية عام 1978، أخبرتني صديقة لي، تعمل في دار نشر صغيرة، أنها كانت تطلب من الكتاب غير الروائيين ( الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، والسياسيين، وأمثال هؤلاء ) أن يكتب الواحد منهم قصة بوليسية قصيرة.

للسبب الذي ذكرته توا، أجبتها بأني لا أهتم بالكتابة الإبداعية، وتأكدي من عدم قدرتي التامة على كتابة حوار جيد، وانتهيت (لا أدري لماذا) إلى القول، بنحو مستفز، بأنه إن كان ينبغي علي أن أكتب رواية بوليسية، فستكون في خمس مائة صفحة على الأقل، وستقع أحداثها في أحد أديرة العصور الوسطى. فقالت تلك الصديقة أنها لا تسعى إلى عمل رديء غير متقن، وانتهى لقاؤنا عندئذ.

بمجرد عودتي إلى المنزل، أخذت في تفتيش أدراج مكتبي مستعيدا بعض الخربشات المكتوبة منذ أعوام سابقة ـ قطعة ورق كتبت عليها أسماء بعض الرهبان. ومعنى ذلك أنه في أكثر أنحاء روحي سرية كانت تنمو، بالفعل، فكرة كتابة رواية، ولكني لم أكن واعيا بها. عند هذه النقطة، أدركت أنه سيكون أمرا جيدا أن يموت راهب بالسم بينما يقرأ كتابا غامضا، كان هذا كل شيء. وبدأت في كتابة” اسم الوردة“.

بعدما تم نشر الكتاب، كثيرا ما كان الناس يسألونني عن سبب قراري كتابة رواية، وكانت الأسباب التي ذكرتها ( والتي كانت تتنوع بحسب حالتي ) كلها حقيقية على الأرجح ـ أي أنها جميعا كانت زائفة. أخيرا، أدركت أن الإجابة الصحيحة الوحيدة هي أنني شعرت، في لحظة معينة من حياتي، بدافع يحثني على فعل ذلك ـ وأحسب أن هذا تفسير معقول وكاف.

كيف تكتب

عندما كان مقدمو البرامج يسألونني : “كيف تكتب رواياتك؟” فعادة ما أقطع الحديث عند هذه النقطة وأجيب : “من الشمال إلى اليمين”.

أدرك أن هذه إجابة غير مرضية، ويمكنها أن تثير بعض الدهشة في البلاد العربية وإسرائيل[21]. أما الآن فإن لدي الوقت لتقديم إجابة أكثر تفصيلا.

أثناء كتابة روايتي الأولى، تعلمت بعض الأشياء:

أولا: أن “الإلهام” كلمة سيئة، يستخدمها المؤلفون المخادعون ليبدوا ذوي مكانة فنية عالية. وكما جاء في القول المأثور : العبقرية : عشرة بالمائة إلهام وتسعون بالمائة جهد. وقد ذُكر أن الشاعر الفرنسي لامارتين وصف الظروف التي كتب فيها واحدة من أفضل قصائده، فزعم أنها جاءته كاملة في لحظة نورانية، ذات ليلة فيما كان يجوب الغابة. بعد موته، عثر أحدهم، في غرفة مكتب لامارتين، على عدد مثير للذهول من مسودات القصيدة ذاتها، التي كتبها، ثم أعاد كتابتها على مدار السنين. قال أول النقاد الذين عرضوا رواية” اسم الوردة أنها كُتبت تحت تأثير إلهام إشراقي، وذلك، بسبب صعوباتها المفاهيمية واللغوية، الموجهة، فقط، لقلة من السعداء.

عندما لاقى الكتاب نجاحا ملحوظا، وبيعت منه ملايين النسخ، كتب نفس الناقد لتدبير مثل هذا العمل الرائج والممتع والأكثر مبيعا، فلا شك، أنه اتبع وصفة سرية.

بعد ذلك قالوا أن مفتاح نجاح الكتاب برنامجا حاسوبيا ـ ناسين أن أول حاسوب شخصي به برنامج للكتابة قد ظهر، فقط، في بداية الثمانينيات، عندما كانت روايتي تُطبع بالفعل. ففي أعوام 1978 ـ 1979، كان كل ما يمكنك أن تجده، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، هو أجهزة كمبيوتر صغيرة ورخيصة من إنتاج شركة تاندي، ولم يكن هناك من يمكنه استخدامها في كتابة أي شيء أكثر من رسالة.

في وقت ما، بعد ذلك، منزعجا قليلا من تلك الادعاءات الحاسوبية، صغتُ وصفة حقيقية لكتابة عمل يحقق أعلى المبيعات، باستخدام الحاسوب:

قبل كل شيء فإنك تحتاج إلى حاسوب، أمر واضح، وهو عبارة عن آلة ذكية تقوم بالتفكير لك. وقد يُعد ذلك تقدما حاسما بالنسبة لبعض الناس. وكل ما تحتاج إليه هو برنامج من عدة أسطر، يمكن حتى لطفل أن يفعل ذلك. ثم يقوم المرء بتغذية الحاسوب بمحتويات مائة أو نحو ذلك من الروايات، والأعمال العلمية، والإنجيل، والقرآن، وباقة من أدلة الهاتف ( مفيدة جدا بالنسبة لأسماء الشخصيات ). ولنقل، شيء مثل 120000 صفحة. بعد ذلك، باستخدام برنامج آخر، تجمع بعشوائية، أو بكلمات أخرى، تخلط كل هذه النصوص معا، وتقوم ببعض التعديلات ـ على سبيل المثال حذف كل حرف (e) ـ من أجل أن تحصل، ليس على رواية فحسب، بل على رواية أشبه بأعمال بيريك[22] الخالية من حروف معينة[23]. عند هذه النقطة، تضغط مفتاح “طباعة”، وحيث أنك قد حذفت كل حروف (e) فما سيخرج سيكون أقل من 120000 صفحة. وبعد أن تقرأها بعناية، عدة مرات، واضعا خطوطا تحت الفقرات المميزة، تذهب بها إلى المحرقة. ثم تجلس، ببساطة، تحت شجرة، مع قطعة من الفحم ولوح رسم، من نوع جيد، في يدك، وتطلق لعقلك العنان، وتكتب سطرين ـ مثل : “القمر عالي في السماء / وللغابة حفيف”. ربما لا يكون ما ينشأ في بادئ الأمر رواية، بل بالأحرى من شعر الهايكو الياباني[24] وبالرغم من ذلك، فإن الأمر المهم هو البدء. (25)

إذا تحدثنا عن تواتر الإلهام، فقد استغرقني العمل في كتابة “اسم الوردة عامين فقط، لسبب بسيط؛ وهو أني لم أكن في حاجة لإجراء بحوث تتعلق بالعصور الوسطى. كما ذكرت آنفا، فإن أطروحتي لنيل الدكتوراه كانت حول جماليات العصور الوسطى، كما أنني قمت بدراسة إضافية كرستها للعصور الوسطى، فعلى مدار الأعوام قمت بزيارة الكثير من الأديرة الرومانسكية[26]، والكنائس القوطية[27]، وهكذا.

عندما قررت كتابة الرواية، بدا الأمر وكأني فتحت خزانة كبيرة، حيث كنت أراكم ملفاتي الخاصة بالعصور الوسطى لعهود. كل هذه المادة كانت متوفرة لدي، في متناول يدي، ولم يكن علي إلا أن أنتقي ما أحتاجه.

بالنسبة للروايات اللاحقة، كان الأمر مختلفا (رغم أن اختياري لموضوع محدد إنما يكون بسبب كونه مألوفا لدي). ويوضح ذلك السبب في أن رواياتي الأخيرة استغرقت وقتا طويلا ـ ثمان سنوات لأجل بندول فوكو، ست سنوات لأجل “جزيرة اليوم السابق، وكذلك لأجل باودولينو. واستغرقت أربع سنوات فقط لأجل كتابة” اللهب الغامض للملكة لوانا، بسبب أنها تتعلق بقراءاتي حينما كنت طفلا، في الثلاثينيات والأربعينيات، وقد كان لدي الاستعداد لاستخدام الكثير من المواد القديمة، التي في منزلي، مثل الرسوم الهزلية، والتسجيلات، والمجلات، والجرائد ـ باختصار مجموعتي الكاملة من ذكرياتي، وأسباب حنيني، وتوافهي.

بناء عاَلم

ما الذي أفعله خلال أعوام الحمل الأدبي؟

أجمع الوثائق، أزور أماكن، وأرسم خرائط، أسجل تصميمات المباني، أو السفن، كما في حالة رواية “جزيرة اليوم السابق، كما أقوم بعمل رسوم تخطيطية لوجوه الشخصيات. بالنسبة لرواية ” اسم الوردة فقد قمت بعمل لوحات فنية لوجوه كل الرهبان الذين كتبت عنهم.

لقد قضيت أعوام الإعداد هذه فيما يشبه القلعة المسحورة ـ أو، إذا كنتم تفضلون ذلك، في حالة انسحاب توحدي، لم يكن أحد يعرف ما الذي أفعل، حتى أفراد أسرتي.

كنت أعطي انطباعا بأني مشغول بالكثير من الأشياء المختلفة، ولكني كنت دائم الإنشغال في صيد الأفكار، والصور، والكلمات لأجل روايتي، فإذا رأيت سيارة عابرة في الطريق، أثناء كتابتي عن العصور الوسطى، فيحدث أن أتأثر بلونها، فإني أسجل هذه التجربة في دفتر ملاحظاتي، أو، ببساطة، في عقلي، فقد يلعب هذا اللون، لاحقا، دورا في وصف منمنمة فنية.

عندما كنت بصدد التخطيط لرواية “بندول فوكو“، كنت أقضي الليالي المتتالية، حتى لحظة الإغلاق ، أذهب وأجيئ عبر ممرات المعهد الوطني للفنون والحِرَف[28]، حيث تقع بعض أحداث قصتي، حتى أتمكن من وصف سير كازاوبون[29] الليلي عبر باريس، من المعهد الوطني للفنون والحرف إلى ميدان دي فويس[30]، قضيت عددا من الليالي متجولا عبر المدينة، بين الثانية والثالثة صباحا، وأنا أُملي، على جهاز تسجيل صغير، كل شيء يمكن أن أراه، حتى لا أخطئ في أسماء وتقاطعات الشوارع.

حينما كنت أجهز لكتابة “جزيرة اليوم السابق ذهبت، بطبيعة الحال، إلى بحار الجنوب ، بالضبط إلى الموقع الجغرافي الذي حدده الكتاب، لرؤية ألوان البحر والسماء في ساعات مختلفة من اليوم، والتلاوين الشفيفة للأسماك والشعاب المرجانية.

وكذلك قضيت، عامين أو ثلاثة أعوام في دراسة رسوم ونماذج السفن السائدة في تلك الفترة، لأعرف كيف كان حجم القُمرة أو الكابينة، وكيف يمكن للشخص أن يتحرك من إحداها إلى الأخرى.

بعد نشر رواية “اسم الوردة كان ماركو فيريري هو أول مخرج سينمائي يقترح تحويل الرواية إلى فيلم. قال لي : ” يبدو كتابك وكأنه قد تم تصوره بشكل صريح كسيناريو سينمائي، حيث يتسم الحوار بالطول الزمني المناسب”.

في البداية، لم أفهم السبب، تذكرت بعد ذلك أنني قبلما أبدأ الكتابة، كنت قد رسمت المئات من المتاهات وتخطيطات الأديرة؛ لذا، علمت كم من الوقت تستغرقه شخصيتان للذهاب من مكان إلى آخر، فيم يتحاورون أثناء ذهابهما، هكذا، فإن تصميم عالمي الروائي فرض الطول الزمني للحوار.

بهذه الطريقة، تعلمت أن الرواية ليست مجرد ظاهرة لغوية.

في الشعر، يصعب ترجمة الكلمات ؛ لأن المعتبر هو جَرْسُها[31]، إضافة إلى معانيها المتعددة والمقصودة، كما أن انتقاء المفردات هو ما يحدد المحتوى، بينما في السرد، تكون لدينا حالة مغايرة ؛ إنه الكَوْنُ الذي بناه المؤلف، والأحداث التي جرت فيه، وهذا هو ما يملي عليه الإيقاع، الأسلوب، بل وحتى اختيار المفردات.

السرد محكوم بالقاعدة اللاتينية: “إلزم الموضوع، وستنثال الكلمات”، بينما يجب علينا، في الشعر، أن نبدل ذلك إلى :”إلزم الكلمات، وسينثال الموضوع”.

السرد، أولا، وقبل أي شيء، هو مسألة كونية؛ لكي تسرد شيئا ما، تبدأ بما يشبه الخالق الذي يُنشئ عالما ـ وينبغي لهذا العالم أن يكون محدد التفاصيل إلى أقصى درجة، بحيث يمكنك التجوال في أرجائه بثقة تامة.

اتبعت هذه القاعدة بدقة، فعلى سبيل المثال، عندما أقول، في رواية “بندول فوكو أن دارا نشر مانوزيو وجاراموند تقعان في مبنيين متجاورين، وبينهما ممر، فإني قد أنفقت الكثير من الوقت في رسم العديد من التخطيطات، متدبرا الكيفية التي يبدو عليها ذلك الممر، وما إذا كان يجب وجود بعض الدرجات لتعويض الفارق بين ارتفاع المبنيين. في الرواية، ذكرت الدرجات بإيجاز، ومر بها القارئ مرور الكرام، أظن، بدون أن يمنحها كثير اهتمام. لكن بالنسبة لي فقد كانت أمرا حاسما، وإذا لم أكن قمت بتصميمها فما كنت لأواصل كتابة قصتي.

يذكر الناس أن لوتشينو فيسكونتي[32] قام بشيء مشابه لذلك في أفلامه. فعندما يستدعي السيناريو من شخصيتين أن تتحدثا عن صندوق مجوهرات، فإنه يصر على أن يحتوي الصندوق، رغم أنه لن يُفتح أبدا، على مجوهرات حقيقية. وإلا فإن الممثلين سيؤدون أدوارهم بأداء أقل إقناعا.

من غير المفترض لقرَّاء رواية “بندول فوكو أن يعرفوا التصميم الدقيق لمكاتب دار النشر، على الرغم من أن بنية عالم الرواية ـ الإعدادات الخاصة بأحداث وشخصيات القصة ـ جوهرية بالنسبة للكاتب، وغالبا ما يجب أن تظل قليلة الوضوح بالنسبة للقارئ. في رواية “اسم الوردة“، على أية حال، هناك رسم تخطيطي للدير في مقدمة الكتاب. وهو مرجع مخادع للكثير من الروايات البوليسية التقليدية التي تتضمن رسما تخطيطيا لمسرح الجريمة (مثل: مقر الكاهن، قصر مالك الضيعة)، وهذا نوع من العلامات الساخرة للواقع، أقرب إلى “الدليل” المبرهن على أن الدير موجود بالفعل. ولكني رغبت في أن يتصور قرائي، بوضوح، كيف تتحرك شخصياتي في الدير.

