العازفُ الحزينُ

عبد الله سرمد الجميل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عبد الله سرمد الجميل 

أدركْتُ أنّهُ لا يجبُ أن أرتبطَ بامرأةٍ سعيدةٍ؛ فأنا – الحزينَ بطبعي – سوفَ أُفسدُ عيشتَها، وهي سوفَ تُفسِدُ عيشتي، أنا مُتآلفٌ مع حزني حدَّ التخومِ التي لا تؤثِّرُ في واجباتي ورغباتي، أجدُ السعداءَ مغرورينَ أو جُهلاءَ، ولا أُحبُّ أن يكونَ حزني موضعَ شفقةٍ واستعطافٍ، فرُحْتُ أبحثُ عن امرأةٍ حزينةٍ.

جعلْتُ الجميعَ يبكونَ في حفلةِ بيانو بدارِ الأوبرا، وقفوا لي مُصفّقينَ خَمْسَ عَشْرَةَ دقيقةً. فَرِغَت القاعةُ إلّا من فتاةٍ مُزِجَت دموعُها بابتسامةٍ ملائكيّةٍ، قدّمت لي باقةَ وردٍ وطلبَت أن أعزِفُ مقطوعةَ الرومانس لفرانز ليست. صعِدتْ إلى المسرحِ، كانت أناملي تنزلقُ بماءِ دموعي على مفاتيحِ البيانو، وهيَ ترقُصُ مُرتكزةً على الإِصبِعِ الكبيرِ لقدمِها اليُسرى، كأنّ جسمَها غيمةٌ..

الحبُّ والموتُ هما الهاجسانِ الأكبرانِ لديَّ، هذا ما استنتجْتُهُ عندَما وضعْتُ رأسي على المِخَدّةِ. أنجبَتْ لي ولدينِ وبنتاً؛ رقمٌ مثاليٌّ. يزدادونَ حُزناً حينَ يضحكونَ. في المِحَلَّةِ يُسمُّونَنا بيتَ ( أبو أسى ). فززْتُ ذاتَ ليلةٍ، لم أجد زوجتي حذائي، الأطفالُ كذلكَ ليسوا في أسرَّتِهم، بأطرافِها الحادّةِ كسرَت السِّتارةُ نافذةَ غرفةِ النومِ مُرفرِفةً في ريحٍ هوجاءَ وصارخةً بلسانٍ لمّازٍ: عاجلٌ عاجلٌ، هروبُ أمِّ أسى.. عاجلٌ عاجلٌ، هروبُ أمِّ أسى.. على صوتِها الشبيهِ بصفّارةِ الإنذارِ، استيقظَ الجيرانُ، وبليلةٍ وضحاها، انتشرَتْ شائعاتٌ شتّى؛ قالوا إنّها عاهرةٌ، خائنةٌ، أو جاسوسةٌ. غيرَ أنَّ صفةً ثانيةً اختمرَتْ في كِياني (اللامكترِث). حبسَني الحزنُ أشهراً دونَ عملٍ ومالٍ فبِعْتُ البيانو، اشتراهُ حدّادٌ أصمُّ.

اشتغلْتُ بمهنٍ لا رابطَ بينَها سوى الموسيقى. في صيدِ اللؤلؤِ، تعلّمْتُ موسيقى الماءِ غوصاً، أعرِفُ لواعجَ النهرِ والبحرِ. في حِراسةِ حديقةِ الحيواناتِ، اهتديْتُ إلى نظامٍ صوتيٍّ يُوحِّدُ مَنطِقَهم، مثلاً الأسدُ الكسلانُ المضطجعُ دائماً والذي كلَّ الزوّارُ وهم يرمونَهُ بعُلَبِ المشروباتِ الغازيّةِ بلا فائدةٍ، جعلتُه – بجملةٍ استفزازيّةٍ واحدةٍ – يزأرُ زئيراً ما سمِعَتْهُ الحديقةُ من قبلُ، والقردُ الذي نزعَ قُرطاً من أذنِ الفتاةِ المسكينةِ، مُعتذراً لي أعادَهُ بعدَ أن رفضَ منها مفاوضتَهُ في أكياسِ حَبِّ الشمسِ. كلُّ شيءٍ أَصهَرُهُ في هيئةِ موسيقى. ما أبهى النارَ وهي تسترسلُ في حطبِ الليلِ..

قُدَّامَ بابِ الشقّةِ لمحْتُ مظروفاً، خمّنْتُ أنّهُ إنذارٌ من مالكِها:

السيّد أبو أسى ،

يُرجى القدومُ إلى حِدادةِ العمِّ توفيق لاستلامِ البيانو؛ فقد تعذّرُ بيعُهُ لوجودِ أزرارٍ زائدةٍ فيهِ.

والسلام..

…………….

*كاتب وطبيب من العراق

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون