«العادات السيئة للماضي».. لا تغادر أرض الشعر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ملعب الشعر ضيق، والشاعر يتحرك في مساحة محدودة بين الكلمات وعلامات الترقيم والفراغات، محاولاً أن يعيد اكتشاف الروابط بين الأشياء، ينظر الشاعر من بلورته السحرية، وينقل إلينا ما لا نستطيع أن نراه، ولكل شاعر طريقته في إنارة العوالم أمامنا، ولكنه يكون مطالباً بإدهاشنا، رغم أنه محاصر في أقل مساحة ممكنة. عليه أن يدهشنا بأقل عدد من الكلمات. أليس الشعر أكثر صعوبة من باقي الفنون الأخرى؟ ستبدو الإجابة البديهية: نعم، لكن "الشاعر القادر على الشعر" يستطيع أن يقول: لا. لأنه يمتلك ما لا نمتلكه. هو الأكثر قدرة على الإفلات من فخاخ اللغة، وتطويعها، والهرب إلى السماء، رغم أن الفضاء يبدو لنا، نحن القراء، ضيقاً جداً، إذا ما أردنا أن نختبر قدرتنا على تأليف كلمات شبيهة بما يكتبه.

ليس مهماً الطريقة التي يكتب بها، وهناك شعراء ما زالوا حتى اللحظة يسحبهم عالم المجاز، وهناك منهم من يجدد في المجاز، وهم مجيدون، ولديهم وصفاتهم الخاصة، ولديهم جمهورهم أيضاً، ولكنني أميل أكثر إلى الشعر الذي يتحرر تماماً منها، الشعر الذي يبحث عن الدهشة الكامنة في العلاقات، الذي لا يسير وفق خرائط أو باترونات، الذي يخلق صورته من كلمات بسيطة، من قلب الواقع إلى عالم سحري ربما بكلمة واحدة، الذي يكسر إيهامنا بالعادي والمتوقع إلى شيء خيالي وعظيم، وكل هذا كان حاضراً ببساطة، في ديوان محمد خير الجديد، الصادر عن “الكتب خان”،  “العادات السيئة للماضي”، وحتى في اقترابه البسيط من المجاز لا يمكن أن تتعامل معه بالشكل الكلاسيكي. الشاعر يؤمن بما يراه، ولا يقول إنه شيء خيالي، وفي هذا المقطع، على سبيل المثال، لا أتوقف كثيراً عند مشهد تعليق القمر الخافت فوق الفراش، ولا إخراج الأحلام من الخزانة، بقدر ما أتوقف عند جملته الأخيرة.

اقرأ: “في الليل

علقت قمراً خافتاً فوق الفراش

وسحبت أحلاماً

وجدتها في الخزانة

وذبت في نفسي

حتى أيقظتني اليد التي طرقت نعاسي

وقدمت لي في الصباح

-دون أن تنتبه-

إفطاراً لشخصين”.

ما اليد التي أيقظته؟ هل هناك شخص آخر دخل إلى تلك الغرفة؟ أم أنها نفسه التي ذاب فيها، انسلخت عنه وصارت شخصين؟ علينا الآن أن نصدق أن الشعر ينفجر بكلمات تقريرية، ويكون أكثر إدهاشاً من الصور المركبة وخيالات المضاف والمضاف إليه، والمزاوجة بين المحسوس والمتخيل.

اقرأ أيضاً: “بلا تردد

رفعت الكرة الأرضية

لم أجد تحتها شيئاً

فأعدتها مكانها

بحذر

كي لا تسقط أي دولة”.

لا تشطح بخيالك بعيداً. تلك الصورة الرائعة تعرضنا لها جميعاً في حصة الجغرافيا، لا الفلك. ليس الأمر من قبيل التفكير في الجاذبية التي تحفظنا جميعاً بشراً وحيوانات وجماداً من السقوط في الفضاء. المسألة برمتها لم تتخط غرفة الدرس، ولو أردت أن تتأكد أكمل القراءة:

“وعدت لمقعدي

قبل دخول المدرس

ما زال يمر في خيالي

من صبح لآخر

ضخماً، يسد الباب

مفتشاً أخطاءنا

بينما

تدور الأرض

في صمت

فوق مكتبه”.

عليك أن تصفق الآن لأن الشاعر باغتك، وأدهشك في تلك المساحة المحدودة جداً. الشاعر الذي تلامس قدماه الأرض طوال الوقت رغم أن صورته تحلق في فضاء بعيد.

أستطيع الآن أن أسرد عدداً كبيراً من المقاطع الصغيرة شديدة البساطة، مقاطع تبدو من بعيد كحجر صغير وبسيط ونظيف، ولكنها مع الكلمة الأخيرة، تظهر وكأنها تستقبل شعاعاً ينعكس عليها لتدرك في التو أن الحجر ماسة، تعكس عشرات الصور والخيالات، وتخطف بصرك لوقت طويل. أنت تحتاج إلى من يربت على كتفك ليوقظك من سباتك الآن، ولكنني أنصحك: لا تستيقظ. هنا في أرض الشعر الجميل، الحياة أفضل من الخارج، فابق لأطول وقت ممكن.

في ديوان خير لا مكان للصدفة، لا تستطيع أن تحرك كلمة “لبنة” من “جدار” الكلمات. العناوين في الأغلب جزء من مضمون القصيدة. ليس عليك أن تنظر إلى أسفل ثم تصعد إلى أعلى مرة أخرى، لتربط. الرابط موجود في الأغلب بين العنوان والكلمة الأولى. العنوان بوابة الحديقة الملونة. ليس لي شأن بما يقولونه عن العتبات، أنا أكره هذا النقد، ولكنك فعلاً لا تستطيع أن تخطو إلى أرض السحر سوى بالعبور من بوابة العناوين.

في قصيدة “أريد” يقول لك ما يريد من السطر الأول. العنوان أثَّر في بنية السطر، وتركه منصوباً. اقرأ: “خبراً سعيداً”.. لا من الأفضل أن تقرأ بعد وضع العنوان في متن المقطع. اقرأ مجدداً:

 “أريد

خبراً سعيداً

عنك

كي اتأكد

أنني

لم أخرّبك تماماً”.

اقرأ أيضاً: ما حدث بعد ذهابك (عنوان القصيدة)

تهدل الوقت

وفاضت الحياة

عن حاجتي إليها

حتى صرت

أؤجر الأيام

بأسعار مناسبة

للأصدقاء

وأمنح الليالي

للغريبات

بلا مقابل”.

وقس على هذا، فـ”مثل عطور أو شيء من هذا القبيل” المقصود بها “أنفاسك الحلوة”، و”السبب” هو “يدك التي لم أقبلها”، ولو سألته: “وجهي عابس؟”، ستكون إجابته حاضرة:

“أحبك

فأفكر في الموت

ولا شيء يفسر ذلك”.

وستراه مرة “كشرطي مرور”. وستسأله: ماذا تفعل؟ وسيجيبك بقوة الشعر: “أشير للأيام كي تمر”.

ليس عليك العبور دائماً من تلك البوابة، ولكنها ستبدو فجأة مثل بساط يسحبك مباشرة إلى الداخل. العناوين مُفسِّرة أحياناً، وهل هناك أكثر من تحدي المباشرة في الشعر؟ ولكن تلك المباشرة ستقودك دائماً إلى ذلك العالم المسحور. في قصدية “الجنون” على سبيل المثال: “أنحني- كي أكلم وردة- متخيلة”، وسيستعير “المعجزة” من النبي: “يبتسمون لي – فأطمئن- غيمتك – ما زالت تظللني – أينما ذهبت”، وفي “أرق”: “أنام – لأقلب صفحة اليوم – لكنني – بعد كل هذه الليالي – ما زلت مبتدئاً في النعاس – أو ربما يبدلون الشفرة – كل ليلة”.

الشاعر، أيضاً، يجعلك تنظر إلى فكرة الصورة بشكل مختلف، ليست الصورة الشعرية، ولكن صورة الكاميرا، وتستطيع أن تحكم بنفسك أيهما أجمل. اقرأ في “القيامة”:

“لم أظن

أن تجوالي اليومي

في المدينة

يبعثرني

هكذا

في صور السيَّاح

الكاميرات

اقتبست ملامحي

لتبعثها مجدداً

في المدن الأجنبية”.

عالم مبهر، سيأخذك قليلاً من واقعك، إلى واقع أكثر بهجة، حتى في أشد صوره إعتاماً، ذات مستريحة لما وصلت إليه، ذات تتحرك بامتداد الديوان، الذات فسرت قلقها، وربما فكرت فيه عشرات المرات، ولهذا كانت كل كلمة تتتعلق بها شديدة الصفاء، كبحر شفاف ترى رماله وأحجاره وأسماكه الملونة في العمق، وهكذا تجاوزت “العادات السيئة للماضي”، أو تصالحت معها على الأقل، وهذه العادات بحكم أننا أيضاً ننتمي إلى عالم ذلك الشاعر واجهناها، ولكننا لم نتوقف كثيراً أمامها، ربما لأنه، أي الشاعر، من الذكاء بحيث اختار زاوية شديدة الخصوصية للنظر إليها. هل تريدون الآن أن تعترفوا أن البقاء في أرض الشعر أفضل؟ هل تريدون مقاطع أخرى مبهرة؟ عليكم أن تقرؤوا هذا الديوان الصغير الأكثر إبهاراً من فيلم سينما رائع أو حتى من رواية ضخمة جميلة.

مقالات من نفس القسم