القاتل

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة .. محمد معروف

لعل الشئ الوحيد الذي هون عليه رحلته المملة في ذلك القطار المقيت، هو منظر الحقول الخضراء المترامية الأطراف و قد لامست الأفق. كان يلعن تفكيره القاصر الذي أملي عليه ركوب قطار الدرجة الثالثة المتجه الي الصعيد، فهاهو يجلس علي طرف هذه الأريكة الخشبية البالية داخل هذه العربة المزدحمة الخانقة، حيث الرطوبة العالية تجعل العرق لزجا علي جسده المنهك.. لقد أخطأ حتما حين قرر توفير نقوده لشراء سجائره الأمريكية المفضلة عن ركوبه في الدرجة الثانية.. كان بامكانه الاكتفاء بعلبة واحدة حتي وصوله الي اسوان، وهناك كان يمكنه تدبير المال الكافي.

كان منظر الحقول مما يهدئ روعه ويبعث الراحة في داخله المضطرب.. فقط لو كان يجلس بجوار النافذة لتسني له مشاهدة افضل، و بالطبع التعرض للهواء المنعش.. و بعد رشوة من ثلاث سجائر من سجائره الفاخرة، استطاع ان يحصل علي المقعد من جاره الجلف. كان ذلك بعد توقف القطار عند إحدى المحطات المليون التي يتوقف عندها هذا القطار الممل.. قام ليبدل المكان مع جاره، عندما ارتطم به احد الركاب الجدد من المحطة.. ” المعذرة” هكذا همس بها الراكب دون حتي ان يكلف نفسه مشقة الالتفات اليه.. نظر اليه في ازدراء و هو يغير مجلسه.. لكن النظرة التالية للرجل جعلته يضطرب..

لقد تسارعت نبضات قلبه في سرعة غريبة، بينما نبت العرق علي جسده في سرعة و غزارة اغرب.. نفس القامة الفارعة و الأكتاف العريضة.. بل نفس المشية الواثقة.. هل تراه هو؟ هل بعد ان سعي في الأرض و هرب من طرفها الي طرفها يجده هو؟ هل هرب من براثنه ليرتمي في احضانه؟!! تقدم الراكب مقعدا ثم جلس علي الأرض، مسندا ظهره الي الأريكة الخشبية التي تقابله.. صحيح انه قد اعطاه ظهره، لكن جانب الوجه الذي سقط عليه الضوء اظهر ذلك الشارب الكثيف الذي يملأ ذلك الوجه الأسمر المتغضن الذي تغزوه تجاعيد خمسين عاما ماضية، و تضيئه عينان متوهجتان يشع منهما الغضب..

سيطر الرعب عليه تماما.. كان قلبه يدق في صدره في قوة في حين اصطكت ركبتاه في توتر ملحوظ ، جعل جاره يعلق ساخرا ” ما بك؟ هل اصابك البرد بعد أن جلست بجوار النافذة؟” فتح فمه ليرد لكن الكلمات ابت ان تخرج من الحلق الجاف، فابتسم في بلاهة ليخرس جاره عن الأستطراد، خوفا من جذب انتباه الكهل الذي يجلس، تقريبا، عند قدميه..

لم يكن يعرف ماذا عساه أن يفعل.. هل ينزل في اقرب محطة.. لكن ماذا لو التفت الرجل فجأة و لمحه.. ماذا لو تلفت الآن و لمحه..!! ماذا لو كان يحمل طبنجته معه الآن؟!! هل سيردعه وجود كل هؤلاء المسافرين عن قتله؟ لم يردعه اي شئ عندما حاول قتله المرة السابقة، فما الذي يمنعه هذه المرة.. و ادرك فجأة انه قد اطال التحديق في الرجل الذي لو التفت لحظة لالتقت عيناه بعيني فريسته المذعورتين.. و بحركة سريعة، ادار وجهه كليا الي النافذة.. بل و اخفي جانب وجهه بذراعه كاملا.. و عندما نظر الي الحقول الخضراء الشاسعة هذه المرة لم يري بها ايا من تلك المناظر التي هدأت من روعه منذ قليل.. بل لعله لم يكن يري لها وجودا.. بل  لعل ما ملأ ناظريه هو وجه ذلك الكهل بشاربه الضخم و عينيه الناريتين.. نعم، ذلك الوجه الجهنمي الذي اقتحم عليه مكتبه منذ اسبوع..

           من انت؟

           انا الرجل الذي قتلت ابنه اول امس..

و كان يخرج طبنجته في عزم

           تقصد حادث السيارة.. انا لم اكن اقصد.. كنت غائبا عن الوعي.. سأدفع لك تعويضا..

كان يحكم التصويب الي صدره و هو يرد في غل

           لا شئ يعوض ابني، لكن هذا سيطفئ ناري..

و لولا رجل الأمن الذي انقض عليه في الوقت المناسب، لما كان هو الآن نهبا لذلك الرعب الذي يلتهم قلبه التهاما.. فكر في اشعال سيجارة ينفخ فيها توتره، لكن خوفه، من ان تصدر منه أية حركة غريبة تشد انتباه الرجل، منعه حتي من تحريك انامله.. ثم انه ليس في حاجة الي سيجارة امريكية فاخرة الآن، بل إلى أخري ملفوفة بذلك العشب الساحر.. ذلك العشب القادر علي ارخاء اعصابه و ابقاء الزمن مكانه.. سيجارة واحدة قادرة علي تفريغ الضغط العصبي الرهيب الذي يعصف به.. لكن ماذا يفعل بعد تلك السيجارة.. لن يهمه اي شئ علي الأطلاق.. بل لعلها تساعده علي حصد روح هذا الأب الغاضب كما قادته، رغما عنه، الي اقتلاع روح الأبن من قبل..

و حانت منه التفاته خاطفة الي الرجل.. كان قد اخرج سيجارة محلية و اخذ في شد انفاسها في ذهن شارد.. كانت نظرات عينيه النارية قد خفت كثيرا.. بل لعلها قد لانت.. و عندما حانت منه التفاته لاحقة، كانت ملامح وجهه قد تراخت هي الأخري، بل.. هل طرف شيء ما عينيه ام ان ذلك اللمعان الذي ظهر في عينيه كان البذرة الأولي لدموع سخنة؟!!

و قبل أن تسقط الدمعة الأولي علي خده، كانت يده الضخمة تمسحها في عنف، ماسحة معها كل ملامح الخنوع التي ظهرت عليه.. فها هو من جديد رابط الجأش، صارم الملامح، ناري النظرات..

و هكذا دواليك..

فكأن الرجل يتذكر فيلين، فيتذكر فيقسو..

 و كأن قلبه مربوط بحبل سري بملامح الكهل.. فما يلبث ان يرتاح مع ملامح الرجل الرحيمة، حتي يضطرب من جديد..

و قبل ” سوهاج” بمحطتين، كان القطار يبطئ توطئة لوقوفه بإحدى القرى الصغيرة.. و انتصب الرجل واقفا و تقدم الي باب العربة القريب، الذي لم يزدحم عليه احد.. و كاد قلبه ان يثب من النافذة، قبل ان تطأ قدمي الرجل ارض المحطة، ذلك ان الرجل لو دقق النظر في ذلك الجالس- و الذي يتدلي نصف جسده خارج النافذة- لكان كل شئ قد انتهي..

لكن شيئا لم يحدث.. و نزل الكهل شارد البال حتي دون ان يلتفت الي موطئ قدميه.. و من نفس النافذة رآه و هو يبتعد علي رصيف المحطة الأسمنتي.. و دامت لحظة طويلة، ظن خلالها ان قلبه قد فقد ضربة او اثنتين.. و دوي صفير القطار.. و انطلق من جديد.. و جذب من وراءه خيطا من الأفكار في رأسه..

و فوجئ الجميع بذلك الغريب المهندم الذي اندس وسطهم من اول الرحلة و قد قام بغتة .. و يقفز من الباب المفتوح للقطار المتحرك..

و بعد رحلة قصيرة من الخطوات المتسارعة، استطاع ان يلمح الكهل الضخم.. كان يسير بتلك الخطوات الواثقة و قد انتصب رأسه فوق قامته المديدة في عزة.. استوقفه احدهم و صافحه في وقار.. اكمل سيره علي الطريق الرملي دون ان يدخل الي القرية.. و خلفه سارت طريدته..

و بعد مسيرة غير طويلة، بدت علي البعد ارض قفر يحدها تل غير مرتفع.. و خلف احدي شواهد القبور اختبأ، بينما تقدم الرجل حتي وقف أمام  قبر ولده.. نزل علي ركبتيه و انهمرت دموعه الغاضبة..

و خائفا من ان تفضحه دقات قلبه العالية، قام في هدوء و اقترب في حذر من الكهل الملكوم.. و حاملا اثقل حجر، دق عنقه بلا رحمة..

و بعد ان تأكد من ان الرجل قد لحق بولده، انصرف في خطوات سريعة، لا يشغل باله الا الطريقة التي يدبر بها سجائر ملفوفة يقضي بها سهرته لتلك الليلة..

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

روائي من مصر

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون