الضوء

الضوء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 لنا عبد الرحمن

لم يكن الميل للعتمة مجرد رغبة عابرة، تغريه بمجالسة الظلام في الحجرات التي تحجب فيها الستائر أي نور يمكن أن يتسلل من الخارج. فالمشي في الأزقة المعتمة يماثل لديه متعة الاستسلام للعدم، والاستمتاع باليقين في أن أيامه تشبه خطواته المحدودة في الزقاق، ستنتهي في مواجهة جدار أبيض مرتفع وسميك وحتمي أيضا. حاول أن يفكك معادلة الميل للعتمة بمقاومتها. يترك النور مضاء، يدخل إلى النوم تحت شباك نصف مفتوح، من أجل أن تصل إليه أضواء الشارع وصخبه. شعر في وحدته أن الأضواء المنبعثة من اللمبة المعلقة في السقف تشبه أفاعٍ تمتد نحوه لتسحبه. يخاف ويغمض عينيه، يفر إلى عتمته الخاصة التي لا يفهمها أحد.

 

في الليل، يركل بقدمه زجاجة بيرة فتصطدم بالبرميل الذي تتدلى منه القمامة، يحدق في الأرض القذرة، ويتأمل في مجموعة من الأولاد المشردين يجلسون على الرصيف في آخر الليل، حين يجلس بقربهم، يظنونه مثلهم أيضا، لا يعرفون حاجته للبحث عن العتمة. وحين يحكي لهم أن لديه سريرا، وأنه هارب من كثافة النور في غرفته ومن نافذة عريضة ترسل أضواء طاغية، لا يصدقونه، يتبادلون سخرية تعارفوا عليها، يتركونه جالسا على الأرض، يمضون بعيدا.

يوم اعترفت له سهى بأنها تحبه، رأى في عينيها ذلك النور الذي يخيفه. ويدفعه للهروب. لمعت عيناها السوداوتان وانبعثت منهما خيوط نور كأنما تلتف حوله، تكبله، فزع وسارع بالفرار. تركها وحيدة. لم تفهم سهى السبب، لم تعرف أنه يحبها لكنه خائف من الضوء.

ظلت كلما التقت به صدفة في الشارع، أو عند مدخل العمارة، تحني رأسها ولا تنظر نحوه، كما لو أنها أدركت أنه سيهرب من بريق عينيها. كلما أوغلت هي في ابتعادها وعتمتها ازداد انجذابا لها. أحبها لأنها ترتدي دوما اللون الأسود، كانت الوحيدة من بنات الجيران التي تمتلك ضفيرة سوداء طويلة تنسدل حتى خصرها فوق سترة سوداء أو تلامس بنطالا أسود.

هل أدمن السواد والعتمة منذ أسدلوا  عيني أمه، ولبسوا عليها ثياب الحداد. كان في الخامسة من عمره حينها، كلما أراد أن ينام في غرفة مضاءة قال له جده ـ وهو يطفئ النور ـ “إن الخوف ضعف ايمان”، وهو في قلبه ايمان كبير، بأن أمه الآن سعيدة هناك مع الملائكة التي ترافقها لأن روحها كانت طيبة جدا، ونقية، لا يذكر من أمه سوى قامتها الطويلة الممتلئة، وصدرها وافر الحنان. لكنها مضت قبل أن يعرفها أكثر.

ظل على ارتباطه بالعتمة، والميل إلى نبذ الضوء، وتأمل الظلام. طرده أستاذ الفلسفة من المحاضرة حين قال له أن الظلام هو نور أيضا، لكنه أكثر سطوعا فلا يمكننا الإبصار عبره. بعد قوله هذه العبارة، أحس أنه اكتشف نظريته الخاصة، صار يمضي في الظلام ممعنا في تأمل ضوئه، ليؤكد لذاته أن الظلام هو النور، والحياة هي العدم، وأن الفقد توحد مع المفقود ليس إلا.

“كل الأشياء متساوية” كان يقولها في صوت مرتفع في كل الأماكن. حمل في البداية لقب: “الفيلسوف الصغير”، ثم لقبوه بـ”المجنون”. هو لم يكن يكترث بكل الألقاب، كل ما أراده في الحياة، أن يتركوه ينعم في عتمته، لكن هذا لم يحدث،. ظلوا يجبرونه على مواجهة الضوء البشع، الضوء الذي يفرض حضورا ثقيلا عليه، يدفع عقله للتوتر والغضب. العتمة سكون، بينما النور هو الضجيج الموجع بلا شاهد على مدى أذاه. أجبروه على الامتثال للضوء. الضوء الذي أفقده عقله تماما. نزعوا المجذوب من عتمته، ليصير مثل دودة قز تتقلب على الأرض الى أن تموت من الجفاف. وها هو الآن يعيش جفافه، يتقلب على الأرض تحت ضوء الشمس الساطع، منتظرا نهايته.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون