“العود الأبدي” بين الرواية والفلسفة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 33
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

اشتباك الفلسفة مع الأدب ليس جديداً على الإطلاق، تستوي في ذلك محاورات أفلاطون بمراحلها الفكرية المتنوعة السقراطية، الإنشائية، الديالكتيكية، والتي صاغ فيها أفكاره الفلسفية بصورة ممسرحة ذات حوارية أدبية عالية، وقيمة فنية لا تُنْكَر، حيث كان كَاتِبًا مُجِيدًا، وأديبًا مُحَنَّكًا، قبل أن يكون هذا الجبل الفلسفي الكوني، لكنه لم يَدَعْ العمل الأدبي البحت، وإنما كان الأدب مجرد وسيلة للتعبير عن  أطروحاته الفلسفية الخالصة، مُرُورًا بجان بول سارتر الذي تباينت أحجام النصوص الفلسفية الصريحة في أعماله الأدبية، متنوعة الاجناسية من مجموعات قصصية كـ(الحائط) ورواية كـ(الغثيان) ومسرح كـ(الذباب)، نهاية بنجيب محفوظ، حيث انسابت الفلسفة انسياب الدم بشرايين القلب، ولكن على نحو غير منظور كسابِقْيِّه، وحيث طغت الفلسفة بنسب متفواتة في أعمال سارتر، وكأنه كان في صراع مستمر بين كونه فيلسوفًا، وأديبًا، فيتغلب الفيلسوف على الأديب أَحْيَانًا، ويتغلب الأديب على الفيلسوف بعض حين.

ليبقى النص الأدبي مُنحازًا لذاته، بتوفر معاييره الخاصة، شديدة الذاتية فقط، ويفقد قيمته كلما انحاز كاتبه لغير معاييره الأدبية فامتدت انحيازاته للفلسفة أو غيرها من المجالات المعرفية الأخرى، ولذلك كان نجيب محفوظ، هو الفيلسوف المتخفي تَمَامًا في الأديب، المنتمي نِهائِيّا للأدب بمعاييره النصية بتعدد أجناسه من القصة التاريخية، والقصيرة، والرواية، فمع كونه يروج لفلسفته أَيْضًا، إلا أنك تستمتع غاية الاستمتاع  كمتلقٍ عادي بقراءة نصوص محفوظ الأدبية، فكان انحياز الادب لمحفوظ مُسَاوِيًا لانحياز الأخير له، فلا تفطن إلى البعد الفلسفي إلا إذا نبهك أحدهم، أو كنت على درجة من التأهيل الفلسفي، بخلاف سارتر حيث تحتاج قراءة أعماله كَثِيرًا من الصبر، والمعاناة لكونك تطلع على فلسفة تحاول أن تكون نَصًّا أدَبِيًا، فعاقب الأدب سارتر بهذا الثقل الشديد الذي يعانيه المتلقي بقراءة أعماله لكونه لم يكن مُنْتَمِيًا، بكليته، لمعايير الأدب، وحاول تغليب الفلسفة.

فكيف ستكون نسب انتماء الكاتب محمد راشد وعمله الروائي “العود الأبدي” ولأي مدرسة كتابية سينتمي، لسارتر) أم لمحفوظ؟ ف(راشد) تخصص في الفلسفة كمحفوظ، وعمل بها، وكتب كمحفوظ المقال الفلسفي الخالص بأكثر من دورية فلسفية، ثم اتجه كاتجاه سيد الرواية الأعظم لكتابة الرواية.

نبدأ من عنوان الرواية، وعتبة النص الأولى (الْعَوْد الأبدي) الذي يجسد أحد أهم الأطروحات التي تناولتها الفلسفة ببحثها المستمر لفكرة الزمن (الْعَوْد الأبدي) هل يسير الزمن في خط مستقيم باستمرارية سرمدية، أم أن مسار الزمن دائري، تكراري، حتمي المسار؟.

تناولت الفلسفات الهندية القديمة الأبدية، والخلود،  وانتصرت لفكرة عودة الزمن، ودائرية سيرورة حركته، ليتلقفها الفيلسوف نيتشه في كتابه “هكذا تحدث زاردشت” مواسيًا الإنسان، ومعوضًا له عن إمكانية الخلود، ومطمئِنًا رعبه الفطري حيال العدم والفناء.

أَيْضًا يلجأ نيتشه للعرض الأدبي لفكرته الفلسفية الأساسية وهي أن فكرة الأبدية، والخلود ما هي إلا تكرار لا نهائي للزمن ينتهي ليبدأ من جديد، وأن (الآن) لقاء محقق للماضي، والمستقبل…

“إن كل اتجاه على خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب، فالحقيقة منحرفة لأن الزمان نفسه خط مستدير أوله آخره.”. (هكذا تحدث زاردشت).

فكل من الكون، والإنسان،  وكل ما يحيط بالإنسان، ويكتظ به الكون سيُعَاد خلقه من جديد بعد موته و فنائه المؤقت، وتلك الدورة المستمرة سماها نيتشه (العود الأبدي) ( Eternal Recurrence) فكل ماحدث سيحدث مرة أخرى، وبعدد لانهائي مطرد بلانهائية سيرورة الزمن الدائرية ذاتها، فلا نهاية، ولابداية للزمن، وإنما هو تكرار حتمي سرمدي أَبَدًا.

يقول نيتشه في كتابه(هكذا تحدث زاردشت )

ما غريب عنا يازارا، فأنت تقول بأن جميع الأشياء تعود أَبَدًا ونحن منها عائدون، وبأننا وجدنا من قبل مِرَارًا لاعداد لها، ومعنا جميع الأشياء أَيْضًا…》

انظر إلى هذا الباب فإن له واجهتين، وهنا ملتقى مسلكين لم يبلغ إنسان أقصاهما، أحدهما منحدر يمتد إلى أبدية، والآخر مرتفع يمتد إلى أبدية أخرى؛ المسلكان يتعارضان متقاطعين عند هذا الباب، وقد كتب اسمه على رتاج واحد(الحين ) 》

وما المسلكان غير الماضي وهو المنحدر، والمستقبل وهو الممتد، يلتقيان بتكرار مستمر في (الآن).

يقول (نيتشه) على لسان زاردشتسيأتي يوم فيه تعود من جديد سلسلة العلل التي أنا مشتبك فيها وستخلفني من جديد، وأنا نفسي سأكون من بين علل العود الأبدي… 》

فمع العنوان تتضح انتماءات (راشد) الفلسفية وتظهر بجلاء لا لبس فيه، لنبدأ في الإبحار مع النص ذاته…

تبدأ حبكة الرواية بمشهد سفينة ترسو بعد طول إبحار على شاطئ أحد الجزر المهجورة المجهولة وسط المحيط، تحمل خمسة أشخاص، لا يعلمون من أين أتوا، ولا إلى أين وجهتهم، قد محيت ذاكرتهم وبدأت وقت رُسوهم، ثلاثة منهم (زلنبور، صفائيل، سلفادور )  يمثلون بترتيبهم  ثلاث أفكار متصارعة الدين، العلم، السلطة السياسية، ويمثل الاثنان الآخران العامة المهيمن عليهم بالدين والعلم والسلطة، لنرجع مرة أخرى لموضوع فلسفي آخر ناقشته الفلسفة الهندية القديمة، الإغريقية والإسلامية وتنوعت وجهات النظر ما بين توافق وتضاد بتنوع  البيئات، والخلفيات الثقافية والمعرفية.

إلى أن تغلب العلم في النهاية، وانفصلت السلطة السياسية عن الدين بعصور النهضة الأوروبية لتتصدر فلسفة التجريب، -بعد تراكمات فلسفية وفكرية، وتجارب بشرية مهولة- على يد (بيكون) بتنويعاتها المتعددة، وبإسهامات الكثير من فلاسفة العصر الحديث، المشهد حتى الآن .

ليكتشف الثلاثة هلاك كل سكان الجزيرة بانتحارهم الجماعي بإلقاء أنفسهم في أحد البراكين، وبعد توزيع الأدوار، ننتقل مع الكاتب لنتخطى ألفا ومائة عام، حيث عمرت الجزيرة، وأصبحت مأهولة، على درجة عالية من الرخاء والتقدم يحكمها الجيل التاسع من أحفاد الحكام الثلاثة، تسير الأمور كما يرام، ونصل لذروة الحبكة بمفاجأة اختفاء المرض، وعدم الموت بالمرض، فلا يتاح الموت إلا بالانتحار أو القتل، لتضج الجزيرة بالمفاجأة.

يحاول العالم تفسير الظاهرة بأجواء ننتقل بها مع الكاتب إلى مايشبه الخيال العلمي، في حين يستغل رجل الدين، ورجل السلطة الظاهرة لتوطيد سلطتهم، استدل بها رجل الدين كَذِبًا كونها منة من الله، وعلامة الرضا الإلهي عليه، وعلى سكان الجزيرة، واستدل الحاكم بها معيارا لمدى الرقي والسعادة التي وصلت إليه الجزيرة على عهده، إلا أن فكرة الأبدية تمثل كابوسًا يجثم على  صدور سكان الجزيرة، ويستبد بهم الملل، وتنتشر حالات الانتحار بالجزيرة، وتسود الفوضى، ليضع كاتبنا مقدمته  في صورة سؤال هل اختفاء معاناة الإنسان من الأمراض المفضية إلى نهايته، وضمان الأبدية سوف يجني بهما الإنسان السعادة المبتغاة؟

لتطول المنولوجات الفلسفية المناقشة تلك الفكرة وغيرها من الأفكار عن أيهما الأجدر بالإجابة عن سؤال الوجود…كيف وُجِد،أم لماذا وُجِد؟ لتركز الفلسفة التجريبية على الكيفية، بينما ركزت فلسفات الماورائية عن سبب الوجود ذاته وغايته..

أيهما الأجدر بالبحث أهو لماذا أم كيف؟ لماذا نشأ الكون وما الغاية من وجوده، وما الهدف الأسمى للبشر، أم كيف يعيشون فيه؟…》

وعن جدوى الأخلاق، ونشأتها والهدف منها …

الأخلاق ماهي إلا مجموعة من القواعد والقوانين وضعها البشر بأنفسهم، واتفقوا عليها بأنفسهم، واتفقوا عليها لتحقيق مصالحهم الخاصة، وتحقيق أفضل طريقة للتعامل فيما بينهم…قوانين وضعها بعض البشر، ولم يتفق عليها كل البشر.》

وعن عبثية الوجود، ولا أخلاقية البشر الفطرية…

النظام هو الحل لعبثية الكون والبشر، الكون عابث وغير مهندم، ملئ بالعيوب، والبشر كذلك…البشر ليسوا أَخْيَارًا بطبعهم، يقال أن الإنسان كائن أناني شرير بفطرته، وإن تصنع الرقي والتحضر، حتى يوضع في اختيار بين مصلحته الخاصة، ومصلحة الآخرين، حينها بكل توحش يختار مصلحته الخاصة…”

هكذا تتواتر النصوص الفلسفية البحتة المشيرة لفلسفة (محمد راشد) المتشائمة، المشربة بالعدمية القحة.

ثم يرتد بنا كاتبنا ثانية للأمام أَلْفًا ومائة عام ليفسر لنا كيف جرت الأمور في بدايتها حينما قرر الثلاثة حكم الجزيرة…كيف اصطنع رجل الدين الأول كذبته الأولى، وكيف طوع رجل السلطة كذبة رجل الدين لتوطيد دعائم سلطته وكيف تجاهل رجل العلم الكذبة مع علمه بها، وسار في طريق تجاربه، وكيف باغتتهم السفينة العملاقة بما تحمل من بشر وحيوان لتعمير الجزيرة، ولتوضيح بدايات الحكاية…

يحاول (راشد) اختصار تاريخ الكون بوضع شريحة ميكروسكوبية هي تلك الجزيرة ،(تاهيمنس) تعني الغموض، تحت مجهر فلسفته المتشائمة، ليفسر بها أحداث التاريخ الكبرى مع أول جريمة قتل تمت في تاريخ البشر الدامي، وكيف أسس الإنسان لسلطته ولوجوده الذي اختلق له مايناسبه من مَعَانٍ.

 (الآن) الروائي عند (راشد) هو ذات الآن النيتشوي هو ملتقى الماضي والمستقبل المتعاقب كالليل والنهار في دائرية غير منتهية، فنهاية الحبكة أنه ومع انتشار الفوضى يكتشف العالم أن اختفاء المرض ماهو في حد ذاته إلا طفرة فيروسية ليكتشف عقاره الذي سوف يقضي به على تلك الظاهرة ليعود الإنسان لطبيعته، ولكون هذا الاكتشاف فَاضِحًا لأكاذيب رجل الدين فسوف يتخلص منه ومن عقاره … ليصم الآذان صوت مجهول المصدر …

مُعْلِنًا النهاية، وفشل البشر في تجربة وجودهم …

سيموت الجميع،وسيأتي غيركم ليحلوا مكانكم، ولنر ماذا سيفعلون…》

لينتحر كل سكان الجزيرة وتعود الجزيرة كما كانت وكأن لم يَخْطُ عليها بشر، وتبدأ الحكاية من جديد مجسدة دائرية الزمن، والتاريخ…

وفي الأفق البعيد، وعلى الطرف الآخر للجزيرة صوت سفينة كبيرة تقترب، قادمة إلى أرض الجزيرة …على متنها خمسة من البشر اثنين من العامة، وقائد، وعالم، ورجل دين…》

 حاول راشد جَاهِدًا طوال روايته الموازنة بين الفيلسوف والروائي،  وأراه قد نجح في ذلك، فجاورت عناصر التشويق، والإثارة، والترقب  منولوجاته الفلسفية العميقة المناقشة لأعمق الأطروحات الفلسفية بلغة بسيطة معبرة، بعيدة كل البعد عن التصنع، والتحذلق، والجمود.

 (محمد راشد) من شباب الكتاب الواعدين، الحاملين لهموم الكتابة، والفكر، والمعبرين بكل صدق عن أزمة المركزية القاهرية التي تحولت لمركزية المركزية فكل من هو خارج الوسط المكاني المتمركز في (نصف البلد ) هو متجاهل مطرود من المنظومة الكتابية، والثقافية.

(محمد راشد) من مواليد محافظة المنيا بصعيد مصر الثري بقدرات وإمكانات كتابه وأدباءه، من مواليد 1989 تخرج في كلية الآداب قسم الفلسفة، و(العود الأبدي) هو عمله الروائي الثالث.

مقالات من نفس القسم