الكابوس

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 50
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد اللطيف النيلة
          وجدت نفسي في خضم حشد من القامات.. بقوة تدفعني القامات من الخلف.. عبثا أحاول أن أتمالك زمام جسدي.. شعارات مدوية، لا أتبين كلماتها، تصم أذني.. وددت أن تكون شبيهة بتلك الشعارات التي كنت أرددها، في ساحة الجامعة، مع زملائي الطلبة.. وددت، بالأحرى، أن تكون نابعة من قلبي، وأن أرددها بحرارة الصدق وعنفوان الحماس.. أما أن أكتفي بسماعها صاخبة مملاة، دون أن أميز معناها ودون أن أملك القدرة على ترديدها، فذلك ما كان يعذبني.. استسلمت لتيار القامات الجارف، من غير أن أعرف إلى أين يقودني.. كنت أحس أنني أنحدر، مع التيار، في دروب ضيقة، أشم روائحها الأليفة، أتعثر في حفرها، أرى الجانب العلوي من حيطانها وحوانيتها وبيوتها، أرى وجوها تطل من نوافذها وسطوحها، وأنعطف مع انعراجاتها.. لم أكن أعرف من أين يبتدئ تيار القامات وإلى أين ينتهي، غير أني أدركت أن هناك من لم ينخرط في مسيرة هذا التيار: نساء وأطفال وشيوخ وحتى رجال وشبان.. كانوا يطلون من النوافذ أو من السطوح.. يخيل إلي أني استطعت أن أقتنص تعابير بعض الوجوه المطلة: فضول تحفه الدهشة. نظرات لامبالية. اهتمام متسائل. احتجاج غاضب أو هادئ.. داهمتني رغبة في أن أكون هناك في الأعلى: خلف شباك نافذة أو جدار سطح.. كيف أواصل السير دون أن أعرف إلى أين ولماذا؟.. أحسست بضغط القامات، كانت تحاصرني من كل جانب، وعذبني شعور فادح بالعجز.. كيف أتحرر من هذا التيار الأعمى؟.. ظل السؤال يدور في رأسي حتى لم أعد أسمع أو أبصر شيئا.. كأني صرت محمولا فوق الرؤوس والأكتاف.. كأن آلاف الأيدي ترفعني إلى أعلى.. وكما يعود الصوت إلى شريط بعد لحظة صمت عميق، سمعت الشعارات تدوي واضحة، وتلامس أوتار نفسي.. ووجدتني أرددها بيسر كأني كنت أعرفها من قبل.. امتزج صوتي بالأصوات الأخرى، وسرت في كياني طمأنينة من أدرك أنه جزء من كل منسجم متماسك.. كنت أردد الشعارات بجسدي كله شاعرا بلذة الانتماء.. ثم أخذ التيار يتباطأ، حتى صار يراوح مكانه، وانخفضت درجة ارتفاع الأصوات.. بدأ جسدي يتلقى ضغطا من الأمام ومن الخلف.. الذين كانوا أمامي استداروا خلفا، وراحوا يتراجعون، بينما كان الذين من خلفي يواصلون تقدمهم.. اصطدم المتراجعون بالمتقدمين، فتعثر سير التيار.. خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الخلف.. استبدت بي الحيرة، فتجمدت شفتاي، وهجمت علي الأسئلة.. لابد أن هناك سببا للتراجع.. لابد.. وما إن تبادر إلى ذهني أول سبب حتى تفصدت عرقا باردا.. هو الخوف إذن يهز جسدي كله، يشل حماسي وطمأنينتي وانسجامي.. اشتد علي الضغط من الخلف والأمام، فيما كنت أقاوم خوفي منحيا عن عيني صور القضبان والأغلال والسياط والحفر الباردة والخوازيق والعدوانية الصارخة.. لم أستطع، رغم خوفي، أن أحدد اتجاه سيري.. الضغط يشتد، وعرقي يجف، إلى أن استعدت صفائي.. أقصد أني تخلصت من الخوف والحماس، من الانتماء إلى المتقدمين أوالمتراجعين.. لبثت في مكاني لا أتحرك، كأني أتفرج على لعبة لأتبين خيوطها.. المتقدمون يعرفون لماذا يتقدمون، والمتراجعون يعرفون لماذا يتراجعون، أما أنا…!؟.. صمدت في مكاني لا أتقدم لا أتقهقر.. يدفعني أولئك إلى الأمام، يدفعني هؤلاء إلى الخلف.. تنقلع قدماي من الأرض بفعل الدفع، فأميل حينا إلى الأمام، وحينا آخر إلى الخلف.. أترنح وأكاد أسقط، لكني أتحامل على نفسي محاولا استعادة ثباتي.. يخترقون بعضهم بعضا، فيما أحاول أن أبقى قيد مكاني.. أدرك عبث المحاولة: إني لست في مكاني تماما، بل أنا بعيد عنه بخطوة أو أكثر، مرة إلى الخلف، ومرة إلى الأمام.. هل لذلك أهمية؟.. كنت متشبثا بقراري: لا مع هؤلاء ولا مع أولئك.. لن أتحرك حتى أفهم.. واشتد الضغط فجأة من الأمام، كأن المتراجعين صاروا أكبر قوة وأكثر عددا من المتقدمين.. خف الضغط علي من الخلف، شيئا فشيئا، حتى تلاشى أو كاد.. ووجدت نفسي في مواجهة تيار جارف من الأمام، تيار زاعق بلا شعارات.. جرفني التيار قليلا، لكني استنفرت كل قواي.. قاومت برغبة، بإرادة، وعيناي مفتوحتان.. كنت أطمح إلى الفهم.. ولم تجرفني قوة التيار، بل سقطت على الأرض، بين السيقان، وأحسست بالأقدام تدوسني.. آلاف الأقدام تطؤني كلي، تطحنني دفعة واحدة، عضوا عضوا.. عميقا أحس بالألم في وجهي وبطني وحجري.. عميقا أحس أني أغور في التراب الذي تحتي..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون