العالم يغني

العالم يغني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

منذ ديوانه الأول "ميجابوليس" وخالد السنديوني يرصد مواطن الشعر في نثرية الحياة اليومية، سائراً من حيث المبدأ الشعري على نهج المتنبي في بيته الشهير: "الخيل والليل والبيداء تعرفني / والسيف والرمح والقرطاس والقلم". لكن، إن كانت الجمادات وأشياء الحياة اليومية - مثل السيف والقلم - تتمتع في بيت المتنبي بوعي وشعور، فإن الأشياء المعادلة لها في القرنين العشرين والحادي والعشرين تكتسب في عالم السنديوني لساناً  ورؤية وإنشائية شعرية. لذلك نجد البنطلونات الجينز تتمتع بالعقل والذاكرة  في ديوانه الأول، والحيوانات تنطق في ديوانه الثاني "نمر يبتسم".

في ديوانه الأخير “العالم يغني”، يواصل خالد السنديوني استقصاء الشعر في العادي واليومي والنثري، بما يضع الديوان في سياق ما تواضع النقاد والشعراء على تسميته “قصيدة النثر”، من التسعينات فصاعداً. لكن يظل الشاعر محافظاً على ملامح كتابته الخاصة، التي تنحو إلى رفع عالم التفاصيل اليومية إلى مرتبة الأسطورة.

يختص الديوانان الأولان لخالد السنديوني بعوالم شاسعة : “ميجابوليس” يتتبع أساطير الحياة اليومية في المدن الكبرى – الميجابوليس –  في العالم الحديث. و”نمر يبتسم” يُجري الشعرَ على لسان الحيوان أو يستبطن دخيلة نفوس الحيوانات، ويشمل عالم الطبيعة بأسره. أما في ديوان “اللاعب” يتحول الشاعر إلى “التخصص”، إذ يركز فيه على مجال لعبة كرة القدم وحدها، في قرية صغيرة، بحيث تتحول ممارسة هذه الهواية إلى نشاط يكتسب نفس أهمية الألعاب الأوليمبية عند قدماء الإغريق، لكن على مقياس أكثر ضيقاً. في هذا الديوان، نرى الصبية يتحولون إلى نجوم وانتصاراتهم في مباريات القرية تصير إنجازات تدخلهم التاريخ المحلي من باب ما.

أما ديوان السنديوني الأخير، فيبدو عنوانه ملتبساً: “العالم يغني” جملة قد توحي إلى القاريء – للوهلة الأولى – أن الشاعر يشير بسخرية وتَحَنن إلى برنامج المنوعات الأجنبية الشهير، الذي كان علامة من علامات القناة الثانية في التلفزيون المصري في السبعينات والثمانينات – أي في شباب الشاعر- ، في الفترة نفسها التي كان يتردد فيها على المدرسة ويقرأ كتابي النصوص والكيمياء اللذين يخصص لهما قصيدتين مستقلتين.

لكن القراءة المتأنية للديوان تكشف أن العنوان يعني حرفياً أن الشاعر يشير لغناء العالم، لكلام الجماد، ولمنطق الحيوان والطير. يحتذي “العالم يغني” نفس الخط المتعلق بالاحتفاء بالأشياء في أعمال السنديوني، لكنه يحتفي تحديداً بجمادات أساسية في عالم الطبيعة.

“أنا جبل عظيم

أطل على المدينة من ناحية

وعلى الصحراء من ناحية

يظن الأطفال أنني أسند السماء كي لا تقع” (ص45-46)

في هذه القصيدة، يواصل الشاعر تحسسه لطريق سلكه في دواوينه الأولى،  إذ يُنْطِق الجمادَ، مع فارق واحد: إن الجمادات الناطقة أو تلك التي يكشف الشاعر عن وعيها ومكنون نفوسها كانت في ديوانيه الأولين أجهزةً أو أدوات تنتمي للحداثة. أما في ديوانه الأخير، فالجمادات التي ينفخ فيها الشاعر من روحه هي عناصر أساسية في الطبيعة، مثل الجبل والبحر. وبذلك فهو يسير على حد الموسى بين تهكمية أثيرة لدى شعراء القصيدة التسعينية، وصوفية تتستر بالسخرية، لكنها تتراسل مع مبدأ وحدة الوجود.

يبدو التهكم في الربط بين التصور العتيق عن الجبال بوصفها أعمدة تحمل السماء، وبين المفاهيم الطفولية. أما الملمح الصوفي فيتجلى في الكشف عن “منطق الجبل”، فتيمة الاحتفاء بكلام الجماد والحيوان تيمة صوفية أساسية. تنعطف هذه التيمة على فكرة وحدة الوجود، باعتبار أن سريان السر الإلهي في الطبيعة كلها – بإنسها وجمادها – والتعبير عن ذلك بقدرة الجماد والحيوان على الكلام، يؤكد أطروحة الصوفية التي تفترض أن الوجود كله تجل للذات الإلهية أو فيض عنها.  وإشارة النص إلى “ازدواج” وجه الجبل تعزز هذه القراءة، كأن الجبل يستدعي المدينة وقصيدتها التسعينية من ناحية، ويستدعي من ناحية أخرى، الصحراء ورحابتها الصوفية.

هذا عن “العالم”. أما “يغني” فيفصلها الشاعر في اشتباكه مع فكرة الكتاب حاملاً للشعر أو للمعرفة.، هنا يربط الشاعر بين الكتاب “المؤسسي” وبين تشيؤ الشعر، كأن الحداثة وبيروقراطيتها قد حبستا الشعر في جمادات عقيمة، مثل كتاب المحفوظات، الذي يسميه أبناء جيل الشاعر: “كتاب النصوص”، والذي خصص خالد له قصيدة تحمل العنوان نفسه.

“كتاب النصوص

أصدرته وزارة التعليم لتربية الأذواق

فصار الكتاب المقدس لديانة التقيؤ

ملأ أوراقه شعراء طيبون وقدم له طاغية” (ص  99-100)

في المفارقة بين الطيبة والطغيان، بين النوايا الحسنة والأداء الممجوج، تكمن سخرية الديوان. وتزيد من قسوتها مفارقة إضافية بين نوع الشعر الذي غالبا ما يكون مهترئاً في كتب وزارة التعليم وبين النوع التهكمي المجرب الذي يكتب خالد من خلاله. تزداد المفارقة حدة بسبب وجود تناقض حاسم بين الذوق الرسمي الذي تتم تربيته بأدوات “الطغيان” وبين الذوق الذي يتبناه الشاعر، والذي يشعر بأقصى درجات “الغثيان” إزاء الذوق المؤسسي الرسمي.

في بضعة سطور، يصف الشاعر تصاعداً خطيراً في تشيؤ الشعر “المؤسسي”: من كتاب مقدس – لكن متحجر- في إطار قيم تثير الغثيان، بل والتقيؤ، إلى أداة للقتل. وهو قتل ناجم عن إفساد الذوق، يتدهور إلى درجة تدفع الإنسان إلى التعدي على الطبيعة، ممثلةً في الفراشة.

“اكتشفت أنه كتاب مدهش صار رفيق صباي

-إذا أغلقته فجأه-

أستطيع أن أسحق أي فراشة عابرة

في غمضة عين” (ص 99 -100)

في القصيدة التالية، يرفع الشاعر درجة الحرارة في نقده للكتب التي تشكل الوعي الناشيء، ويصل لمرحلة تتصور صراعاً بدنياً مادياً بين الكتاب والإنسان كما يدل العنوان: “مصارعة كتاب الكيمياء”.

“نزعت جلدته فنبتت له جلدة أخرى زاهية

نسيته فوق شجره فأحضره لي طائر غريب

ثقبته حتى لا ينفع في شيء فنبتت له أسنان وتعلم العض”(ص 101-102)

بعيداً عن الملمح العبثي الذي يذكر القارئ بهواجس كافكا عن التحول والمسخ، نرى في تحول الكتاب الجماد إلى حيوان ذي أسنان يعض، وإلى حية يتبدل جلدها، نقلة نوعية في عالم الشاعر. فهو يتجاوز مجرد “إحياء الجماد” و”إنطاق الحيوان” المتراوحين بين النظرة الصوفية والموقف التهكمي، إلى سخرية اجتماعية تصف تحول الجمادات إلى كائنات حية، ليس لأنها تحمل السر الإلهي، بل لأنها تشبعت بطاقة هدامة تجعل منها عدواً للإنسان.  تنجم هذه العداوة عن عمل مؤسسات “القمع الثقافي” مثل وزارة التعليم، التي تفسد الذوق باختياراتها الشعرية أو تجعل العقل عقيما إذ تجهده بطلاسم المعادلات الكيميائية، فحَقَ بذلك وصف الشاعر لكتاب الكيمياء بأنه: “كتاب بغيض/ لأنه يعرف حقيقة الأشياء، لكنه يعرضها بلؤم” (ص 101).

يتجلى خطاب الشاعر ناقداً للذوق الرسمي وللتعليم العقيم الذي ينتج العداوة لا العلم، ممثلاً للجانب السلبي في عمله. أما الجانب الإيجابي،  أي ما يطرحه على القاريء بشكل بناء،  فهو يتمثل في “جماليات السباب”. قد يبدو الحديث عن جماليات بهذا الاسم من قبيل المفارقة. لكن التهكمية في الديوان ومقاومتها لكثير من أشكال التكلس الجمالي والمعرفي تبدو منخرطة في مقاومة التكلس الذوقي القمعي، بشكل عام. والظاهر أن الديوان يفترض أن مثل هذه المقاومة لا تكون إلا بجماليات ساخرة ناقضة قارصة، كتلك التي يتيحها خطاب ضد، مثل الخطاب الذي يمكن أن يحمله السباب.

هكذا تكتسب قصيدة “سباب”، الواقعة حوالي منتصف الديوان، أهمية المفتاح المعرفي لملخص جماليات الشاعر ولخلاصة “سياسته”. يتبدى السباب في القصيدة أداة لاقتراح عالم مغاير، تقلب الحياة رأساً على عقب، عن طريق المقاومة:”السباب فن جميل/ يهدف إلى اقتلاع الحياة من جذورها”(ص 41) أي أن السباب الذي يطرحه الشاعر كموقف راديكالي قد يصل إلى مناطحة الحياة نفسها بأنساقها القائمة، من شدة تمرده. لكن هذه المقاومة الراديكالية تفضي إلى تفصيل جماليات مغايرة للسائد، لها جاذبيتها، تخلب المستمع بصوت فاتن وإن كانت منبثقة عن سباب:”و من وحي القسوة والهجران/ خرج ذلك الصوت الفاتن” (ص 42).

تتضمن هذه القصيدة خلاصة الجماليات المغايرة وسياسة مقاومة السائد التي يبني عليها خالد كتابته. لذلك فالذات الشاعرة تجعل من السباب حجر الزاوية للحضارة ومنشأ اللغات وعلامة فارقة بين عجمة الحيوان والحيوان الناطق.

“وهو ركيزة الحضارة

وهو عتبة مباركة

متى صعد إليها الحيوان نطق،

وانفتحت أمامه أبواب اللغات،” (ص 41)

لكن حتى في هذه اللحظة البناءة، يأبى الشاعر إلا أن يبقي على لمحة من السخرية، فلا يصرح بأنه يقترح حضارة ومعرفة مغايرتين للسائد، لما يمثله “كتاب النصوص”، بل يدعي أن مفرداته “الناقضة” هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارة، كل حضارة، ثم يزيد السخريةَ تهكماً فيجعل من السباب – أيقونة عالمه الضد- مدخلا إلى عالم متسامِ، علوي ومبارك.

 

*نشر في “عالم الكتاب”

 

مقالات من نفس القسم