“الفشل في النوم مع السيدة نون” لممدوح رزق.. الكتابة في غرفة المرايا

"الفشل في النوم مع السيدة نون" لممدوح رزق.. الكتابة في غرفة المرايا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

لا أظنه من السهل عليّ الآن، أو سيكون سهلاً على آخرين غيري، الكتابة عن رواية ممدوح رزق، الفشل في النوم مع السيدة نون، والصادرة مؤخراً عن الحضارة للنشر، ليس فقط لأن أرض السرد هنا وعرة أحياناً وزلقة للغاية أحياناً أخرى، وليس فقط لأنها كتابة تكشف نفسها بنفسها، ليس لديها أسرار أو شفرات أو دلالات تتنظر في خفر كالعذارى أن يتم فضها وتأويلها وإعادة تأويلها، وربما أيضاً لمقدار السخرية والتهكم الذي خصّ به الروائي كل محاولة مفترضة في المستقبل للكتابة عن الرواية مستبقاً الأحداث والنوايا والاجتهادات بشجاعةٍ ورعونة تميزت بهما الرواية من البداية للنهاية.

إننا أمام ضفيرة سردية من خيطين متواترين، يشغلان حيز السرد بالتناوب فيما بينهما، أولهما فصول مرقّمة من 1 وحتى 15، وفيه نستمع إلى اعترافات حميمة وفضفضة مطلقة العنان من مريض نفسي، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى على الأقل، موجهة إلى طبيبه النفسي، في حالة من التداعي شبه الحر، والمقيّد أيضاً بموضوع أساسي واحد وهو التطوّر الجنسي لهذا الشخص منذ أن كان طفلاً يلعب مع ابنتي خاله في البلكونة وحتى لحظة ممارسته الاستمناء للمرة الأولى، بالتوازي مع هوسه بسيدة شاعرة، هي السيدة نون بالطبع، ورغبته في النوم معها وعدم توفيقه في ذلك على طول الخط، لأسباب معقدة تجمع بين عناصر نفسية واجتماعية وثقافية مختلفة. الخيط الثاني في هذه الجديلة السردية والذي يبدأ مباشرةً من بعد الفصل الأول هو هوامش الطبيب النفسي، الذي ربما يكون أي شيء آخر – حسب عناوين تلك الهوامش – سوى أن يكون مجرد طبيب، فقد يكون طفلا يلعب أو صائغاً من البصرة أو صاحب مقهى باريسي في الثلاثينيات إلى آخر جملة الاحتمالات العجائبية التي لا يبخل بها العمل. وفي تلك الهوامش لا نرقب فقط – كما هو متوقّع – تعليقات وآراء الخاصة حول حالته تلك وحول ما يفضي به هذا المهووس المصاب بالتوتر والهلع والقلق، بقدر ما نجد أنفسنا أيضاً أمام خليط من التأملات الفكرية والثقافية، حول العديد من الأشياء والمنتجات الفنية، وخصوصاً لوحات التصوير الزيتي التي تنتمي للعصور الوسطى، ولهذا سبب خاص ستكشف عنه الرواية مع صفحاتها الأخيرة.

فإذا كان السرد ينشط في الفصول المرقمة نابشاً في وعي ولا وعي بطلنا، متتبعاً محطات وعيه الجنسي الذي تباطأ طويلاً وتخبّط كثيراً، ومتتبعاً كذلك حكايته العبثية تماماً مع السيدة نون، رمز النجاح والتحقق الأدبي بالنسبة له، ولعلّ للنوم معها علاقة بهذا التحقق، تلك الحكاية التي يدور أغلبها في ذهن صاحبنا ولا يقع منها فعلياً إلا مشاهد معدودة لا تؤهل لكل تلك الحمولة النفسية التي ألقى بها عليها صاحبنا المشوّش الذهن. ثم تأتي الهوامش من جانبها لتهيم في تأملات عابثة، تبدو أحياناً على درجة هائلة من العمق والرصانة والمعقولية، وأحياناً أخرى تميل للتهكم والخفة واللعب والسخرية من كل شيء.

ممدوح رزق الكاتب والروائي حاضر في العمل، باسمه وببعض عناوين أعماله السابقة ومقتطفات من كتاباته، بما يوحي أحياناً أنه هو نفسه صاحبنا من تتحدث عنه الرواية، وأحياناً كأنه الأذن الكبيرة – أذن طبيب نفسي أو روائي  من مواليد 1977 ربما – التي تنصت للفيض الخاص بصاحبنا، وسرعان ما يظهر في الفصل الأخير بوصفه صديق البطل القاص الذي يلخّص له حكايته مع السيدة نون وصاحبها المتوفى بالسرطان في باريس، كاتباً إياها في حكاية مستمدة من مصدرين معاً، هما إحدى حكايات الديكاميرون وقصة المدرسة الداخلية لأناييس نن.

بالطبع ثمّة إيحاء بكتابة ذاتية، على طريقة زمن التسعينيات الجميل، الكاتب يلهو بنفسه، يهرش قروحه ودمامله حتى يفقعها متلذذاً. ولكن هناك أيضاً سخرية عارمة وتفكيك منظّم الأداء لهذا الاتجاه في الكتابة، لا يقتصر فقط على تمويه الحكاية في غرفة المرايا التي أشرنا إليها سابقاً ( من يكتب مَن؟ ) ولكن أيضاً من خلال التكسير النظري لأوهام الذات والتاريخ والذكريات، ولعلّ الفكرة الأوضح في هذا الإطار هي تناول الرواي لفكرة الجمال، ما النموذج الخاص بكلٍ منا للجمال؟ وكيف يتشكل ومتى؟ ومن أي عناصر أولية؟ “الجمال هواجس متغيّرة يا دكتور؛ قد تضطرك أحياناً لتصديقها كيقينيات ثابتة حتى تحصل على أدوات مناسبة لهدم أوهامها، ومبالغاتها…”  ثم في نهاية الفقرة ذاتها: “لا وجود لشيء اسمه الجمال يا دكتور.”

بدرجةٍ ما قد نشعر أننا أمام محاكاة ساخرة لفكرة الكتابة الذاتية أو النفسية التي تعتمد أدوات التحليل النفسي والاستبطان والتداعي الحر آليات عمل أساسية لها، حتى ولو أبدلت هذه المحاكاة قناعها الضاحك فجأة في غفلةٍ منا لتضع قناعها الباكي بسرعة، منزلقة دون تمهيد إلى حالة عاطفية من الرثاء للذات والتأسّي، بل النوستالجيا أحياناً، رغم العمل المخلص على تفكيك ذلك كله ونزع أغطيته وأوهامه. كل ذلك لا ينفي نبرة العدمية الواضحة التي تلف الكتابة ككل، وعدم الاستعداد للتسليم إلى شيء أو مقولة واحدة منتهية يمكن الانطلاق منها أو البناء عليها. كل شيء خفيف وهش مثل سحابات صيف عابرة أو غزل البنات، كل شيء مادة صالحة للتهكم والضحك ولو كان هذا ما اعتدنا على تسميته بمشكلاتنا النفسية. “صرتُ كفيفاً منذ اللحظة التي أيقنتُ فيها بأنه لا يوجد فهم، ولا حل ناجح… تحت السماء ليس هناك فرق بين عماء وعماء آخر، وليس هناك من يصل أبداً في الوقت المناسب.”

من كلامنا هنا ربما يبدو العمل أقرب إلى بوفيه مفتوح فيه كل ما لذّ وطاب من عناصر سردية وفكرية، ولعلّ هذا مكمن آخر من مكامن صعوبة التحدّث أو الكتابة عن رواية مشحونة بأبعاد ثقافية وإحالات أدبية وفنية، رواية تتأمل ذاتها وعناصرها بينما تتقدّم في سرد حكايتها، هذا السرد الذي لم تقل متعته وطرافته حتى الصفحات الأخيرة. وبينما تمضي في تأمل ذاتها تقر الرواية بفشل مسبق لأي محاولة من جانبنا في التعرّف على أي عمل أدبي أو فني، وربما أيضاً في التعرّف على الإنسان، أي إنسان، من خلال اللغة والحكي والبوح، رغم أنف أوهام التحليل النفسي بمدارسه. فكأن كل معرفة تظل ابنة الماضي، وبالتالي هي معرفة ميتة، تاريخ مجمّد بين غلافين، يدحضها نهر الزمن الذي يتغيّر ويتحوّل كل لحظة بلا ثبات.

في حرصها على حالة البوح والفضفضة استعانت الرواية بلغة سهلة تجمع في شجاعة بين صيغ الفصحى والعامية وتخلطهما في كل جملة وعبارة دون اعتبار كبير لقواعد، ولا أدري إن كان عدم الاعتناء بحالة اللغة عموماً في الرواية – من حيث الإملاء والقواعد وخلافه – أمراً مقصوداً لذاته أم مجرد أخطاء من التي تملأ أغلب الكتب في الوقت الراهن. ومع ذلك نستطيع أن نلمس حرصاً جميلاً على نحت بلاغة خاصة بالرواية، فالممارسات الجنسية على سبيل المثال لا تظهر كموضوع خارجي يتم تناوله من خلال تجربة صاحبنا ذلك، بقدر ما يتم الاستعانة بها كرافد من روافد اللغة والبلاغة الخاصة بالنص “تلميذان في إعدادي يمسكان صورة سكس داخل مخزن قطارات، ويسيران داخله، ونظرتهما لا تنزاح عنها .. يبدو لي في هذه اللحظة أن مخزن القطارات قد تحوّل – خاصة عند النظر إليه من فوق – إلى قضيب هائل، وأنني، وزميلي قطرتي سائل منوي متواريتين، تذهبان وتعودان بداخله بفرح وخوف وارتباك….”

هل الكتابة مجرد فعل استمناء؟ هل الفشل في النوم مع السيدة نون هو مجرد وجه من وجوه الفشل في التحقق من خلال فعل الكتابة وممارسة الفن على العموم؟ هل مازال ذلك الحائط قائماً ما بين العيش على الورق والحياة الفكرية من جانب والتورّط في معمعمة الواقع من جانب آخر؟ تلك مجرد عينة على أسئلة أخرى عديدة تستطيع قراءة هذه الرواية أن تستثيرها وتلعب معها وتراوغها، دون أن تفقد حكايتها لذتها وخفة روحها. 

 

مقالات من نفس القسم