الفنان مصطفى الفقي.. تراجيديا اللون وقوة الخط

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ولد الفنان مصطفى الفقي في عام 1937 في منطقة محرم بك بالإسكندرية. بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، انتقلت الأسرة بالكامل إلى القاهرة، بسبب طبيعة عمل والده. في القاهرة استقرت الأسرة في شارع مجلس الأمة، بحي السيدة زينب العريق، أكمل دراسته الإعدادية والثانوية بهذه المنطقة ذات الطابع الشعبي، واستمر هناك لأكثر من 40 عاما في بناية كبيرة بالقرب من سوق الناصرية القديم، وكان يسكن بالقرب منه صلاح جاهين، وسيد مكاوي، وكانوا يتنقلون بين المقاهي الشعبية، مكاوي يعزف على عوده، وجاهين يدندن بكلماته.

كل هذه الذكريات والرؤى والزخم البصري تجلى في أعمال مصطفى الفقي الفنية، ومشواره الفني الذي تم الاحتفاء به مؤخرا في معرض استيعادي كبير ينتهي في الأربعاء الموافق 22 نوفمبر/ تشرين الثاني، بقاعة ضي (أتيليه العرب للثقافة والفنون) بالقاهرة.
المعرض يضم أكثر من 80 عملاً فنيًا لمراحل فنية مختلفة عبر المشروع الكبير للفنان مصطفى الفقي، بدءا من الستينيات حتى الآن، لكن تبقى المرحلة الأولى من حياة الفقي الفنية هي الأهم من وجهة نظره، لأنها كانت القاعدة الأساسية التي بني عليها مشروعه الفني، ومعرفة الجمهور به، من خلال تعبيره عن المصرية في الفن؛ لذلك تبدو شخوصه متأثرة بمشاهداته المختلفة التركيبات والشخوص، والموضوعات والأشكال في الحي العتيق.

 

مرحلة الستينيات

يستعيد الدكتور مصطفى الفقي ذكرياته القديمة في سوق الناصرية، حيث كان الباعة ينامون بداخل الأجولة خلال الليل، فيتحولون إلى ما يشبه مسوخا أو وحوشا يمكن ملاحظتها في لوحاته، التي تظهر الملامح مطموسة، اختفى فيها  بروز الأنف والفم وأصبح الوجه والرأس أقرب لكتلة كبيرة تنبت من الأكتاف مباشرة بلا رقاب، في تشويه للواقع حتى يظهر بصورة مغايرة تمثل رؤية الفقي التعبيرية الخاصة.
والتشويه كما تعرفه المدرسة التعبيرية هو تشويه قائم على تنوع مصادر الثقافة البصرية، بالإضافة إلى القدرة على إيجاد حلول شخصية يجسد بها الفنان أفكاره ومشاعره دون التقيد بالرسم الأكاديمي، وهو ما يظهر في لوحات الفقي التي يركز فيها على الفيغرز وأوضاع جلوسهم داخل اللوحة، وهي الأوضاع الأشهر للباعة  في الأسواق، يجلسون للتسامر وتقضية الوقت، أو تناول الطعام، أو عرض بضائعهم.
تظهر ثنيات الجسم، وانحرافاته بوضوح في لوحات الفقي، بما يعني أنه لم يتنازل كليًا عن فن الرسم لصالح التعبير الذي يعطي حالة من الوحشة والسوداوية في لوحات الفقي في المرحلة الأولى والتي تعبر عن السوق تحديدا، بشكل يعيد بناء الواقع بصورة تراجيدية أكثر إثارة للمشاعر.
يفضل الفقي غالبًا وجود حكاية وراء اللوحة، ويتذكّر كل العوالم التي أثرت به، مثل السرجة التي يتم بها تصنيع الزيوت والعسل، يقول الفقي: “كانت السرجة مكانًا واسعًا كبيرًا، انطبعت ألوانها على وجوه وأجساد العاملين بها، فأصبحوا كأنهم جزء منها، أما السقف فاكان مكونًا من عروق الخشب المتجاورة، وكان الضوء يتسرب من بين فتحات الخشب، في شكل آشعة يتحرك بداخلها التراب والزيوت والهوام، وكان هو يجلس بداخلها ليراقب حركة الضوء وحركة البشر، ليخرج منها كأنه يغادر عرضا مسرحيا، وتظهر اللوحات كأنها أجزاء من مشاهد مسرحية، تدور في أسواق خيالية.


المناظر الطبيعية في لوحات الفقي

تمثل المناظر الطبيعية جزءًا أصيلاً في تجربة الفنان مصطفى الفقي، ولا تمثل مرحلة واحدة بل هي مستمرة خلال مشروعه الفني بشكل عام، لكنها تتغير بتغير الأماكن التي يتفاعل معها.
المناطق الشعبية المصرية في منطقة القلعة والسيدة زينب، والغورية والأزهر والحسين، تعتبر بداية رسم المناظر الطبيعية عند الفقي. ويذكر أنه في بداية تخرجه كان ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة، وسلّمه مع العديد من فناني تلك المرحلة مثل حامد ندا، وعبد الوهاب مرسي، وأحمد نبيل، وصبري منصور، أتيليهات للعمل بقصر المسافر الخانة الأثري. كان الفقي يرسم المناظر الشعبية والبيوت القديمة على مدار اليوم، ينتقل من مكان لآخر، ومن منظر لمنظر، يسجل اسكتشات ولوحات دون عدد، يراقب أثر الضوء على المباني، والتحول الذي يحدث لها في الظلام، يرسم المناظر في المناطق القديمة بعدد محدود من الألوان يتراوح بين درجات البني الغامق والأوكر، كأنه يحاول توصيل تقشف الواقع عن طريق التقشف والتحديد في استخدام الألوان مع البساطة وعدم التكلف، بالإضافة إلى التركيز على الجو العام والشكل أكثر من تركيزه على التفاصيل. كان يرى في الطبيعة المصرية بيئة حافلة بالمناظر المختلفة لذا كان يستعمل خامات متعددة، مثل ألوان الزيت والأكريليك، أو حتى ابتكار تقنيات خاصة به مثل خلط الألوان مع عجينة النشا وتطبيقها على اللوحات، ثم الحفر بداخلها بالسكين ليحصل على ملمس أكثر خشونة ووحشية.

  عندما سافر الفقي إلى إيطاليا لدراسة الدكتوراه، أصبح اللون أكثر نقاءً ونصوعًا، وبالرغم من تشابه المناخ العام لإيطاليا مع مصر في ذلك الوقت، إلا أن الألوان الترابية تراجعت، لصالح الألوان الأكثر بريقًا، بالإضافة إلى التعمق أكثر في التقنيات التي كان يعمل الفقي على تجريبها، ليعبر عن الجبال و الصحاري، وأمواج البحر المتلاطمة، بضربات قوية من السكين على عجينة اللون الواحد.
الرحلة التالية كانت لتركيا، والتي كانت تختلف عن مصر وإيطاليا، يذكر أنه بالرغم من وجود الكثير من العوامل الثقافية المشتركة بين مصر وتركيا خاصة في الحصيلة اللغوية المتبادلة نتيجة العلاقات التاريخية بين مصر وتركيا، إلا أنها تعتبر محطة فاصلة ومختلفة تمامًا عن الجو الذي اعتاده، وكان يجلس لساعات طويلة يرسم في مناطق بعيدة، في أماكن غير معتادة، حتى اللوحات أصبحت أكثر وضوحًا واختفى منها الضباب والألوان الترابية، التي كانت تظهر في المناظر الخاصة بمصر وإيطاليا، إلى حد ما، لتصبح الخطوط أكثر وضوحا، خاصة في تلك اللوحات التي تظهر الجبال والبيوت التركية بالسقوف القرميدية الحمراء، والطرق السريعة بين الجبال والأشجار الباسقة.

 

التأثير الروحي للمملكة العربية السعودية على مشروعه الفني

قضى الفنان مصطفى الفقي بالمملكة العربية السعودية 6 سنوات، يدرّس مادة الرسم والتصوير لطلبة كلية إعداد المعلمين بالمدينة المنورة، ويتذكر أنه في لحظة خروجه من المطار إلى السيارة، وجد حمامة بيضاء ترافقهم في الرحلة على مقدمة السيارة، حتى وصلوا إلى الحرم النبوي؛عند هذه اللحظة تركت الحمامة السيارة وطارت إلى القبة الخضراء، وكأنها تعرف طريقها جيدًا إلى هناك.
كانت ملاحظة الحمامة البيضاء، بداية مرحلة جديدة أكثر روحانية، وتأثرا بالتراث الديني بالمملكة، واللون الأبيض متمثلاً في ملابس الرجال هناك، بالإضافة إلى الضوء القوي للشمس، والأرضيات الرخامية البيضاء للحرم، كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى تشبع الفقي بالعلاقات بين الإضاءات، والعلاقات بين أجساد البشر في الصلاة والطواف، ومحاولات البحث التشكيلي في تلك العلاقات برؤية فنان يملك الكادر البصري بشكل كامل، ويسيطر عليه ليعيد تشكيله من جديد داخل اللوحات التي تجسد شعائر العمرة، ومناسك الحج، وجبل الصفا والمروة، والأسواق المجاورة لتلك المناطق، والتي طغى على أغلبها اللون الأبيض.

 يعود الفنان مصطفى الفقي إلى الحمامة ليصورها في العديد من اللوحات التعبيرية، التي تمثل الحمام في تكوينات فردية أو جماعية تشبه حالة تصوف أو ذكر جماعي بين الحمام الذي يظهره الفقي في لوحاته في ما يشبه حالة من الحوار، وفي بعض الأوقات المراقبة.

 تطغى على اللوحات الألوان الداكنة إلى حد ما، مع خلفيات يتداخل فيها ظلال الحمام مع ألوان السماء المضببة، ليظهر الحمام كبطل أساسي بداخل اللوحة، مع لونه الأبيض الناصع الذي يتناغم مع بعض الضربات القوية من الفرشاة بألوان مثل الأصفر الساطع، أو البرتقالي، ليستعيد الفقي من جديد حبه الأول للوحة التي تمثل مشهدا مسرحيا من حكاية ما، ويظهر ما يمكن أن يطلق عليه الروحانية في الفن، مع التشديد على التأثيرات النفسية لكل لون، خاصة مع الاستغناء عن الألوان المصقولة شديدة النقاء، واعتماد أنساق لونية أكثر درامية.

 

التجريب في لوحات الفقي

 يمثل التجريب بالنسبة لمصطفى الفقي الفسحة التي يحرر فيها عقله بين المشاريع الفنية الكبرى، ويحاول من خلاله استكشاف جوانب الرسم والتلوين غير المستكشفة دون مراعاة دافع فني أو هدف باطني، لكن يركز فقط على النتائج التي تظهر بالصدفة من خلال التجربة، مثل أثر الفرشاة أو السكين، لتخرج لوحاته التجريبية بشكل حداثي، يتسم بالتلقائية والقوة، إلا أن ضربات الفرشاة والسكين في أحيان كثيرة تترك انطباعًا ثلاثي الأبعاد بدقة تعبر عن فنان أكاديمي يتنقل برغبته الشخصية بين أدوات وتقنيات مختلفة، الأمر الذي يظهر بوضوح في التباين الكبير بين الأعمال المعروضة بقاعة العرض، والتي لم تستوعب بعض المشاريع الفنية الأحدث للفنان مصطفى الفقي، لذلك فضل الاحتفاظ بتجاربه الجديدة من الرسم والكولاج لمعرض منفصل يقدم فيه مشاريعه الفنية الأحدث غير المعروضة بعد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر في موقع ضفّة ثالثة 

مقالات من نفس القسم