الكتابة لا تشتري الدجاج المشوي.. ولا تحصل على الفيزا

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مشهد 1

بعد يوم عمل مرهق، دخلت أحد المطاعم السورية لشراء وجبة خفيفة، وعند دفع الحساب وجدت سيدة خمسينية تجلس على حافة الرصيف إلى جوار كرسي المحاسب الشاب، وفي ثنية جلبابها تحمل كمًا من العملات المعدنية المختلفة بين جنيه ونصف جنيه.

في انتظار وجبتي، وقفت أستمع إلى حوارهما. هي سيدة فلسطينية من غزة، خرجت مع حفيدها من المعبر إلى القاهرة، وبصعوبة وصلت، وعملت في إشارات المرور، تبيع المناديل لتطعم حفيدها الصغير، الذي يشتهي أن يأكل دجاجة كاملة.

جمعت السيدة 40 جنيها من ثمن الدجاجة المشوية، ولكن المحاسب السوري الجنسية يعمل لدى صاحب المحل، ويرفض تمامًا أن يعطيها الدجاجة إلا بعد أن تدفع عشرة جنيهات أخرى لتكمل سعر الدجاجة، وإلا سيطرده صاحب المحل. يعرض عليها أن تحصل على وجبة أقل سعرًا، فترفض السيدة لأنها رغبة حفيدها أن يرى دجاجة كاملة ولو لمرة واحدة في بيتهم. تتمسك السيدة بطلبها وتطلب منه أن يتنازل، ويتمسك المحاسب برأيه ويرفض التنازل، فتجمع السيدة عملاتها المعدنية، وتبدأ في وضعهم في صرة من القماش.

حوار دام لمدة نصف ساعة، تحكي السيدة عن الظروف المأساوية التي دفعتها للخروج من غزة، ويحكي المحاسب عن الظروف الأسوأ التي طردته من سوريا، ويتخلل حديثهما مداخلة لصاحب المحل، الذي يظهر من لهجته أنه عراقي، وأن نعيم بلاده زال وجاء بحثًا عن لقمة العيش.

مشهد 2

في آخر زيارة كنت في الإسكندرية، حظيت بأكلة سمك كانت رائعة حتى قبل انتهاءها بعشرة دقائق. كنا نتناول الأسماك في مطعم قريب من الشاطئ، عندما قالت صديقتي أن طعم الأسماك البحرية أفضل بكثير من مثيلتها النيلية التي نأكلها بالقاهرة، وكان النادل يضع أطباق السلطة والخبز على الطاولة، فسمعها وقال مازحًا “طبعًا يا أستاذة.. ده سمك بياكل بني آدمين ومتربي على الغالي“.

توقفت عن الأكل فورًا، ودارت في عقلي آلاف الصور للاجئين الغارقين في البحر المتوسط، وقصصهم الكثيرة التي تدفننا بنبلها وحقارتنا، بهؤلاء الذين ضاقت بهم بيوتهم، وقلوب جيرانهم وأهلهم، وبلادهم، ثم بلاد المهجر، ولم يضيق بهم البحر.

تذكرت رسالة اللاجئ السوريّ الذي اعتذر فيها عن موته – هو الذي اعتذر عن موته! –  وكتب بين سطورها “شكراً لك أيها البحر الذي استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكراً للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي. شكراً لكم لأنكم ستحزنون علينا عندما ستسمعون الخبر. أنا آسف لأني غرقت“.

وتذكرت قبطان المركب الصغير الذي اصطحبني في جولة على الشواطئ، ولاحظ خوفي من تناغم حركة المركب مع الموج، وارتفاعهما وانخفاضهما سويًا، وقلبي معهما، فضحك منّي وقال “البحر مبيخوفش يا أستاذة، البحر مش غدار”، فقلت له أن البحر ابتلع سفن كاملة باللاجئين بلا ذنب، فقال “انتي فهمتي غلط، دول ملقوش حتة تحميهم، البحر فتح لهم دراعاته ووداهم مكان أحسن“.

بعد هذه الواقعة، توقفت عن أكل الأسماك تمامًا، لكني ضعفت بسبب حبي له، فتحولت للتحري عن مصدر السمك قبل تناوله، وكلما رأيت سمكة فكرت في أنها أكلت جزءًا من ذراع طفل سوري، أو أم صومالية، أو رجل ليبيري، أو أي إنسان ممن لم تتسع لهم الأرض.. رغم رحابتها.

مشهد 3

سألني شخص منذ أسبوعين “لماذا أكتب”، وقصصت عليه قصتي مع الكتابة، كيف بدأت فيها ولماذا كتبت لأول مرة. وبعد تسليمي للمقال فكرت في القصص السابقة، وسألت نفسي “لماذا أكتب؟”. أو بمعنى أدق “لماذا أكتب والكتابة لا تغير شيئًا؟ ولماذا أكتب والخيال لا يستطيع منافسة الواقع؟ ولماذا أكتب والواقع تخطى كل حدود المنطق؟ لماذا أكتب إذا لم تكن الكتابة هروبًا من الواقع الذي لا نحتمله، أو هروبًا إلى الخيال الذي نرغب فيه؟“.

عندما وقفت بين الرجل والمرأة، وعندما اصطحبني الرجل في جولة بالبحر، سألت نفسي لماذا أكتب، وفي كل مرة ينعقد لساني. لا نستطيع تغيير حقارة الواقع بكتابتنا، ربما لأن السياسيين لا يفضلون الأدب والروايات، وإن قرأوها فهم يستمدون من خيالها نسيجًا لكذبهم وحبكة لحقارتهم.

ربما تختلف الكتابة الأدبية عن الصحفية، وبما إني أعمل في كليهما، فالأخيرة مرعبة لأن الناس تخشى من الفضائح، تخشى من أن يُفضح سرّها، لذلك قد يكون الخبر الصحفي أكثر تأثيرًا من رواية، لأنه صريح ومباشر. لكني أميل إلى الاعتقاد بأن الرواية مؤثرة أكثر، فالخبر يضرب الثمار، لكن الرواية تضرب الجذور. ومن يقرأ الروايات – والكتب عمومًا- تتسع مداركه، وتتغير رؤيته للعالم، وربما يستطيع إنقاذ الآخرين بأي فكرة مجنونة استلهمها مما قرأ.

كلما يئست من العالم.. أكتب. أكتب لأن الكتابة هي المنشورات المسموح لنا بتداولها في بلادنا، لأنها – على الرغم من تخفيها في شكل قصص خيالية – فهي تحكي أدق ما يحدث لنا، ورغم أن الكتاب قد لا يساوي ثمنه ثمن دجاجة مشوية أو وجبة أسماك، إلا أنه قادر على تغيير عقول زبائنهم وبائعيهم إن قرأوه.

ربما لا تستطيع الكتابة أن تعطي السيدة دجاجتها، لكنها قد تغير فكر أصحاب القرار فيكفوا – على الأقل – عن المغالاة في الأسعار، فتحصل عليها لحفيدها بما تملك من المال. ربما لا تستطيع الكتابة أن تنقذ لاجئ من فكّي سمكة قرش، لكنها قد تغيّر رأيه قبل أن يضع قدمه في المركب. ربما لا تصنع قرارات سياسية صريحة، لكنها قد تغير رأي من دفعوه للجوء، ربما تذكرهم بإنسانيتهم، وبإمكانية أننا نعيش جنبًا إلى جنب على نفس الأرض، وأنها قد لا تحتملنا أكثر إن استمرت البشرية في ملحمة الغباء الأزلي.

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار