الطليعة وحركة التاريخ…المهام والأوهام

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

(1)
يروعني كثيرا ما أسمعه، كلما تابعت حواراً عربياً نخبوياً يدور حول راهن الواقع الوطني والقومي، أو حول المستقبل والمآلات التي تنتظر هذا الواقع. ولطالما تساءلت عن المنابع العميقة التي ينهل منها ذاك الروع، علي أضع يدي على أصل العلة وموطن الداء لتلك الفوضى الوجودية الشاملة التي تعصف بنا وبالأوطان (عقلياً ونفسياً وروحياً وحتى أنطولوجياً) كشرط أولي للتقدم باتجاه الخروج منها (الفوضى) والعودة للالتحاق بركب التاريخ الإنساني الحضاري في مسيرته التي تستهدف المستقبل، إن غرباً أو شرقاً.
ولأني قارئ مجتهد للتاريخ؛ ذلك الذي شبهه كارل ماركس بالمعمل الذي يدخله السياسي والناشط الثوري والمثقف الطليعي، كما يدخل الكيميائي أو الفيزيائي مختبره العلمي لتحليل وفهم الظواهر المطروحة على بساط البحث، مستهدفاً استخلاص القوانين والنظريات العامة القادرة على التنبؤ بالسلوك المحتمل أو المفترض لهذه الظواهر، فلطالما خوفني وأزعجني ذلك الفهم اللا تاريخي المستحوذ على عقل تلك النخب المصرية والعربية، خاصة عند تصديها لتحدي المهام الآجلة والعاجلة لهذه الهبَات والانتفاضات الشعبية الواسعة، سواء في نسختها الأولى أو الثانية، التي اصطلح على تسميتها بثورات الربيع العربي، والتي اجتاحت البلدان العربية الراكدة منذ مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين والمتواصلة، بشكل أو بآخر، حتى اليوم.
إن المتابع، اليقظ والمدقق، للخطابات السياسية والطروحات الفكرية الرائجة حول تلك الانتفاضات الجماهيرية الواسعة -التي تبنت، جلها، شعارات ومطالب متشابهة، بهذا القدر أو ذاك، تعبر عن أشواق ، بل وأحلام، المواطن العربي المهدر تاريخياً في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحكم الرشيد والمسؤولية والتحرير الوطني- لقادر على اكتشاف، وبسهولة مفرطة ومؤسفة، فراغ تلك الخطابات والطروحات من فهم آليات عمل التاريخ الإنساني، والقوانين الحاكمة لحركته.
إن الإدراك التاريخي، الغائب لدى غالبية أفراد النخب المصرية والعربية، قد جعل السياسيين والناشطين والمغامرين يلوحون في خضم حركة الشارع كهواة لا كمحترفين، حتى أنهم، وفي أحيان كثيرة، باتوا غير قادرين على تحديد ومعرفة، ليس فقط الطريق الأصوب الذي عليهم السير فيه لتحقيق الأهداف، بل وحتى العجز الأليم عن بلورة وصياغة هذه الأهداف ذاتها؛ الأمر الذي سهل من مهمة القوى الاجتماعية والطبقة السياسية القديمة المناوئة لدعاوي وأحلام التغيير في الانقضاض على تلك الانتفاضات والإجهاز عليها، سواء عبر اختراقها وادعاء التماهي معها والتوحد مع مطالبها، بل وتسلم قيادة حركيتها إلى حين، أو بقهرها وقتلها وسجنها وتخوينها وتكفيرها، توطئة للانتقال من تكتيكات الاحتواء والالتفاف والتدجين والشرذمة، إلى تكتيكات الإقصاء الكامل والتهميش التام ثم الاغتيال النهائي، على نحو ما تفعل كل ثورة مضادة ناجحة في التاريخ.

 (2)
لكن، ما الذي أعنيه، بتدقيق أكبر، بالقول بضرورة بلوغ تلك النخب الطليعية، الحاملة لأشواق الجماهير الملايينية الصامتة، للفهم والإدراك التاريخيين؟
دعونا نفكر معاً بالأمر:
– إن التغيير المجتمعي هو عملية وليس حدثاً أحادياً، وكأي عملية فإنه مركب، متعدد العناصر والأبعاد، ومتواصل، لا بداية وحيدة له في الزمان، ولا نهاية قاطعة كذلك، إنه “الثورة الدائمة” بتعبير تروتسكي.
– لكي يحدث التغيير لابد من تضافر وتزامن الشرط الموضوعي العام (التدهور العام للأوضاع الاجتماعية والمعيشية للطبقات الأكثر فقرا،ً مع وقوع الطبقات والشرائح والفئات المتوسطة في وهدة اليأس والفاقة غير المحتملة هي أيضا، والتمركز الشديد، الأناني والمتعصب وضيق الأفق، للطبقة الحاكمة ووهنها الذاتي وانحلالها وفسادها الفكري والأخلاقي، وما يتبع ذلك كله من إحساس، عام وحاد، بانسداد أفق التغيير بالأساليب والوسائل السلمية) مع الشرط الذاتي للثورة (وعي الجماهير ببؤسها، إدراكها أن هذا البؤس ليس قدرياً ولا طبيعياً بل إنسانياً واصطناعياً، ثم نجاح تلك الجماهير في إفراز وانتخاب نخبة طليعية من بين صفوفها تقودها لتحقيق أمل التغيير المنشود) حيث أن تضافر وتزامن هذين الشرطين يعني مولد اللحظة الثورية التي تظل، وحسب، بانتظار الحدث الصغير، أو الكبير، الذي سيقدح زنادها ويشعل أوارها (حروب، مجاعات، أوبئة، حادث قطار أو بائع خضار يحترقان هنا أو هناك، أو حتى مجرد فنان، متوسط الموهبة، ومقاول عمل طويلاً لدى سادته من كبار المنتفعين والفاسدين، قبل أن ينشق عليهم ويُشهِر بجرائمهم، لسببٍ أو لآخر).
– تقوم الطليعة الثورية، عبر زمن متطاول ومستمر، بثلاث مهام ثورية أساسية:
أولاً: بناء التنظيم الثوري القادر على قيادة العمل الجماهيري والحراك به، بتآلف واستمرارية ووضوح منهجي، نحو تحقيق برنامج العمل الثوري من جهة، وحماية هذا العمل، ونفسه بالأساس، من بطش السلطة الحاكمة.
ثانياً: بلورة المطالب الجماهيرية وأحلام الملايين وأشواقهم للتغيير في برنامج عمل حزبي متماسك وواقعي ، والسير بهذا البرنامج، خطوة فخطوة، باتجاه إجبار الطبقة المسيطرة القديمة على الرضوخ والاستسلام لتلك المطالب المليونية. وكذا صياغة بنود وعناصر هذا البرنامج في شعارات ثورية واضحة تجمع بين الخصائص التكتيكية أو المرحلية للشعارات، وبين السمات الاستراتيجية لها.
ثالثاً: خلق قيادة كاريزمية ، فاهمة وحركية معاً وبنفس الدرجة، أي قادرة على إدراك الواقع ومراحله ومتطلبات الحراك وفهم قوانين عمله وآليات عمل التاريخ، فضلاً عن مهاراتها التنظيمية وجاذبيتها الشخصية ومصداقيتها لدى العامة والخاصة، وهي عملية بالغة الصعوبة، تحتاج لتحقيقها ربما لأجيال وأجيال من المناضلين، ولا تتيسر للكثير من الهبات والانتفاضات الجماهيرية عبر التاريخ البشري، الأمر الذي يجعلها عاجزة عن بلوغ الهدف، فليس كل يوم يولد لينين وتروتسكي جديد، أو روبسبير ودانتون ومارا، فعلى الرغم من أن القيادة المؤسسة ( بليخانوف مثلا) لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي كانت بارعة في إدراك وفهم حركة التاريخ وموقعة الحزب الثوري الوليد بداخلها، إلا أن صفات وقدرات بليخانوف، كمفكر وفيلسوف أكثر منه كقائد وتنظيمي وخطيب كاريزمي، جعلت ذلك الحزب مضطراً للبقاء بانتظار ميلاد زعيم تاريخي عظيم آخر بقامة وقدرات لينين.
– إن كل ما سبق ذكره لا يعني، بطبيعة الحال، وهذا الأمر من المهم جداً التأكيد عليه، أنه حال حدوثه فإن العملية الثورية محكوم عليها بنجاح حتمي، ذلك لأنه، وببساطة متناهية، فإن الحتمية مفهوم لا تاريخي بامتياز. ولعل الشواهد التاريخية على ما أذهب إليه هنا أكثر مما ينبغي للتدليل على صحة مذهبي، وصفحات الثورات المجهضة أو الفاشلة أو المغدورة في كتاب تاريخ الإنسان تزيد جداً جداً عن صفحات تلك الظافرة، إن وجدت، ولعلى تفسير ذلك الأمر يتخطى مبحث المعرفة التاريخية إلى مبحث الأنطولوجيا، ولم لا ما دمنا ندعي التصدي لظاهرة نصفها بأنها إنسانية؟.

(3)
بالعود إلى نخبنا وطليعتنا الثورية المصرية والعربية، ربما يحق لنا أن نتساءل أين هي، بالضبط، من ذاك الفهم الذي حاولنا استبيانه الآن؟
ولأن الإجابة عن هذا السؤال الشائك تتطلب منا، ومن غيرنا بالقطع، بل من الجميع، التوفر على عمل تحليلي/تركيبي (سياسي و اجتماعي وتاريخي وثقافي ولغوي وديني) بالغ التعقيد، فسيح الأرجاء والأبعاد، فسأكتفي بطرح حفنة من الأسئلة، التي أحسبها هامة في هذا السياق، آملاً أن تلقي بعض الضوء على الظاهرة وتسهم في تفكيكها ولو قليلاً:
أولاً: ما حقيقة فهم الطليعي الوطني لظرف مجتمعاتنا العربية التاريخي الراهن، سواء في ضوء التفاعلات الداخلية الحرجة، أو ضمن السياقات الإقليمية والدولية، المتقاطبة والمصطرعة، الأشد حرجاً؟
ثانياً: ما طبيعة إدراكه لدوره الخاص، وظرفه الذاتي، كنخبوي أو كمثقف عضوي (بالمفهوم الجرامشي)، وكذا لقدراته الحقيقية ولحدود هذه القدرات، بعيداً عن الأوهام والآمال والمقاربات الحالمة؟
ثالثاً: بل ما حجم إدراكه، أصلاً، لدور الفرد في التاريخ، ولحدود ولزومية هذا الدور؟ وما إذا كان الفرد هو الذي يصنع التاريخ وفقاً لأحلامه؟ أم أن التاريخ هو الذي يشكل أحلام ذلك الفرد ويشكله هونفسه، بطرقه الخفية والسرية، كي يبدو كمن يصنع الحلم وليس كصنيعة لحلم صنعه مكر التاريخ؟
رابعاً: هل يعي الطليعي العربي، بحق، مبدأ سيرورة عملية التغيير المجتمعي، وبالتالي يقدر على إدراك أن ثمة مراحل، عديدة ومعقدة ومتطاولة في الزمن، مرت بها تلك المجتمعات الأكثر تطوراً على طريق سعيها الحضاري لإنجاز تغيرها الذاتي، ودفعت ثمنه باهظاً حروباً ومجاعات وقهر واستبداد وتعصب وظلامية، لقرون وقرون؟
خامساً: هل بتنا مهيئين للقبول بمبدأ دفع الثمن اللازم لإنجاز عملية الانتقال والتغيير الحضاري المطلوبة، وهو الثمن الباهظ الذي أشرنا، ونشير، إليه؟
سادساً: متى سيكف النخبوي العربي عن انتحال مواقف وقضايا ومنجزات، وحتى إخفاقات، الآخر وادعائها لنفسه والتماهي معها كبرهان على التحاق زائف من جانبه بالعصر، سواء الحالي والمستقبلي، أو الماضوي المجيد؟ إن فارق التوقيت الحضاري بين مجتمعاتنا وتلك الغربية الأكثر نمواً وحداثة لا يقل، بحال من الأحوال، عن أربعة قرون، ومن ثم فإن من يشقشقون بأهازيج ما بعد الحداثة في مجتمعات لم تبلغ بعد مرافئ الحداثة إنما هم غائبون مغيبون( بفتح العين وكسرها معاً) وأنا هنا طبعاً لست بحاجة للإشارة إلى المناقضين لهم؛ أولئك الذين يتوهمون أن بإمكانهم إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، ليعيدوا انتاج صورة ماضٍ زاهر باهر لا وجود له إلا في مخيلتهم الضيقة الكسيحة.
سابعاً: بعد إماطة الأوهام، هل نقدر على تحديد المهام والاتفاق المجتمعي بشأنها والالتفاف حولها، حتى نشرع بالانطلاق إلى آفاق البحث في البرامج والوسائل والأدوات؟
هذه فقط نماذج من عشرات، ربما مئات، الأسئلة التي يتوجب علينا طرحها على أنفسنا قبل الادعاء أننا على الطريق، فالخطوات العمياء قد تكون على الطريق هي أيضاً، لكن أي طريق؟!

 

مقالات من نفس القسم