بعدما نُشرت رواية جزيرة اليوم السابق، سألني ناشري الألماني عما إذا كان ذا نفع أن تتضمن الرواية رسما تخطيطيا يبين تصميم السفينة. كان لدي مثل هذا الرسم التوضيحي، وقد استغرقني الكثير من الوقت في تصميمه، مثلما كان الأمر مع الرسم التخطيطي للدير لرواية “اسم الوردة. لكن في حالة رواية الجزيرة فقد رغبت في أن يقع القارئ في حيرة ـ وكذا بطل الرواية، غير القادر على إيجاد طريقه في هذه السفينة المتاهة، التي يبدأ في استكشافها بعدما يتقرب بإراقة الكثير من الخمر. وهكذا، كنت في حاجة إلى إرباك قارئي فيما أحتفظ بأفكاري واضحة ـ وأشير دوما، وأنا آخذ في الكتابة، إلى الفضاءات الدروسة بدقة حتى آخر ملليمتر.

أفكار موحية

سؤال آخر غالبا ما يوجه إليَّ، وهو: “أي فكرة تقريبية، أو خطة تفصيلية، تشغل عقلك عندما تشرع في الكتابة؟” فقط، بعد روايتي الثالثة، أدركت تماما أن كل رواية من رواياتي إنما تنبثق من فكرة موحية أصغر قليلا من مجرد صورة. في كتابي “تأملات في اسم الوردةذكرت أني قد بدأت كتابة الرواية بسبب “أنني رغبت في قتل ناسك بالسم”. الواقع، أنا لم أرغب في تسميم ناسك ـ أعني، أنني لم أرد أبدا أن أقتل أي شخص بالسم، سواء كان ناسكا أو عالمانيا. لكنني، ببساطة، كنت مأخوذا بتصور أن ناسكا يموت بأثر السم بينما يقرأ كتابا. ربما كنت أتذكر تجربة مرت بي في عمر السادسة عشر: كنت أزور حينها ديرا بندكتيا[33] (دير سانتا سكولاستيكا في سوبياكو)،سرت عبر الأروقة القروسطية، ثم ولجت إلى مكتبة معتمة، حيث وجدت، على مائدة القراءة، كتاب “أعمال القديسين[34] مفتوحا. تصفحت المجلد الضخم في سكون عميق، فيم تنسرب بعض شعاعات ضوء عبر زجاج النوافذ الملونة، لابد وأني أحسست بشئ كهزة إثارة. بعد أكثر من أربعين عاما، انبثقت هذه الإثارة من لاوعيي.

كانت تلك هي الصورة الموحية. أما الباقي فقد جاء رويدا رويدا، أثناء سعيي الدؤوب لأجل الوصول إلى معنى لهذه الصورة. وقد تجلى بذاته، تدريجيا، بينما أنقِّب في نتاج خمس وعشرين عاما من الكروت القديمة والمسوَّدة حول القرون الوسطى، والمقصود بها، أصلا، غرض مغاير تماما.

مع رواية “بندول فوكو كانت الأمور أكثر تعقيدا؛ فبعد الانتهاء من كتابة “اسم الوردة انتابني إحساس بأنني قد وضعت في روايتي الأولى (وربما الأخيرة) كل شيئ، حتى بنحو غير مباشر، يمكن أن أقوله عن نفسي. هل كان هناك أي شيئ آخر، يخصني حقا، يمكنني الكتابة عنه؟ انسابت صورتان إلى ذهني.

الأولى: كانت لبندول ليون فوكو[35]، الذي رأيته قبل ثلاثة عشر عاما في باريس، والذي ترك انطباعا هائلا في نفسي. هزة إثارة أخرى كانت قد طُمرت طويلا في روحي. الصورة الثانية: كانت لي وأنا أعزف الترومبيت في جنازة أقيمت لأعضاء من المقاومة الإيطالية[36]. إنها قصة حقيقية لم أتوانى عن تكرار ذكرها، لأني وجدتها جميلة ـ وأيضا ، لأنني أدركت ، بعدما قرأت أعمال جيمس جويس[37] لاحقا، أنني مررت بتجربة ما أطلق عليه جويس في روايته( ستيفن بطلا[38]): تجليا.

هكذا ، قررت أن أحكي قصة تبدأ بالبندول، وتنتهي بعازف ترومبيت صغير في مقبرة، ذات صباح مشرق. لكن كيف لي الانتقال من البندول إلى الترومبيت؟ ثمانية أعوام استغرقتها الإجابة على هذا السؤال، وكانت الإجابة هي الرواية ذاتها.

بالنسبة لرواية جزيرة اليوم السابق“، فقد بدأت من سؤال طرحه عليَّ صحفي فرنسي: “لماذا تصف الأماكن بهذه الدقة العالية؟” لم ألتفت مطلقا لأسلوبي في وصف الأماكن، لكن بالتفكير في ذاك السؤال، فهمت ما قد قلت ـ أعني، أنك إذا قمت بتصميم التفاصيل الكاملة لعالم ما، فبإمكانك أن تصفه باعتباره مكانا، حيث أنه يتجسد أما ناظريك.

هناك صنف أدبي تقليدي يسمى التجسيد اللغوي للصورة ekphrasis [39] ، وهو عبارة عن وصف عمل فني معين (لوحة أو تمثال) بدقة عالية، حتى يمكن، لمن لم يشاهدوا ذلك العمل، أن يروه كأنه قائم أمام أعينهم. مثلما كتب جوزيف أديسون في كتابه “مُتَع التخيل(1712): “إذا اختيرت الكلمات بدقة، فإنها تحوز قوة داخلية، حتى لنجد أن الوصف يقدم لنا أفكارا أكثر حيوية مما تقدمه رؤية الأشياء نفسها”. لقد قيل أنه عند اكتشاف تمثال لاوكون[40] في روما عام 1506، عرف الناس أنه ذلك التمثال اليوناني الشهير؛ بسبب الوصف الذي كتبه بليني الكبير في كتابه “التاريخ الطبيعي.

فلم لا أحكي قصة يلعب فيها المكان دورا هاما؟ إضافة إلى ذلك (قلت لنفسي) ففي روايتيَّ الأوليتين تكلمت كثيرا عن الأديرة والمتاحف ـ وهذا عن أماكن ثقافية مغلقة. يجب أن أحاول الكتابة عن أماكن طبيعية مفتوحة. ولكن كيف يمكنني أن أملأ رواية بمثل هذه الأماكن الهائلة الاتساع ـ الطبيعية ولا شيئ آخر؟ بأن أضع بطل روايتي في جزيرة خالية.

في الوقت نفسه، كنت مفتونا بإحدى تلك الساعات التي تبين الوقت في كل بقعة على وجه الأرض، وبها علامة تشير إلى خط التوقيت الدولي[41] على المائة وثمانين خط زوال. كلنا يعلم بوجود هذا الخط، لأن الجميع قرأوا كتاب جوليوس فيرن “حول العالم في ثمانين يوما، ولكننا، غالبا، لا نفكر فيه.

حسنا، فقد كان على بطل روايتي أن يكون غرب هذا الخط، ويرى جزيرة جهة الشرق، حيث كانت في اليوم السابق. لا يمكن أن يتحطم قاربه على شاطئ الجزيرة نفسها، بل يجب أن تتقطع به السبل على مرمى البصر منها، ويجب أن ألا يكون قادرا على السباحة، ولذلك سيكون مجبرا على أن يرنو بنظره إلى الجزيرة القاصية عنه مكانا وزمانا.

أظهرت ساعتي أن تلك البقعة الحاسمة تقع عند جزر أليوتيان[42]، ولكني ما كنت أعلم كيف أجعل الشخصية تعلق في هذا المكان. هل بإمكاني أن أجعل قارب بطلي يتحطم مصطدما بمنصة بترول؟ ذكرت آنفا أني أحتاج، حين الكتابة عن مكان محدد، أن أذهب إليه، ولكن فكرة الذهاب إلى منطقة شديدة البرودة مثل جزر إليوتيان لم تكن مقبولة لي على الإطلاق.

لكن بعدما فكرت في المسألة مليا، وتصفحت أطلس الخرائط، اكتشفت أن خط التوقيت الدولي يمر أيضا عبر أرخبيل فيجي. جزر جنوب المحيط الباسيفيكي لها روابط قوية بالكاتب روبرت لويس ستيفنسون[43]. أصبحت الكثير من هذه الأراضي معروفة للأوربيين في القرن السابع عشر، أنا أعلم ثقافة الباروك[44] جيدا ـ تلك كانت أزمان الفرسان الثلاثة والكاردينال ريتشيليو[45]. كان علي البدء، وبعد ذلك، فإن الرواية سوف تمضي بنفسها.

ما أن ينتهي المؤلف من تصميم عالمه السردي، فإن الكلمات ستنثال، وستكون على النحو الذي يتطلبه هذا العالم. لهذا السبب، فإن الأسلوب الذي استخدمته في رواية “اسم الوردة كان أسلوب مؤرخ قروسطي: دقيق، بسيط، سطحي عند الضرورة (ناسك متواضع في القرن الرابع عشر لن يكتب مثل جويس، ولن تكون له ذاكرة بروست). من ناحية أخرى، فحيث من المفترض أنني أنسخ من إحدى ترجمات القرن التاسع عشر لنص قروسطي، فإن النموذج الأسلوبي كان، بنحو غير مباشر، هو لاتينية الرواة التاريخيين القروسطيين في ذاك الوقت، أما النموذج الأكثر مباشرة فهو أسلوب المترجمين المعاصرين لأعمالهم.

في رواية بندول فوكو” لزم أن يكون هناك دور لعدد من اللغات: لغة منطقة آجليي [شمال إيطاليا] المثقفة والعتيقة، واللغة البلاغية شِبه الفاشية الانونزية[46] لأردنتي، واللغة الأدبية الجافة والمثيرة للسخرية لملفات بيلبو السرية (ما بعد حداثية حقا في استخدامها النهم للاقتباسات الأدبية)، إن أسلوب جاراموند المبتذل[47]، والحوار الفاحش للمحررين الثلاثة، خلال تخيلاتهم المستخفة بالعواقب، حيث يمزجون الإشارات الرصينة بالتوريات العابثة. لم تستند تلك “القفزات في اللائحة” إلى اختيار أسلوبي بسيط، ولكنها تحددت بحسب طبيعة العالَم الذي تجري فيه الأحداث، وبحسب الطبيعة النفسية للشخصيات.

في رواية “جزيرة اليوم السابق كانت الحقبة الثقافية هي العامل المحدِّد. لم تؤثر في الأسلوب فحسب، بل في نفس بنية الحوار الجاري بين السارد والشخصية، فيم يُناشد القارئ باستمرار للمشاركة كشاهد متواطئ في ذلك الحوار. نشأ هذا النوع من الاختيار الماوراء سردي[48] من واقع أن على شخصياتي التحدث بأسلوب باروكي[49]، رغم أنني شخصيا لا أستطيع ذلك. لذا، كان يجب أن يكون لدي راو متعدد الأحوال المزاجية والمهام: فأحيانا يكون ساخطا من التجاوزات اللفظية لشخصياته، وفي أحيان أخرى يصير هو ضحيتهم، وفي غيرها، يحاول تخفيف تلك التجاوزات بالاعتذار إلى القارئ.

حتى الآن، فإني قلت: (1) نقطة بدئي هي فكرة موحية أو صورة، و(2) أن بنية العالم السردي هو ما يحدد أسلوب الرواية. وتأتي مغامرتي الرابعة في كتابة الرواية: باودولينو ، لتُناقض هذين المبدأين. ففيما يخص الفكرة الموحية: فقد ظل لدي عدد من هذه الأفكار، لعامين على الأقل ـ وإذا كان هناك العديد من الأفكار الموحية، فتلك علامة على أنها أفكار عقيمة. عند نقطة معينة قررت أن يكون بطل روايتي صبي مولود في الإسكندرية، مسقط رأسي، والتي بُنيت في القرن الثاني عشر، وحاصرها فريدريك بارباروسَّا. إضافة إلى ذلك، فقد أردت أن يكون باودولينو ابنا لجاجلياودو الأسطوري، الذي قام، بإحباط خطة بارباروسا في اجتياح المدينة، بواسطة خدعة ماكرة، كذبة، حيلة، وإذا أردتم أن تعرفوها فاقرأوا الكتاب.

كانت رواية باودولينو فرصة طيبة للعودة إلى العصور الوسطى، الأثيرة لدي، إلى جذوري الشخصية، إلى افتتاني بتلفيق الأحداث. لكن هذا لم يكن كافيا. لم أكن أعلم كيف أبدأ، أي أسلوب أستخدم، أو من هو بطلي الحقيقي.

فكرت في حقيقة أنه في هذه الأيام، في مسقط رأسي، لم يعد الناس يتحدثون باللغة اللاتينية، بل استخدموا لهجات جديدة، شكلت بنحو ما اللغة الإيطالية المعاصرة، التي كانت حينئذ في مهدها. غير أنه لم يكن لدينا سجلات للهجة المستخدمة في تلك الأعوام، في شمال شرق إيطاليا. بالتالي، صرت حرا في اختراع تعبيرات شعبية، لغة افتراضية بسيطة تخص منطقة وادي بو، في القرن الثاني عشر، وأحسب أني قد أجدت صياغتها، إذ أخبرني صديق لي، يقوم بتدريس مقرر دراسي عن تاريخ اللغات الإيطالية، أن لغة باودولينو ـ على الرغم من أن أحدا لا يمكنه أن يؤكد أو أن يدحض ابتكاري ـ غير بعيدة الاحتمال.

هذه اللغة، التي جعلت مترجمي أعمالي الشجعان يواجهون مشاكل ليست هينة، أوحت إليَّ بالطبيعة النفسية لبطل روايتي، باودولينو، وجعلت من روايتي الرابعة تحولا إلى دنيا العوام من الناس، بالنسبة إلى رواية ” اسم الوردة. فالأخيرة كانت قصة مثقفين يتحدثون بأسلوب راق، بينما “باودولينو تتعامل مع فلاحين، محاربين، وشعراء يتصفون بالمجون[50]. وهكذا فإن الأسلوب الذي تبنيته هو الذي حدد القصة التي سأحكيها.

ينبغي لي الاعتراف، على أية حال، أن رواية ” باودولينو، تقوم، أيضا، على صورة أولى مثيرة للمشاعر؛ فلطالما كنت مفتونا بالقسطنطينية ، التي لم أرها مطلقا، ولكي أجد مبررا لزيارتها، احتجت إلى أن أحكي قصة عن هذه المدينة، وعن الحضارة البيزنطية. لذلك ذهبت إلى القسطنطينية، واستكشفت سطحها البادي، وكذا ما تحته من طبقات، ووجدت صورة البداية لقصتي: لقد أحرق الصليبيون المدينة عام 1204.

القسطنطينية آخذة في الاشتعال، وشاب يختلق الأكاذيب، وإمبراطور جرماني، وبعض المتوحشين الأسيويين، وها قد صار لديك الرواية. أعترف أنها لا تبدو كوصفة مقنعة، ولكن بالنسبة لي فقد أدت عملها.

يجب أن أذكر هنا أنه بالقراءة المتبحرة حول الثقافة البيزنطية، اكتشفت نيكيتاس إكسونياتيس، وهو مؤرخ يوناني لهذه الفترة الزمنية، وقررت أن أحكي القصة برمتها في صورة تقرير يقدمه باودولينو ـ كاذب مزعوم ـ إلى نيكيتاس. كان لدي أيضا بنائي الماوراء سردي: قصة يكون فيها نيكيتاس، بل والسارد والقارئ أيضا، غير موقنين بما يرويه باودولينو.

قيــود

قلت آنفا أنني ما إن أجد الصورة الموحية ، فإن القصة تتابع تقدمها ذاتيا. هذا حقيقي ولكن إلى مدى معين. فلكي تُمكن القصة من المضي قدما، فعلى الكاتب أن يفرض بعض القيود.

القيود أمر جوهري في كل محاولة فنية. المصور الذي يقرر استخدام ألوان الزيت لا ألوان التمبيرا[51]، وأن يرسم على القماش وليس على الجدار، المؤلف الموسيقي الذي يختار مقام معين، الشاعر الذي يختار نظما إيقاعيا معينا، أو التفعيلة اليونانية الأحادية عشرة وليس التفعيلة السداسية السكندرية، جميع ذلك يؤسس لمنظومة من القيود. كذلك فعل الفنانون الطليعيون، الذين بدوا وكأنهم يتجاوزون القيود؛ ولكنهم، ببساطة، يؤسسون قيودا أخرى، لا يلاحظها أحد.

أن تختار الأبواق السبعة في سِفر الرؤيا كثيمة لأحداث متوالية، مثلما فعلت في “اسم الوردة، هو قيد. البعض الآخر قد يجعل أحداث القصة تقع في وقت محدد بإحكام، لأنه، في فترات تاريخية محددة، يمكنك أن تجعل بعض الأشياء تحدث، ولا يمكنك في غيرها. مما يُعد قيدا أن تقرر، مجاراةً للهواجس الغامضة لبعض شخصياتي، أن رواية “بندول فوكو” في حاجة إلى أن تتكون من مائة وعشرين فصلا بالتحديد، لأنه يجب تقسيم القصة إلى عشر أجزاء، لتصبح مثل التجليات النورانية العشرة للكابالا[52].

قيد آخر في رواية “بندول فوكو“؛ إذ كان على الشخصيات أن تعايش احتجاجات الطلبة عام 1968. غير أن بيلبو حينئذ كان يسجل ملفاته على الحاسوب ـ والذي يلعب دورا أساسيا في القصة، عبر الاستلهام الجزئي لطبيعة نظامه الرقمي والعشوائي ـ وعلى ذلك فإن الأحداث النهائية يمكن أن تقع، فقط، في بداية الثمانينيات، وليس قبل ذلك؛ إذ أن أول حاسوب شخصي، يتضمن برنامجا لمعالجة الكلمات، كان قد بدأ تسويقه في إيطاليا عام 1982ـ1983. وحتى ينصرم الوقت من عام 1968 إلى عام 1983 اضطررت إلى إرسال بطل روايتي إلى مكان آخر، أين؟ أرجعتني ذكرياتي عن بعض الطقوس السحرية التي شهدتها إلى البرازيل، حيث جعلت كازاوبون يعيش لأكثر من عشر أعوام. رأى البعض في ذلك استطرادا طويلا، أما بالنسبة لي (ولبعض القراء الخيِّرين) فقد كان ذلك أمرا أساسيا، لأن ما حدث في البرازيل هو نوع من هلوسة الشعور المسبق بما سيحدث لشخصياتي فيما بقي من الكتاب.

إذا كانت شركتي الكمبيوتر الشخصي: آي بي إم، وآبل، قد بدأتا في تسويق معالج كلمات جيد، قبل ذلك الوقت بست أو سبع سنين، لجعل هذا روايتي مختلفة. فما كانت البرازيل لتوجد في الرواية ـ ومن وجهة نظري، فإن ذلك كان سيُعد خسارة كبيرة.

قامت رواية جزيرة اليوم السابق على سلسلة من القيود الزمنية. على سبيل المثال: أردت لبطل روايتي، روبرتو، أن يكون في باريس يوم موت ريتشيليو (4 ديسمبر 1642). هل كان من الضروري لروبرتو أن يكون حاضرا لموت ريتشيليو؟ أبدا، فإن روايتي ستظل كما هي، حتى وإن لم يرى روبرتو روتشيليو في نزعه الأخير، على سرير الموت. إضافة إلى ذلك، فحينما ضمَّنت هذا القيد، لم يكن لدي فكرة عن وظيفته الممكنة. كل ما أردته هو تصوير ريتشيليو وهو على شفا الموت. ببساطة كانت هذه سادية مني.

غير أن هذا القيد قد ألزمني بحل معضلة. كان على روبرتو أن يصل إلى الجزيرة في شهر أغسطس من العام التالي؛ لأن هذا هو الشهر الذي زرت فيه الجزر، بإمكاني أن أصف شروق الشمس، في قلب سماء يغشاها الليل، في هذا الموسم فقط. لم يكن من المستحيل أن تبحر سفينة شراعية من أوروبا إلى ميلانيزيا[53] في ستة أو سبعة أشهر، لكن عند هذه النقطة كان علي أن أواجه صعوبة هائلة؛ بعد أغسطس، كان على شخص ما أن يعثر على يوميات روبرتو فيما بقي من السفينة التي أقلته. غير أن من المحتمل أن يصل المكتشف الألماني آبل تاسمان إلى جزر فيجي قبل يونيو ـ أي قبل وصول روبرتو. وهذا يفسر التلميحات التي زججت بها في نهاية الفصل، لأقنع القارئ بإمكانية أن يمر تاسمان بالأرخبيل مرتين، من دون أن يسجل الزيارة الثانية في سجل السفينة (لهذا، فكلا من المؤلف والقارئ يتم حثهما على تخيل لحظات صمت، مؤامرات، وأحوال غامضة)، أو أن القبطان بلييه قد رسي على الجزيرة، فرارا من تمرد السفينة باونتي (فرضية إضافية مذهلة، ووسيلة جيدة وساخرة للمزج بين عالمين نصيين).

تعتمد روايتي على العديد من القيود الأخرى، ولكن لا يمكنني الكشف عنها جميعا. لكي تُكتب رواية ناجحة، فعلى المرء أن يحتفظ بوصفات معينة سرا.

بالنسبة لرواية “باودولينو ، قلت أني أردت بدء القصة بحريق القسطنطينية، عام 1204. وحيث أن مقصدي أن يقوم باودولينو بتزوير رسالة منسوبة إلى يوحنا الكاهن[54]، وأن يكون له دور في تأسيس الإسكندرية، كان عليَّ أن أجعل مولده نحو عام 1142، وهكذا يكون في الثانية والستين من عمره عام 1204. بهذا المعنى، كان على القصة أن تبدأ من نقطة النهاية، إذ يحكي باودولينو عن مغامراته السابقة، عبر سلسلة من استرجاعات الذاكرة. لا مشكلة.

غير أن باودولينو يجد نفسه في القسطنطينية في طريق عودته من مملكة يوحنا الكاهن. الآن، فإن الخطاب الزائف للكاهن ـ من الوجهة التاريخية ـ قد تم تزويره أو إشاعته نحو عام 1160، وفي روايتي يكتب باودولينو خطابا ليقنع فريدريك بارباروسا بالتقدم نحو المملكة الغامضة. هكذا، فحتى لو كان على باودولينو قضاء خمسة عشر عاما، أو نحوها، مسافرا إلى المملكة، والبقاء هناك، والهروب من آلاف المغامرات، فليس بإمكانه أن يبدأ رحلته الطويلة تلك قبل عام 1198 (أيضا، فإنه من المقرر تاريخيا أن بارباروسا تحرك جهة الشرق في هذا العام فقط). إذن، مالذي أجعل باودولينو يفعله بين عام 1160 وعام 1190؟ لم لا يستطيع أن يبدأ رحلة بحثه مباشرة، بعد نشر الخطاب؟ كان ذلك أشبه إلى حد ما بأمر الحاسوب في رواية “بندول فوكو“.

هكذا، كان لزاما علي أن أجعله مشغولا، فجعلته يداوم على تأجيل إقلاعه. كان علي أن أخترع سلسلة من الحوادث لكي يصل أخيرا مع نهاية القرن. غير إنه بفعل ذلك وحده، فإن الرواية تخلق ـ ليس في باودولينو فحسب بل وفي قراءها ـ وخز الرغبة. يتوق باودولينو إلى المملكة، لكنه بنحو ثابت يؤجل بحثه. لذا فإن مملكة يوحنا الكاهن تنمو كغاية لشوق باودولينو، وأيضا، آمل، كغاية لرغبة القارئ أيضا. مرة أخرى، مميزات القيود.

تشفير مزدوج

أنا لا أنتمي إلى تلك العصابة من الكتاب السيئين، الذين يقولون أنهم يكتبون لأنفسهم فقط. الشيئ الوحيد الذي يكتبه الكتاب لأنفسهم هو قائمة المشتريات، التي تساعدهم في تذكر ما يرغبون في شرائه، ومن ثم يلقون بها. كل ما سوى ذلك، حتى قائمة الغسيل، هي رسائل موجهة إلى شخص ما آخر. هي ليست مناجاة، بل حوارات.

الآن، توصل أحد النقاد إلى أن رواياتي تتضمن سمة نموذجية من سمات ما بعد الحداثة ـ أعني: تشفير مزدوج.(55)

كنت واعيا بذلك منذ البداية ـ وذكرت ذلك في كتابي “تأملات حول اسم الوردة”ـ أنه، كيفما تكون ما بعد الحداثة، فإني أستخدم تقنيتان نموذجيتان من تقنيات ما بعد الحداثة. إحداهما: المفارقة التناصية: اقتباسات مباشرة من نصوص شهيرة أخرى، أو إحالات، أقل أو أكثر شفافية، إلى تلك الاستشهادات. ثانيها: الماوراء سردي: ايحاءات بأن النص يشكل طبيعته بنفسه، بينما نرى المؤلف يتحدث مباشرة إلى القارئ.

“التشفير المزدوج” هو الاستخدام المتزامن للمفارقة التناصية، والمناشدة الضمنية للماوراء سردي. تمت صياغة مصطلح “التشفير المزدوج” بواسطة المعماري شارلز جينكز، الذي يرى أن المعمار ما بعد الحداثي “يتحدث إلى مستويين، على الأقل، معا: إلى المعماريين الآخرين، ومعهم أقلية من المهتمين بالمعاني المعمارية بشكل خاص، وإلى عامة الناس، أو السكان المحليين، المشغولون بأمور أخرى معنية بالراحة، والبناء التقليدي، وطريقة الحياة”(56) ويضيف في تعريفه، قائلا: “إن المبنى ما بعد الحداثي، أو العمل الفني، إنما يخاطب، على نحو متزامن، الأقلية من النخبة، مستخدما شيفرات “عالية”، وجماهير العامة، مستخدما شيفرات شائعة”.(57)

سأستشهد بمثال للتشفير المزدوج من رواياتي: تبدأ رواية “اسم الوردة بحكاية الكيفية التي صادف فيها المؤلف نصا قديما، من نصوص العصور الوسطى. تلك حالة صارخة للمفارقة التناصية، حيث نجد أن الحدث العادي (أي: المألوف أدبيا) للعثور على المخطوطة، ذو أصل جليل. المفارقة هنا مزدوجة، كما أنها أيضا ذات مسحة ما وراء سردية، إذ أن النص يدَّعي أن المخطوطة كانت متاحة، خلال ترجمة تمت في القرن التاسع عشر للمخطوطة الأصلية ـ وهي ملاحظة تبرر وجود بعض عناصر الرواية القوطية الجديدة في القصة. لن يستمتع البسطاء، أو عامة القراء، بما يلي من سرد، إلا إذا كانوا واعين بهذه اللعبة، لعبة الصناديق الصينية[58]، هذا الارتداد في رواية المصادر، هو ما يمنح القصة تلك الهالة من الغموض.

لكن إذا تذكرتم، فإن ترويسة الصفحة التي تتحدث عن المصدر القروسطي تذكره باعتباره “مخطوطة ، بالفعل”، إن كلمة “بالفعل” ينبغي أن يكون لها تأثير خاص على القراء المتمرسين، والملتزمون، الآن، بإدراك أنهم يتعاملون مع موضوع أدبي مألوف، وأن المؤلف يكشف عن “قلقه من سطوة التأثير”، بما أن الإشارة المقصودة (على الأقل بالنسبة للقراء الإيطاليين) إنما تشير إلى أعظم الروائيين الإيطاليين في القرن التاسع عشر، أليساندرو مانزوني، الذي بدأ روايته “المخطوبان” بادعاء أن مصدره هو مخطوطة تنتمي للقرن السابع عشر. كم قارئ يمكنه أن يفهم رنة التهكم في كلمة “بالفعل”؟ ليس الكثير، حيث أن العديد منهم قد راسلني ليسأل عما إذا كانت هذه المخطوطة موجودة فعلا. لكن إذا لم يفهموا هذا التلميح، فهل سيتمكنون من تقدير بقية القصة بنحو ملائم، وأن يحظوا بالاستمتاع بمذاقها الخاص؟ أحسب أن هذا ما سيحدث. لقد فاتهم مجرد تلميح إضافي.

أعترف أنه باستخدام تقنية التشفير المزدوج، يؤسس المؤلف لنوع من التواطؤ الصامت مع القارئ المتمرس، وأن بعض القراء من العامة، حينما لا يفهمون هذه التلميحات المثقفة، قد يشعرون بأن شيئا ما قد فاتهم. غير أن الأدب، في اعتقادي، لا يراد منه تسلية أو مواساة الناس فحسب، إنما يقصد به أيضا تحريض وإثارة الناس لقراءة النص ذاته مرتين، أو ربما لأكثر من مرة، لأنهم يرغبون في زيادة فهمهم له. وعلى ذلك، أعتقد أن التشفير المزدوج ليس خلجة أرستقراطية، وإنما هو وسيلة لإظهار الاحترام لذكاء وحسن نية القارئ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حواشي الفصل الأول “الكتابة من الشمال إلى اليمين”

[1] تقام هذه المحاضرات في جامعة إيموري، في الولايات المتحدة، تكريما لاسم ريتشارد إلمان (1918 1987)، أول من شغل منصب أستاذ كرسيّ في جامعة إيموري منذ عام 1980 حتى عام 1987. ويعتبر إلمان واحداً من أهم كتَّاب السير الأدبية، فقد كتب سيرة أوسكار وايلد وجيمس جويس، بالإضافة إلى أنه أكاديميّ ومتخصص بارز في ويليام بتلر ييتس، وصمويل بيكيت، وت.س إليوت، ووالاس ستيفنس، وغيرهم من الكتاب الحديثين. كما أنّ محاضراته العامة كانت موجهة إلى القراء في جميع بلدان العالم بسبب لغته التي دأبت على إغراء هذه الشريحة بالمشاركة الشخصية والإنخراط في الأدب الجاد. [المترجم]

[2] قراصنة الكاريبي :Pirates of the Caribbean سلسلة سينمائية ناجحة مكونة من 5 أفلام, طابعها الحركة والمغامرات الكوميدية، تدور أحداثها في البحر الكاريبي خلال أوائل القرن السادس عشر، عُرض جزأها الأول عام 2003، السلسلة بأكملها مبنية على لعبة في حديقة ديزني لاند الشهيرة، تسمى قراصنة الكاريبي. [المترجم]

(3) يقلع البعض عن نظم الشعر بعد الثامنة عشر من العمر بقليل ، مثل رامبو. (إكو)

(4) كتبت، في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، عددا من الأعمال الساخرة والنثرية، مجموعة الآن في مجلد بعنوان “القراءة الخاطئة Misreadings” الناشر: New York: Harcourt, 1993) ولكنني أعتبر هذه الأعمال مجرد لهو.(إكو)

[5] هوميروس: شاعر إغريقي ملحمي، تُنسب إليها ملحمتا الإلياذة والأوديسة، عاش في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. [المترجم]

[6] أفلاطون (427 ـ 347 ق.م): فيلسوف يوناني، صاحب الفلسفة المثالية، الداعية إلى تحصيل المعرفة الشاملة، ألَّف العديد من المحاورات الفلسفية. [المترجم]

[7] الحرب والسلام: رواية للكاتب الروسي تولوستوي، نشرت حوالي 1865، وتدور أحداثها في فترة حكم القيصر وهجوم نابليون على روسيا وهزيمته. [المترجم]

[8] دون كيشوت: رواية للأديب الإسباني ميغيل دي ثيرفانتس، وتدور حول شخصية ألونسو الذي يتخيل نفسه فارسا من فرسان العصور الوسطى، فيجوب البلاد بفرسه ورمحه، وأخلاق الفرسان المثالية. [المترجم]

[9] هيدجر: فيلسوف ألماني (1889 ـ 1976م). [المترجم]

[10] لاكان (1901 ـ 1981م): لاكان جاك. محلل نفسي فرنسي. [المترجم]

[11] آه سوزانا: عرض غنائي كوميدي من تأليف ستيفن فوستر (1826ـ 1864). [المترجم]

[12] هاملت: مسرحية تراجيدية من تأليف وليم شكسبير (1564ـ 1616) كتبت تقريبا بين عامي 1599ـ1601. [المترجم]

[13] كارل نيلسون لينوس (1707ـ 1778) عالم سويدي في مجالات النبات، والحيوان، والفيزياء. [المترجم]

[14] هيرمان ملفيل (1819ـ1891) روائي وشاعر أمريكي ، ومن أشهر أعماله رواية “موبي ديك” وتدور أحداثها في سفينة لصيد الحيتان، ونحكي صراعاً رمزياً بين الحوت والإنسان. [المترجم]

[15] كلاوديوس بطليموس (83 ـ 161 بعد الميلاد) عالم رياضيات، وجغرافيا، وعالم فلك، كان قد ذهب إلى أن الأرض ثابتة وأنها مركز الكون. [المترجم]

[16] يوهان كبلر (1571 ـ 1630) عالم ألماني متخصص في الرياضيات والفلك ، ذهب بخلاف بطليموس إلى القول أن الكواكب تسير كل في مساره، فيما تحتل الشمس المركز. [المترجم]

[17] البحث عن الزمن المفقود: رواية في سبعة مجلدات من تأليف مارسيل بروست. [المترجم]

[18] السيميوطيقا: علم يُعنى بدراسة العلامات الرموز، ومعناها، وكيفية استعمالها. [المترجم]

Whodunit [19 ]أو whodunit : نوع من الأعمال الفنية ـ فيلم أو روايةـ تدور حول جريمة قتل، ولا يُعرف فيها الجاني إلا مع نهاية العمل. [المترجم]

[20] الكأس المقدسة Holy Grail: في الأدب والتراث المسيحي تعني تلك الكأس التي استخدمها المسيح في العشاء الأخير، ويسعى الجميع إلى العثور عليها، وتضفي الأسطورة عليها سمة المعجزة، بالقول أنها تتضمن قوة ما، وعند بعض الجماعات المسيحية الأخرى فإنها رمز لوثائق ومخطوطات دفينة لأناجيل غير معروفة، تُذكر فيها الطبيعة البشرية للمسيح. [المترجم]

[21] يقصد أن هذه الدول تكتب من اليمين إلى الشمال، فربما تندهش من كونه يكتب من الشمال إلى اليمين. [المترجم]

[22] جورج بيريك (1936ـ1982) روائي فرنسي، وصانع أفلام، تحتوي رواياته على الكثير من تجارب اللعب بالكلمات، فإحدى روايته “فراغ A Void” تقع في 300 صفحة كتبت جميعها بدون أي كلمة تتضمن حرف”e”.[المترجم]

:lipogram [23 ]نوع من الكتابة المتكلفة، أو لعبة الكلمات، وهي عبارة عن كتابة فقرات أو أعمال طويلة يتجنب مؤلفها استخدام حروف معينة، وغالبا ما تكون من الحروف المتحركة مثل حرف”e”. [المترجم]

Haiku [24] الهايكو: نوع من الشعر الياباني، يتميز بقصره الشديد، وبساطة ألفاظه، والتعبير عن عميق المشاعر والأحاسيس، الذي قد لا يتجاوز البيت الواحد. [المترجم]

(25) (See Umberto Eco, “Come Scrivo, ” in Maia Teresa Serafini, ed., come si scrive un romanzo (Milan:Bompiani,1996).

:Romanesque [26]الطراز الرومانسكي هو أسلوب معماري للقرون الوسطى الأوربية، ويتميز بالأقواس شبه الدائرية، وضخامة الكتلة، والصلابة البادية، والقوة. [المترجم]

[27]الطراز القوطي Gothic: طراز معماري انبثق من الطراز الرمانسكي في العصور الوسطى الأوربية، ويتميز في المعمار الكنسي بالتأكيد على الاستطالة عاليا والخفة، كما تميز بالأقواس المحدبة، والقباب ذات الأضلاع، والدعامات الطائرة. [المترجم]

Conservatoire National des Arts et Métiers [28]المعهد الوطني للفنون والحِرَف: أسسته الحكومة الفرنسية عام 1794، وخصصته لتعليم وإجراء الأبحاث لأجل التطوير في مجالي العلوم والصناعة، ويتضمن متحفا كبيرا يضم آلاف الأعمال الفنية والابتكارات، ومن بينها النسخة الأصلية لبندول فوكو. [المترجم]

[29] كازاوبون: الشخصية الرئيسية في رواة بندول فوكو. [المترجم]

[30] ميدان دي فوي: هو أقدم مخطط بنائي في باريس، على شكل مربع تام، طول ضلعه 140 مترا، بناه هنري الرابع بين عامي 1605 -ـ1612، ويقع في مقاطعة ماريه. [المترجم]

[31] الجَرْسُ: التأثير الصوتي لألفاظ القصيدة، والذي ينتج عن حسن اختيار الكلمات، وموسيقاها الداخلية. [المترجم]

[32] لوتشينو فيسكونتي دي مودرون (1906ـ1976) مخرج مسرحي وسينمائي وأوبرالي وكاتب سيناريو إيطالي، من أشهر أعماله “النمر الأرقط”. [المترجم]

[33] بندكتي: إشارة إلى تكريس الحياة الروحانية، بحسب قاعدة القديس بنديكت، التي كتبها في القرن السادس، لمجتمعات الرهبنة، التي أسسها في وسط إيطاليا. [المترجم]

[34] أعمال القديسين: موسوعة في 68 مجلدا تدرس سير حياة القديسين المسيحين دراسة نقدية، ومرتبة بحسب يوم عيد كل قديس، نشرت عام 1643. [المترجم]

Foucault pendulum [35] بندول فوكو: سُمي باسم الفيزيائي الفرنسي ليون فوكو، وهو عبارة عن أداة بسيطة صُنعت لإثبات دوران الأرض، وهو عبارة عن بندول من الرصاص المطلي بالنحاس، وزنه 28 كيلوجرام، معلق في سلك طوله 67 مترا، ويمكن معرفة المزيد عنه في هذا الرابط:

https://en.wikipedia.org/wiki/Foucault_pendulum [المترجم]

The Italian resistance [36]حركة المقاومة الإيطالية: وهو تجمُّع للأحزاب الإيطالية الموالية للحلفاء في الحرب العالمية الثانية. [المترجم]

[37] جيمس جويس (1882-1941): قاص وروائي وشاعر ايرلندي، يعد من أهم وأكثر الكتاب تأثيرا في القرن العشرين، من أعماله الشهيرة: “عوليس”، و”صورة الفنان في شبابه”.[المترجم]

[38] ستيفن بطلا: رواية من تأليف الكاتب الايرلندي جيمس جويس. نُشِرَت الرواية في عام 1944، بعد وفاة جيمس جويس، الرواية المطبوعة لا تشمل كُلَّ النص الأصلي، حيث ضاعت أجزاء من المخطوطة. اقتبس جويس في كتابة “ستيفن بطلاً” عناصر من سيرته الذاتيَّة.[المترجم]

ekphrasis [39]: قمت بترجمتها إلى: “ التجسيد اللغوي للصورة “، وهي كلمة من أصل يوناني، تعني: كتابة وصف بلاغي لعمل فني (لوحة أو تمثال) على سبيل التمرين. [المترجم]

[40] تمثال لاوكون: تمثال تذكاري ضخم من المرمر، يوجد حاليا في متاحف الفاتيكان في روما. ويصور الكاهن الطروادي لاكون، وأبناءه أنتيفانتس وثيمبرايوس، يصارعون أفاعي بحرية. [المترجم]

[41] خط التوقيت الدولي: هو خط جرينيتش الوهمي، الواقع على خط الطول 180 درجة، وبه تتحدد المناطق الزمنية في أنحاء العالم، بحسب بعد المكان عنه، شرقا أو غربا. [المترجم]

[42] جزر أليوتيان: سلسلة جزر بركانية، غرب شبه جزيرة ألاسكا.[المترجم]

[43] روبرت لويس بلفور ستيفنسون( 1850 – 1894) روائي، وشاعر، وكاتب مقالات، وكاتب اسكتلندي، تخصص في أدب الرحلات، أبحر في يخت استأجره هو وعائلته من سان فرانسيسكو إلى جزر جنوب المحيط الهادي, زار خلالها ثلاثا وثلاثين جزيرة، وقد وصف بعض هذه الجزر كجزر الماكيز، وهاواي، وساموا، في كتاب “حاشية للتاريخ” عام 1892، وكتاب ” البحار الجنوبية”، ثم أصبحت جزيرة ساموا وطنه الدائم، منذ عام 1890 فمات فيها في ديسمبر عام 1894، ودفن جثمانه في قمة جبل “فيا” في هذه الجزيرة أيضا. [المترجم]

[44] الباروك: اصطلاح مستعمل في فن العمارة والتصوير، معناه الحرفي: شكل غريب، غير متناسق، معوج. يتميز الأسلوب الباروكي بالضخامة، ويمتلئ بالتفاصيل المثيرة. [المترجم]

[45] الفرسان الثلاثة: رواية لألكسندر دوماس، وكانت إحدى شخصياتها الكاردينال ريتشيليو، رجل دين ونبيل فرنسي، عين كاردينالا ورئيسا للوزراء في حكم لويس الثالث عشر. وهناك لوحة شهيرة له في متحف اللوفر. [المترجم]

[46] أنونزي: نسبة إلى جابرييل دانونزيو، كاتب روائي ومسرحي وشاعر وصحفي إيطالي، كان جنديا في الحرب العالمية الأولى، يميل إلى الفاشية. [المترجم]

[47] جاراموند: إحدى شخصيات رواية “بندول فوكو”: مالك دار جاراموند للنشر. [المترجم]

[48] ما وراء سردي: نوع من الكتابة الأدبية، يكون التركيز فيه على العمل نفسه، والذي يدخل في بنيته تنبيه القارئ، كل حين، بأنه يقرأ عملا روائيا. وبتعبير أمبرتو إكو: هو ” ايحاءات بأن النص يشكل طبيعته بنفسه، بينما نرى المؤلف يتحدث مباشرة إلى القارئ.” [المترجم]

[49] أسلوب باروكي: أسلوب فني، يتميز بالمبالغة في التراكيب والتفاصيل الفنية، وميل للغموض، واستخدام الحيل البلاغية في الأدب، لإظهار ترف اللغة. [المترجم]

Goliards [50]: جماعة صغيرة من الكهنة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، اشتهروا بكتابة الشعر الساخر، محتجين به على ما تعانيه الكنيسة من تناقضات، واتصفت حياتهم بالتسكع والانحراف. [المترجم]

[51] ألوان التيمبيرا: نوع من الألوان المستخدمة في التصوير، تتكون من مزيج من الصباغ، وصفار البيض، والماء. [المترجم]

[52] الكابالا: عقيدة صوفية سرية يهودية، وتؤمن بقوى عشرة للإله، يتحكم من خلالها بأبديته في العالم الزائل. [المترجم]

[53] ميلانيزيا: منطقة تقع في الجنوب الغربي للمحيط الهادي، وتمتد من جزيرة نيو غينيا، إلى بحر أرافورا، على الجانب الشرقي لجزر فيجي. [المترجم]

[54] يوحنا الكاهن: ملك مسيحي أسطوري، يقال أنه كان يحكم آسيا الوسطى، أو أثيوبيا، في القرون الوسطى، وقد حيكت حول أعماله وأوصافه العديد من الحكايات، وقد شغل الكثير من الرحالة في البحث عنه، وانشغل الكثير من الباحثين الحديثين في بحث أصل أسطورته. [المترجم]

(55) Linda Hutcheon, “Eco’s Echoes:Ironizing the (Post) Modern,” in Norma Bouchard and Veronica Pravadelli, eds .Umberto Eco’s Alternative (New York: Peter Lang, 1998); Linda Hutcheon, A Poetics of Postmodernism (London: Routledge’ 1988); Brian McHale, Constructing Postmodernism (London: Routledge, 1992); Remo Ceserani, “Eco’s (Post) modernism Fictions,” in Bouchard and vadelli, Umberto Eco’s Alternative.

(56) Charles A. Jencks, The Language of Post-Modern Architecture (Wisbech, U.K.: Balding and Mansell, 1978), 6.

(57) Charles A. Jencks, What is Post-Modernism? (London: Art and Design, 1986), 14-15. See also Charles A. Jencks, ed., The Post-Modern Reader (New York: Martin’s, 1992).

[ [58لعبة الصناديق الصينية: مجموعة من الصناديق المتزايدة في الحجم، يوضع الأصغر منها داخل الأكبر منه، وهكذا، حتى يكونوا صندوقا كبيرا واحد يحوي الجميع. [المترجم]

.……………

* الفصل الأول من كتاب “اعترافات روائي شاب” لأمبرتو إكو. الكتاب عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها الكاتب المعروف أمبرتو إكو في جامعة إيموري، في الولايات المتحدة، في حفل التكريم السنوي لاسم ريتشارد إلمان (1918 1987)، أول من شغل منصب أستاذ كرسيّ في جامعة إيموري منذ عام 1980 حتى عام 1987. ويعتبر إلمان واحداً من أهم كتَّاب السير الأدبية، فقد كتب سيرة أوسكار وايلد وجيمس جويس، بالإضافة إلى أنه أكاديميّ ومتخصص بارز في ويليام بتلر ييتس، وصمويل بيكيت، وت.س إليوت، ووالاس ستيفنس، وغيرهم من الكتاب الحديثين. كما أنّ محاضراته العامة كانت موجهة إلى القراء في جميع بلدان العالم بسبب لغته التي دأبت على إغراء هذه الشريحة بالمشاركة الشخصية والإنخراط في الأدب الجاد. 

مقالات من نفس القسم