الفتاة الكمان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

*أعرف فراشة أنقذها الخيال.

 

"الموسيقا أسرع من الضوء، وأجمل من قمر سابح فى السماء".

شهقَت الأم عندما ولدَتْ طفلتها ورأتْ أنها بلا بطن، بدلاً من البطن كان شىء صغير يلمع هناك، تأمَّلَتْه: "كمان قرمزى" بحجم عقلتَى إصبع، همسَتْ: "كمان؟"، مدَّتْ إصبعها إليه لكنها خشيت أن تلمسه فينكسر، تذكَّرَتْ الموسيقا التى سمِعَتْها تخرج من رحمها أثناء ولادتها الطفلة، كانت الموسيقا تتصاعد تدريجيًا مع كل جزء يظهر من طفلتها، حتى خرجَتْ منها كاملة ومعها حفنة من موسيقا سائلة سرعان ما تلاشت، وبقيَت الطفلة الوليدة.

“موسيقا كمان”، هَمَسَتْ الأم، نظرَتْ إلى طفلتها وضحكَتْ ضحكة قصيرة، ضمَّتها إليها، حاولَتْ أن تُرضعها، لكنَّ الطفلة زمَّتْ شفتيها، كما أن ثدى أمها لم يمنحها قطرة لبن واحدة، سمعَت الأم صوت كمان يأتى من بعيد، أمالت الطفلة رأسها إلى الجهة التى تأتى منها الموسيقا، استمرَّت الموسيقا عدة دقائق، بعدها أغمضَت الطفلة عينيها بارتياح، ونامت.

تستيقظ الطفلة من وقت لآخر، وبدلاً من أن تمسك ثدى أمها تميل برأسها إلى موسيقا كمان تأتى من بعيد، أدركَت الأم أن طفلتها تتغذَّى على الموسيقا، ولهذا لم يكن فى صدرها أىُّ لَبَن لأجلها من البداية.

 خلال السنوات السِّتْ الأولى من عمرها كانت الطفلة تداعب أوتار كمانها بأصابعها، تعزف مقاطع قصيرة غير مكتملة وتشعر أن هناك شيئًا ناقصًا، وفى الليلة الأولى من عامها السابع حصلَتْ على ما ينقصها: شعرَتْ بشىء لطيف يتمدَّد تحت جلدها عند بداية عمودها الفقرى، لم يؤلمها، تحسَّستْه قليلًا، ضغَطَتْه بأحد أصابعها فخرجَتْ مُقدمتُه من قمة ظهرها، سَحبَتْه بسهولة، كان “قوس كمان” لا يتجاوز طوله عشرة سنتيمترات، لونه فضىّ، شفاف، وبه درجة مرونة خفيفة كأنه مزيج من عظام وغضاريف، شعرَتْ أنه ما تحتاج إليه كى يكتمل عزفها، وجدَتْ نفسها تضعه على أوتار الكمان، وبدَأَتْ، كان هذا أول مقطع موسيقى كامل تعزفه، دخلَتْ أمها عليها حجرتها، ظلَّت تتأملها، بَكَتْ لجمال الموسيقا، وبسرعة تجمَّعَت كل كائنات البلدة: بشر، طيور، حيوانات، أشجار، وشوارع.

بعد تلك الليلة، وعلى فترات متقاربة، تأتى فتيات فى مِثل عُمْر الفتاة، غريبات عن البلدة، وكلٌ منهن معها كمان تعزف عليه، يقفن تحت نافذتها، يواصلن العزف، وينادينها: “يا البنت الكمان، تعالى”، تعزف معهن الطفلة، بينما تُحْكِمُ الأم إغلاق النافذة وتخرج لتُبعِدهُن.

حاولَت الفتيات اقتحام البيت مرات كثيرة، فكانت الأم تضع خلف الباب بعض قطع الأثاث، أو تَصُدُّه بظهرها عندما يُفاجئنها، تسمعهن وهُن يبكين تحت نافذة طفلتها، فتضم الطفلة إلى صدرها وتُخبئها هناك، وعندما يتعالى بكاؤهن بالخارج، ونداؤهن: “يا البنت الكمان، تعالى”، تخرج إليهن وتطاردهن بغصن جاف حتى يبتعدن، كانت حريصة ألا تؤذى أيًا منهن كى لا تَحزَن طفلتها.

تتجوَّل الطفلة فى البلدة وتعزف، يحبون موسيقاها، تفتح نافذة حجرتها ليلاً وتعزف، فتفتح البلدة كل نوافذها وأبوابها، يجلسون أمام بيوتهم أو فى أىّ مكان يُفضِّله أىٌّ منهم فتصلهم موسيقاها، تعزف فى أفراحهم، أعيادهم، وأيامهم الخاصة دون مقابل، فقط لتُسعدهم.

   أحيانًا، تمنع الطفلةُ أُمها عن مطاردة الفتيات بأن تتشبَّث بحضنها، فتبقى الأم بمكانها، وتراقب فى وجه ابنتها شجنًا عذبًا، بينما تستمر الفتيات فى العزف طوال الليل، وعند بدايات النهار ينصرفن بنهنهات مُتقطِّعة.

كان لدى الطفلة لحن خاص يجعل أهل البلدة يطيرون، تُرقِّقُ الموسيقا أجسادهم وتمحو كثافتهم، أو تحملهم بنفسها لأعلى، ثم تهبط بهم تدريجيًا فى نهاية العزف، لدى الطفلة أيضًا ألحان للمشى فوق الماء، الصعود إلى القمر، وأشياء أخرى.

      لم تتوقف الفتيات عن المجىء، يكبرن مع الابنة، وتتنوَّع الموسيقا، تلك الموسيقا التى صارت الأم تشعُرُها بعُمق، وتعرف أن شيئًا ما سيحدث يومًا ما.

 حدث ذلك الشىء عندما بلَغَت ابنتها السابعة عشرة من عمرها، فى تلك الليلة عزفَت الفتاة أكثر وأجمل من أيَّة ليلة، وبَكَت الأم أجمل وأكثر من أيَّة ليلة، دخلَت الفتياتُ البيتَ واحدة بعد أخرى وكلٌ منهن تعزف على كمانها، لم تطردهن الأم، توقفْنَ حول سرير الفتاة، عزفَتْ معهن، تجمَّعَت كائنات البلدة: بشر، طيور، حيوانات، أشجار، وشوارع، استمعوا إلى الموسيقا، بَكوا لجمالها، وقبل نهاية الليل غادرت الفتاة.

 مشَتْ فى اتجاه غير الذى مَشَتْ فيه الفتيات، فعلَتْ ذلك بتلقائية، لم تكن تريد ولم يُرِدْن لها أن تكون معهن، ولكن أن تتجوَّل فى العالم مع تجربتها الخاصة.

تتجوَّل “الفتاة الكمان” فى العالم حافية، بلا طعام أو ماء، ترتدى قميصًا مُلوَّنًا، بلا أزرار، سوتيان صغير مرسوم فيه كمانات صغيرة، يمكنها أن تنام واقفة، تبدو أثناء نومها مثل شخص مُسترخٍ يستمع إلى موسيقا، تستحم فى الأنهار والمياه الجارية التى تصادفها، فتطفو حولها قطعٌ موسيقية مثلما كانت تتساقط من جسمها وهى تستحم صغيرة، وفى المسافة بين قفصها الصدرى ونصفها السفلى يتألّق كمانها القرمزى، وقوسه الفضىّ بين أصابعها، تعزف بتلقائية، وتسمح لجمهورها بالعزف عليها. 

أحيانًا، تنظم مسابقات عشوائية فى شارع أو ساحة عامة: تعطى جمهورها قوسَها ليعزفوا على كمانها، يعجبها أن يحصلوا على الموسيقا من جسمها، أنْ يمسك أحدهم بقوس الكمان المخلوق منها، تحب أن ترى فى أرواحهم ووجوههم كل هذه السعادة بالموسيقا، عندما يتعثر أحدهم فى العزف، تطلب منه أن يُجرِّب من جديد، تمسك القوس معه قليلاً وتقول: “هكذا، أرأيت؟ سهل جدًا، الموسيقا أسهل شىء فى العالم”.

بعض الرجال، ولديهم الحق برأيهم، يتساءلون عمّا بين فخذى الفتاة، هل يمكن أن تصدر عنه الموسيقا عند ملامسته مثلاً؟ يسألونها عن ذلك بطريقة مُهذَّبَة أحيانًا، أو بأسلوب فاحش، فتردُّ بفُحْش مَرِحْ لا يتوقعونه، ذلك الفُحْش الذى يمنع أيًا منهم أن يمدَّ يده إليها، كانوا يُرجِّحون أنْ لو لمَسَ أحدهم ما بين فخذيها أو ضغَطَه أو قبض عليه للحظة فستصدر عنه الموسيقا، كان فُحْشها المُضحِك، المُباغِت، وأحيانًا خجلها الذى يصدمهم عندما يتوقعون ردًا فاحشًا، كل هذا يمنع مَنْ يفكرون فى الدَفْع بأيديهم ولو للحظة إلى مكانها المُغوى، الغامض، الذى لن يستطيع أحد أنْ يُقنعهم بأنه خالٍ من الموسيقا.

“الموسيقا أسرع من الضوء”، تقول “الفتاة الكمان” وتشرح: لو أنَّ شخصًا بدأ يعزف الموسيقا فى اللحظة نفسها التى تُشرق فيها الشمس، فإن موسيقاه ستصل إلى الشمس قبل أن يصل ضوؤها إلى الأرض، طوال عمرها تحاول الشمس الوصول بنورها إلى الأرض أسرع من وصول الموسيقا إليها، لم تنجح أبدًا، ولا يزعجها هذا، ليس لديها مشكلة أن تكون الموسيقا أسرع منها.

“الموسيقا أجمل من قمر سابح فى السماء، أو مُسْتلقٍ على ماء”، تقولها “الفتاة الكمان” وتصحب جمهورها إلى بحيرة هادئة يستلقى القمر على سطحها، وفوقها سماء صافية يسبح فيها القمر، تعزف لهم، لن تسألهم أيهما أجمل، الموسيقا أَم القمر فى السماء والبحيرة، فقط تريدهم أن يُجرِّبوا الموسيقا مع قمر سابح فى السماء ومُسْتلقٍ على الماء.

“الموسيقا ألذُّ من توت مُحَلَّىَ بالندى”، تقولها “الفتاة الكمان” وتُخرِج من كيس قطنى صغير حَبَّات توت طازجة مُحَلاة بالندى، توزِّعها على جمهورها، لن تسألهم أيهما ألذّ، الموسيقا أَم التوت المُحَلَّىَ بالندى، فقط تريدهم أن يُجرِّبوا الموسيقا مع التوت المُحَلَّىَ بالندى.

أشجار التوت لن تغضب من “الفتاة الكمان”، لا الشمس ولا القمر ولا البحيرات، هم يستمتعون بموسيقاها، ويعرفون أنها لا تقصد المقارنة بينهم وبين الموسيقا، هى لا تحب المقارنة بالأساس مثلما يعرفون عنها، فقط تلاعبهم، وتريد أحيانًا أن تجمع عِدَّة كائنات جميلة معًا، يُسعدها أن ترى حِزمة من الجمال مثلما تحب أن تنفرد مع كائن جميل واحد.

أحيانًا، ترتعش أصابع “الفتاة الكمان” أثناء عزفها، يرون دموعًا جميلة فى عينيها وعلى خدَّيها، تبكى لجمال الموسيقا، يبكون معها، مع موسيقاها، بكاء صامت مُحَلَّىَ بابتسامة خفيفة، يبكى العالم بعذوبة، ويدرك مرة بعد أخرى كم هو جميل، الموسيقا تجعل العالم يدرك كم هو جميل: البكاء من روعة الجمال، الموسيقا جميلة حَدَّ البكاء أحيانًا، حدَّ الابتسام والضحك أحيانًا أخرى، الموسيقا جميلة بلا حَدّ فى كل الأحيان.

يحكى لها البعض عن “الرجل البيانو”، يصفونه لها: “صدره عبارة عن أصابع بيانو قديمة وفاتنة، وقلبه قطعة موسيقية مُتجمِّعة”، يقولون لها إنَّ كلامه عن الموسيقا يشبه كلامها، يتأسَّفون لأنهم لا يحملون صورة له، أو تسجيلاً لموسيقاه، فهو مثلها لا يظهر فى الصور التى يلتقطونها له، ولا يمكن تسجيل موسيقاه، يخبرونها أنه يترك فى كل حركة منه أثرًا موسيقيًا يتلاشى بعد لحظات، رغم ذلك يمكنها أن تلحق بأحد هذه الآثار يومًا ما، وعندها سيكون “الرجل البيانو” نفسه قريبًا جدًا منها، يقولون لها إنهم حكوا له عنها، وأنه ابتسمَ وعزَف لهم.   عندما يسألونها عن رأيها، وإنْ كانت تريد أنْ يُبلِّغوا “الرجل البيانو” رسالة منها، تبتسم “الفتاة الكمان” وتعزف لهم.

…………………………………

*من مجموعة “عشرون ابنة للخيال”،تصدر  قريبًا عن “بتانة” بالقاهرة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون