الكتابة كما عرفتها.. علامات استفهام بلا أجوبة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 4
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سمر نور

نتواصل مع العالم منذ طفولتنا عبر اللعب. نتعرف على حواسنا عبر العبث بالأشياء من حولنا، قبل أن ننطق أول حروفنا، وحين نتعلم القراءة تتعقد عوالمنا أكثر، خاصة إذا وقعنا فى غرام عالم الخيال والمعرفة، وعشنا مع شخوص من خيال الآخرين، وتعرفنا على أزمان لم نعاصرها وأماكن لم نزرها، تقود لعبة القراءة بعضنا فى اتجاه لعبة جديدة؛ لعبة الكتابة.

لم يكن لدى ما أفعله سوى القراءة، طفلة هادئة بصوت خافت لا يُسمع في كثير من الأحيان، تعشق القراءة والسينما، وتواظب على برنامج الطفل في قصر السينما كل يوم سبت وتزور مكتبة القصر قبل وبعد عرض الفيلم. في المرحلة الإعدادية صرت أختار كتبى بنفسى، خمسة كتب استبدلهم كل أسبوع من مكتبة النعمانى بسور السيدة زينب، الذي يقع بالقرب من مدرستي،  كتب المغامرات ومجلات الأطفال مع قصص تشيكوف ويوسف إدريس وروايات تشارلز ديكنز وتولستوى، مع سلسلة عالم المعرفة، كان صاحب المكتبة يعتقد أنى أستبدل الكتب من أجلى أنا وأخوتى وأنهم بالتاكيد أكبر منى عمرا، وكان يرشح لى أعمالا في بعض الأحيان، مع الوقت أيقن أن تلك الصغيرة تلتهم الكتب بمفردها، حتى وإن لم تكن تعى كل الأفكار التي بين السطور، إلا أن تأثيرها في الروح والوجدان لا ينمحى، لكنه لم يكن يعرف إن الصغيرة تكتب القصص أيضًا منذ كانت في العاشرة، وإنها انتهت من أول رواية قصيرة وهى في الثانية عشر من عمرها. كانت البدايات طفولية، متأثرة بما يهتم به من حولى، فكانت أول قصصى عن النوبة من خلال حوار بين جد متخيل وطفلة في طريق عودتهم إلى النوبة القديمة، بحكم انتمائي إلى عائلة من أصول نوبية مقيمة في القاهرة منذ أجيال، بعد غرق أرضهم القديمة وبناء السد العلى، وانشغال أبي رحمه الله بتلك القضية وسماعى لحكايات عن النوبة القديمة وقراءاتى لرواية محمد خليل قاسم الأهم “الشمندورة” شحذ ذهنى في هذا الاتجاه. وكانت أول رواية قصيرة كتبتها نابعة من انشغالى بالقضية الفلسطينية، لم يكن عمرى قد تجاوز الثانية عشر، حين كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى مشتعلة في أوائل التسعينات مع تفتح وعي، وظل هذا الانشغال معى لسنوات حتى إن أول قصة نشرت وفازت بجائزة نجيب محفوظ في نادى القصة المصري، في آخر أعوام دراستي الجامعية، كانت متماسة مع القضية الفلسطينية بنفس الأسلوب الرومانسي، وإن اعتمد على التجريب، والانشغال باللغة في حد ذاتها، كأنها هدف مستقل وليست وسيلة، حتى إن البعض كان يرى في بداياتى، إننى أقرب لكتابة الشعر، وهذا تجلى في مجموعتي القصصية الأولى “معراج”، وبشكل أقل في مجموعتي الثانية “بريق لا يحتمل”، لكن حين كتبت روايتي الأولى “محلك سر” كنت قد بدأت مرحلة جديدة، ولغة جديدة.  

اللعبة التى بدأتها كغيري منذ الطفولة تغيرت قواعدها وضربت بثوابتها عرض الحائط عشرات المرات. لم أكن أرغب فى البداية أكثر من أن أكون مثل هؤلاء الكتاب الذين يعبرون بى سقف غرفتي ويطيرون بأجنحتي فوق حدود مخيلتى ومخيلتهم. بقوة الخيال الجماعي التى تخلقه القراءة، يمكننى أن أتخيل ما بين سطور نصوص الآخرين، وان أرى شخوص أعمالهم بعيني وأضيف من خيالى ما أشتهى. فى مرحلة أخرى شدتنى أكثر فكرة تمثل أحاسيس البشر، أن تقول لشخص لا تعرفه أن هناك من هم مثلك، أن تمحى من عقله فكرة الاغتراب أو الوحدة، تتغير أسباب تعلقك بالكتابة كلما زادت تجربتك، فى مرحلة المراهقة كانت الكتابة وسيلة لتفريغ شحنة عاطفية أو التعبير عن ذات ترى نفسها مركزًا للكون، وفى مرحلة أخرى كانت وسيلة لفهم العالم والتواصل معه، المهم أننى حين أفكر الآن فى كل ذلك، واسأل نفسي عن مغزى الكتابة بالنسبه لى فى تلك اللحظة، أجد الإجابة ببساطة: أكتب من أجل كل ذلك وأكثر، وفى كلمة “أكثر” معنى الجدة، فأنت تكتشف كل يوم منطقة جديدة فى كتابتك، تحركها رغبة ما أو فكرة ما، أو تغير ما فى علاقتك بالعالم.

تمهلت قبل دفع نصوصى إلى المطبعة بحثًا عن تلك “الكتابة الجديدة” نصوص مجموعتى الأولى “معراج” خرجت بعد سنوات من الكتابة وعدم الرغبة فى النشر، بالأحرى الخوف من مواجهة قارئ مفترض بنصوص لم أكن أجد، آنذاك، أن بها من الجدة ما يكفى. أخرجتنى من حالة الخوف لوحة لصديقة طفولتي الفنانة التشكيلية حنان محفوظ، كانت تخطو مثلى خطواتها الأولى فى صمت ويمنعها نفس الخوف من مواجهة جمهور مفترض. لوحتها كانت ترجمة بصرية لنص كتبته بعنوان “معراج” ولم تقرأه صديقتي! نشرت النص واللوحة معًا فى جريدة الأهالي عام 2003 على ما أتذكر وقررنا أن نخوض تجربة مشتركة، نصوص تقوم برسم لوحات لها، ولوحات أقوم بكتابة نصوص من وحيها، وكانت بعض النصوص مكتوبة من عام 1997 وجاءت المجموعة القصصية والتشكيلية “معراج” التى صدرت عن سلسلة إبداعات بالهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2004 محققة تصوري عن الكتابة الجديدة آنذاك، تلك الكتابة التى تتماهى مع فن آخر وتكمل حالته.

ظللت أربع سنوات أبحث عن إطار جديد شكلا ومضمونا، لم أرغب فى جمع نصوص فى كتاب ولم أكن أجد نفسي وقتها روائية، كنت أؤمن خلال تلك السنوات أن القصة القصيرة هى الأقرب لشخصيتي وأفكارى، لكنى مع ذلك كنت أبحث عن مجموعة نصوص يجمعها رابط ما، فعملت على كتابة عدة نصوص عام 2007 ولم أضم إليهم ما كتب قبل هذا التاريخ ولم ينشر، وكانت مجموعة “بريق لا يحتمل” عام 2008 فكما جمعت نصوص مجموعتى الأولى الصورة البصرية، كان ما يجمع نصوص مجموعتي الثانية هو الموضوع؛ فكل نصوصها تدور حول العلاقة بالمدينة، والبطلة فى أغلب النصوص فتاة تشعر بالاغتراب داخل مدينتها، في لحظة تاريخية راكدة، تبدو مدينتى الواقعية فيها كأنها مدينة للأموات، المستسلمين لواقع الحياة، لكن ملامحًا ما تتحرك داخل هذا الجمود، ملامح لثورة تتشكل على مهل.

لا أذكر كيف تخلصت من صورتي الذهنية عن نفسي والتى جعلتني أقرر أنه لا يمكن أن أكتب رواية وأن فن القصة القصيرة هو الأقرب لمشروعي فى الكتابة! كل ما أعرفه أن عوالم ما شدتنى إلى تلك التجربة وإننى بدأت أكثر من مشروع روائي ولم أكمله! كانت مرحلة مفصلية بالنسبة لى على مستوى الكتابة والحياة. العديد من الأفكار والعوالم تنافست فى داخلى وأخذت الكثير من أعصابي وجهدي بلا نتاج، فلم تكتمل أي  منها، إلى أن وجدت نفسي فى منتصف عام 2009 أتفرغ لكتابة رواية “محلك سر” بمشاركة الفنانة التشكيلية حنان محفوظ للمرة الثانية لكن هذه المرة، لم نكن نريد تكرار التجربة؛ الصدفة وحدها هي التى وضعتنا معا فى نفس الحالة فى ورشة عمل استمرت لفصلين فقط من الرواية ثم قررنا أن تعمل كل واحدة منا بمعزل عن الأخرى، وألا نرى نتاج بعضنا البعض إلا بعد انتهائنا من العمل تمامًا! كانت أشبه بمغامرة نتجت عنها رواية طويلة وعشر لوحات فى ديسمبر 2011 وصدرت عام 2013 بعد أن أخرت صدورها ظروف سوق النشر بعد الثورة المصرية. خاضت فيها بطلتا الرواية، لمى وصوفى، رحلة مراجعة الوعى، عبر مساءلة ثلاثين عامًا من الحياة، لتهتز كل مسلماتهما خلال تلك الرحلة، والوعى دوما يقود للتغيير.

بعد عام 2011 لم أكن مخلصة لكتابتي، كنت غارقة في محيط وعي جمعي يحركنى، فلم يكن غريبا أن أعود بمجموعتي القصصية “في بيت مصاص دماء” الصادرة عام 2016 والتي ضمت نصوصا كتبت على مدى سنوات طويلة، بعد أن أعدت كتابتها بوعى اللحظة، لم يكن غريبا أن تكون الفانتازيا معادلا موضوعيا لكل العبث الذي نعيشه، ولم يكن غريبا أن أكتب رواية “الست” الصادرة عن دار العين عام 2018 عن فتاة تقرر اختيار العزلة والتدرب على الوحدة ومحاربة الوحوش، كأنى كنت أخرج من رحم الوعي الجمعي وأعود إلى ذاتي، وأحاسب الجماعة عبر كتابتي، وكأن الكتابة هى عملية دخول وخروج من وإلى الذات، من وإلى الجماعة، في رواية “الست” كانت ثورتى الخاصة والتي لم تكن تنفصل عن ثورة 2011 وثورات الربيع العربي، فلم يتبق لنا سوى ثورتنا الاجتماعية التي تعلى من شأن إنسانيتنا أمام هجوم الإيدلوجيا والدين والسلطة والمجتمع وكل الوحوش التي تحاصرنا.

كنت مجرد طفلة حلمت يومًا أن تكتب قصصًا مثل القصص التي قرأتها ومنحتها الحياة، تمنت أن تحتضن طفلة أخرى تتحدث لغة غريبة في مكان بعيد وتقول لها: أنت لست وحدك في هذا العالم عزيزتى، أنا هنا ومعى الكون بين سطور سوداء تلمع كلما اخترقها ضى عينيك، وحين تنتهى حكاياتى سأسحرك عقلة إصبع وأخفيك في جعبة ساحر وأخرج حكاياتك من أجل طفلة أخرى تتحدث لغة أخرى غريبة في مكان آخر بعيد، تكتب لتسمع العالم صوتها. لم أعد تلك الطفلة، فكلما أخطو خطوة تتعقد الحكايات، كنت في مرحلة أخرى أكتب لنفسى فقط، ولا يهمنى العالم بمن فيه، أكتب لأتخلص من الأصوات التي تقتحمنى، ثم صرت أكتب لأفهم العالم، أكشف أسراره ودوافعه وألمس عمقه. حين أفكر الآن لماذا أكتب لا أجد إجابة واحدة، أجدنى متعثرة بين كل تلك الإجابات، أجدنى أكتب كى أجيب على هذا السؤال، وربما لو أجبت عنه لاكتفيت من الكتابة، ولم أجد الإجابة في تلك المسافة بين أول رواية قصيرة كتبتها وأنا في الثانية عشر من عمرى، وبين آخر رواية أكتب في نهايتها وأنا في الثانية والأربعين، أعمل الآن في المراحل الأخيرة فيها، منشغلة بالثورة على هذا المجتمع، وتتبع العلاقة بين الخرافة والتكنولوجيا، وكأنها وحوش أخرى تحاصرنا. وكأننى مازلت أسعى نحو إجابة مستحيلة لسؤال الكتابة وأنا أعرف أننى لن أحصل عليه وإلا انتهيت.

مقالات من نفس القسم