العندليب والوردة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
قصة لـ "أوسكار وايلد" ترجمة: سارة العناني "قالت أنها سترقص معي إن أحضرتُ لها ورودًا حمراء،" صاح التلميذ الشاب؛ "لكن في كل حديقتي لا توجد وردةٌ حمراء." من عشها في شجرة البلوط الأخضر، سمعته العندليب، ونظرت خارجـًا عبر أورق الشجرة متسائلة. 

“لا توجد وردة حمراء واحدة في كل حديقتي!” صاح، وعيناه الجميلتان ممتلئتان بالدموع. “آه، يالها من أشياء صغيرة تتوقف عليها السعادة! لقد قرأت كل ما كتبه الرجال الحكماء، وكل أسرار الفلسفة ملكي، ورغم ذلك، فلأجل رغبة في وردة حمراء تصير حياتي تعيسة.”

“ها هو أخيرًا عاشق حقيقي،” قالت العندليب. “ليلةً بعد ليلةٍ تغنّيتُ به، مع أنني لم أكن أعرفه: ليلة بعد ليلة أخبرتُ النجومَ عن قصته، وأنا الآن أراه. شعره داكن مثل زهر الياقوت، وشفتاه حمراوان كالوردة التي يريدها؛ لكن العشق جعل وجهه كالعاج الشاحب، وطبع الأسى خاتمه فوق جبينه.”

“سيقيم الأمير حفلة راقصة ليلة غد،” غمغم الطالب الشاب، “وحبيبتي ستكون ضمن الحاضرين. إن أحضرت لها وردة حمراء سترقص معي حتى الفجر. إن أحضرت لها وردة حمراء، سأضمها بين ذراعيّ، وستُميل رأسَها على كتفي، وكفها ستكون محتضَنةً بكفي. لكن لا توجد وردة حمراء في حديقتي، لذا فسأجلس وحيدًا، وهي ستمر بي. لن تلتفت لي، وسينكسر قلبي.”

“ها هو فعلاً عاشق حقيقي،” قالت العندليب. “ما أتغنى به، هو يعانيه-ما هو بهجةٌ لي، وجعٌ له. بالتأكيد الحب شيء رائع. إنه أثمن من الزمرد، وأغلى من العقيق الصافي. لا تستطيع اللآليء وأحجار الرمان شراءه، ولا هو يُعرض في السوق. لا يمكن ابتياعه من التجار، ولا يوزن بالذهب.”

“سيجلس الموسيقيون في شرفتهم،” قال الطالب الشاب، “ويداعبون آلاتهم الوترية، وحبيبتي سترقص على صوت القيثارة والكمان. سترقص بخفة حتى أن قدميها لن تلمسا الأرض، ورجال الحاشية بملابسهم الزاهية سيتزاحمون حولها. لكنها لن ترقص معي، فأنا لا أملك وردة حمراء أعطيها لها.”؛ وطرح نفسه على العشب، ودفن وجهه في يديه، وانتحب.

“لماذا ينتحب؟” سألت عظاءةٌ خضراء صغيرة بينما مرت بجوراه مسرعة وذيلها قائم في الهواء.

“لماذا حقًا؟” قالت فراشة كانت ترفرف في المكان متتبعة شعاع شمس.

“لماذا حقًا؟” همست أقحوانة لجارتها، بصوت ناعم خفيض.

“إنه ينتحب لأجل وردة حمراء،” قالت العندليب.

“لأجل وردة حمراء؟” صاحوا؛ “ياله من أمر تافه!” والعظاءة الصغيرة، التي كانت لها بعض صفات المتهكمين، ضحكت مباشرة.

لكن العندليب فهمت سر حزن الطالب، وجلست صامتة في شجرة البلوط، وتفكرت في سر الحب الغامض.

فجأة، شرّعت جناحيها البنيين للطيران، وحلّقت في الهواء. مرّت عبر البستان كظلٍ، وكظلٍ أبحرت خلال الحديقة.

في وسط رقعة العشب كانت تقف شجرة ورد جميلة، وعندما رأتها طارت إليها، وهبطت فوق غصن.

“أعطني وردة حمراء،” صاحت، “وسأغني لكِ أعذبَ أغانيّ.”

لكن الشجرة هزت رأسها.

“ورودي بيضاء،” أجابت؛ “بيضاء كرغوة البحر، وأشد بياضـًا من الثلج فوق الجبل. لكن اذهبي لأختي التي تنمو عند الساعة الشمسية القديمة، فربما تعطيك ما تريدين.”

لذا طارت العندليب إلى شجرة الورد النامية عند الساعة الشمسية القديمة.

“أعطني وردة حمراء،” صاحت؛ “وسأغني لكِ أعذبَ أغانيّ.”

لكن الشجرة هزت رأسها.

“ورودي صفراء،” أجابت؛ “صفراء كشعر حورية البحر الجالسة على عرش بلون الكهرمان، وصفارها أشد من النرجس البري الذي يُزهر في الحقل قبل أن يأتي الحاصدُ بمنجله. لكن اذهبي إلى أختي التي تنمو تحت نافذة الطالب، فربما تعطيك ما تريدين.”

لذا طارت العندليب إلى شجرة الورد النامية تحت نافذة الطالب.

“أعطني وردة حمراء،” صاحت، “وسأغني لك أعذب أغانيّ.”

لكن الشجرة هزت رأسها.

“زهوري حمراء،” أجابت، “حمراء كأقدام الحمام،  وأشد حمرة من مراوح المرجان في قاع المحيط. لكن الشتاء أدخل البرد في أوردتي، والصقيع قرض براعمي، والعاصفة كسّرت أغصاني، فلن تكون لي أيّة ورود هذه السنة.”

“وردة حمراء واحدة هي كل ما أريد،” صاحت العندليب، “وردة حمراء واحدة! ألا توجد أية طريقة أحصل بها عليها؟”

“توجد طريقة،” أجابت الشجرة؛ “لكنها رهيبة جدًا فلا أجرؤ أن أخبركِ بها.”

“أخبريني بها،” قالت العندليب، “أنا لست خائفة.”

“لو ترغبين في وردة حمراء،” قالت الشجرة، “يجب أن تصنعيها من الموسيقى في ضوء القمر، وتصبغيها بدم قلبكِ. يجب أن تغني لي وصدرك مضغوط على شوكة. طوال الليل يجب أن تغني لي، والشوكة يجب أن تنغرس في قلبك، ودم حياتك يجب أن يتدفق في أوردتي ويصبح ملكي.”

“الموت ثمنٌ أعظم من أن يُدفع مقابل وردة حمراء،” صاحت العندليب، “والحياة عزيزة جدًا على الجميع. من المبهج الجلوس في الغابة الخضراء، ومشاهدة الشمس في عربتها الذهبية، والقمر في عربته المتلألئة. عطرة هي رائحة الزعرور البري، وعطرة هي زهور الجُرَيْس التي تختبيء في الوادي، والخلنج الذي تحركه الريح فوق التل. ومع ذلك، فالحبُ أفضل من الحياة، وما قيمة قلب طائر مقارنةً بقلب إنسان؟”

لذا شرّعت جناحيها البنيين للطيران، وحلّقت في الهواء. مسحت الحديقة كظلٍ، وكظلٍ أبحرت عبر البستان.

كان الطالب لايزال متمددًا على العشب، حيث كانت قد تركته، ولم تجف الدموع بعد في عينيه الجميلتين.

“فلتسعد،” صاحت العندليب، “فلتسعد؛ ستنال وردتك الحمراء. سأصنعها من الموسيقى في ضوء القمر، وأصبغها بدم قلبي. كل ما أطلبه منك في المقابل هو أن تكون عاشقـًا حقيقيـًا، لأن الحب أحكم من الفلسفة، رغم أنها حكيمة، وأقوى من السلطان، رغم أنه قوي. بلون اللهب هي أجنحته، ومتلون كاللهب هو جسده. شفتاه حُلوتان كالعسل، ونَفَسه كرائحة البخور.”

نظر الطالب لأعلى، واستمع، لكن لم يستطع فهم ما كانت تقوله العندليب، لأنه ما كان يعرف إلا الأشياء المدونة في الكتب.

لكن شجرة البلوط فهمت، وأحست بحزن، لأنها كانت مغرمة جدًا بالعندليب الصغيرة التي بنت عُشها بين أغصانها.

“غنيّ لي أغنية أخيرة،” همست؛ “فسأشعر بوحدة شديدة عندما ترحلين.”

لذا غنّت العندليب لشجرة البلوط، وكان صوتها كماء يتدفق من جرّة فضيّة.

حينما أنهت أغنيتها، نهض الطالب، وأخرج دفترًا وقلم رصاص من جيبه.

“إنها تملك الصنعة،” قال لنفسه بينما تمشّى بعيدًا خلال البستان- “لا يمكن إنكار هذا عليها؛ لكن هل تملك الإحساس؟ أخشى أنها لا تملكه. في الحقيقة، هي مثل أغلب الفنانين؛ كلها أسلوب، دون أيّ صدق. هي لن تضحي بنفسها من أجل الآخرين. هي تفكر فقط في الموسيقى، والجميع يعرفون أن الفنون أنانية. ومع ذلك، يجب الاعتراف بأنها تملك بعض النغمات الجميلة في صوتها. يالخسارة كونهن لا يعنين أيَّ شيء، ولا يؤدين أيَّ نفع عملي.” وذهب إلى غرفته، واستلقى على سريره الصغير المحشو بالقش، وجعل يفكر في حبه؛ وبعد فترة، أخذه النعاس.

وعندما لمع القمر في السماء، طارت العندليب إلى شجرة الورد، وضغطت صدرها على الشوكة. طوال الليل غنّت وصدرها مضغوط على الشوكة، والقمر الكريستالي البارد مال لأسفل مستمعـًا إليها. طوال الليل غنّت، والشوكة دخلت أعمق وأعمق في صدرها، وتلاشى منها دم حياتها.

غنّت أولاً عن مولد الحب في قلبيّ فتى وفتاة. وفي أعلى غصنٍ لشجرة الورد أزهرت وردة بديعة، بتلة تتبع بتلة، كالأغنية تتبع الأغنية. كانت شاحبةً في البداية، كالضباب المعلِّق فوق النهر-شاحبةً كأقدام الصباح، وفضيّةً كأجنحة الفجر. كظلِّ وردةٍ في مرآة من الفضة، كظلّ وردةٍ في بركة ماء، كذلك كانت الوردة التي أزهرت فوق أعلى غصنٍ من الشجرة.

لكن الشجرة صاحت في العندليب كي تضغط أكثر على الشوكة. “اضغطي أكثر أيتها العندليب الصغيرة،” صاحت الشجرة، “وإلا فسيأتي النهار قبل أن تكتمل الوردة.”

لذا ضغطت العندليب أكثر على الشوكة، وأعلى وأعلى صارت أغنيتها، لأنها غنّت عن مولد العشق في روح رجل وامرأة.

وصعدت دفقة حُمرة إلى أوراق الوردة، كالحمرة في وجه العريس عندما يقبّل شفتي العروس. لكن الشوكة لم تصل قلبها بعد، لذا بقي قلب الوردة أبيض، لأنه لا يستطيع صبغ قلب الوردة بالأحمر إلا قلب عندليب.

وصاحت الشجرة تستحث العندليب كي تضغط أكثر على الشوكة. “اضغطي أكثر أيتها العندليب الصغيرة،” صاحت الشجرة، “وإلا فسيأتي النهار قبل أن تكتمل الوردة.”

لذا ضغطت العندليب أكثر على الشوكة، ولمست الشوكة قلبها، واندفعت وخزة ألم شديدة خلالها. مريرًا، مريرًا كان الألم، وأعنف وأعنف صارت أغنيتها، لأنها غنّت عن الحب الذي يبلغ حد الكمال بالموت، عن الحب الذي لا يموت في القبر.

وصارت الوردة البديعة حمراء، كوردةِ سماءِ الغروبِ. أحمر كان طوق البتلات، وأحمر كياقوتةٍ كان القلب.

لكن صوت العندليب صار أخفت، وبدأ جناحاها الصغيران يخفقان، وغشاوة غطّت عينيها. أخفتَ وأخفتَ صارت أغنيتها، وأحسّت بشيء يخنقها في حنجرتها.

ثم أعطت دفقة موسيقى أخيرة. سمعها القمرُ الأبيضُ، ونسي الفجرَ، وتباطأ في السماء. سمعتها الوردة الحمراء، وارتعشت كلها بنشوة، وفتحت بتلاتها لهواء الصبح البارد. حملها الصدى لكهوفه البنفسجية في التلال، وأيقظ الرعاة النائمين من أحلامهم. طافت خلال خيزران النهر، فحمل رسالتها إلى البحر.

“انظري، انظري!” صاحت الشجرة، “اكتملت الوردة الآن”؛ لكن العندليب لم تجبها، لأنها كانت ترقد ميتة بين الأعشاب الطويلة، والشوكة في قلبها.

عند الظهر فتح الطالب نافذته ونظر عبرها.

“ما هذا، ياله من حظ رائع!” صاح؛ “ها هي وردة حمراء! لم أر وردة مثلها أبدا في كل حياتي. إنها جميلة جدًا حتى أنني أكيد أن لها اسما لاتينيـًا طويلاً”؛ ومال للأسفل وقطفها.

ثم ارتدى قبعته، وأسرع إلى منزل الأستاذ والوردة في يده.

كانت ابنة الأستاذ جالسة في المدخل تلفّ حريرًا أزرق على بكرة، وكلبها الضئيل مستلقٍ عند قدميها.

“قلتي أنكِ سترقصين معي إذا أحضرتُ لكِ وردةً حمراء،” صاح الطالب. “ها هي الوردة الأشد حمرة في العالم كله. ستضعينها الليلة بجوار قلبكِ، وبينما نرقص معـًا ستخبركِ كم أحبكِ.”

لكن الفتاة عبست.

“أخشى أنها لن تتماشى مع فستاني،” أجابت؛ “وأيضـًا، لقد أرسل لي ابن أخت حاجب الملك بعض الجواهر الحقيقية، والجميع يعرفون أن الجواهر أغلى كثيرًا جدًا من الورود.”

“حقـًا، إنك لجاحدةٌ جدًا!” قال الطالب بغضب، وألقى بالوردة إلى الشارع، حيث سقطت في قناة تصريف المياه، وداس عليها دولاب عربة.

“جاحدة!” قالت الفتاة. “حسنا، ما رأيك، أنت وقح جدًا؛ ومع ذلك، فمن أنت؟ مجرد طالب. لا أصدق أنك تملك حتى مشابك فضية لحذائيك كما يملك ابن أخت حاجب الملك”؛ ونهضت عن كرسيها ودخلت المنزل.

“أيُّ شيءٍ سخيفٍ هو الحب،” قال الطالب بينما مضى مبتعدًا. “ليس بنصف فائدة المنطق، لأنه لا يبرهن على أيِّ شيء، ودومـًا يخبر عن أشياء لن تحدث، ويجعل المرء يصدق أشياء غير حقيقية. في الواقع، إنه غير عملي تمامـًا، وفي هذا العصر، أن تكون عمليـًا هو أهم شيء، ينبغي أن أعود للفلسفة وأدرس الميتافيزيقا.”

لذا عاد إلى غرفته وجذب كتابـًا مُتربـًا ضخمـًا، وبدأ يقرأ.

مقالات من نفس القسم