الصديق والطريق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

كانا قد عقدا عزمهما، معاً، على تطليق هذه الحياة، الوادعة اللاهية الغارقة في برك الوهم، والانطلاق، بعيداً بعيداً، بحثاً عن الحقيقة. وكشابين، مترعين بالشوق لكل ما هو أبعد من متناول الأيدي، لم يتوقفا للسؤال، حينها، عما يقصدان بالحقيقة. كان الهمس، الغامض المشحون المثير، بالكلمة يكفي، وحده، للتصديق، ومن ثم للتسليم الأخلاقي الكامل، بجدارة واستحقاقية المسعى. أمَا سيدهارتا جوتاما فقد خلَف، في قصر أبيه المحاط بالأسوار العالية، زوجته الحسناء وطفله الحبيب والثراء والدعة، مُلاحَقاً بمشاهد الشيخوخة والمرض والعجز والفقر والموت التي بقيت تسوطه بلا هوادة، ومتصامياً إزاء رجاءات الأب وعبرات الأم وعويل الزوجة الصبية التي سيهبها، فور خروجه القاسي غير المفهوم ذاك، للترمل وللانطفاء وللنسيان. لم يعرف الأمير الشاب، أبداً، كيف واتته تلك القسوة كلها، ذلك التجلد كله، ليحكم لف رداء فقراء النساك، الخشن الأصفر اللون، من حول جسده، الممشوق القوي، ويحمل قصعة الصدقات الصغيرة في يده، قبل أن يصفق باب القصر المنيف، ويذهب.
على أول الطريق، المفضي إلى الغابة، وقف جوفيندا مستنداً إلى عصاه المصنوعة من غصن شجرة صفصاف، متشحاً برداء النساك الأصفر ذاته، ومن دون أن ينسى قصعة أرز الصدقات ذاتها. لم يكن شأن الرحيل بالغ الصعوبة في حالته، فخلافاً لصديقه، الأمير الساكياموني، ما كان لجوفيندا، اليتيم الأعزب، منْ يبكي بين يديه، مُلِحاً ومُستعطِفاً، ليستبقيه، الأمر الذي حررَه وأشقاه.
– لابد أن خروجك كان صعباً؟
بادر المنتظِر صديقه، المتأخر عن موعدهما المضروب بينهما منذ الأمس، بصوت لا عتب فيه، لا إشفاق، بل ربما ظلٌ من غيرة يعرفها وينكرها على نفسه.
– كلُ انفصالٍ ألم. علينا أن ندفن موتانا يا جوفيندا. والآن هيا لندخل الغابة.
حدَق جوفيندا، ملياً، بعيني صديقه، محاوِلاً العثور في نظراتهما، الثابتة المتوهجة، على رماد الحريق الذي يحدس باشتعال أواره في روح الإبن والأب والزوج، لكن بلا فائدة. تعجب من انطفاء صديقه المتوقد، أو من توقد انطفائه، وأضمر أشياءً لم يبح بها، حتى لقلبه، الواجف الواقف عند تخوم الاتباع والانصياع.
لثلاث سنواتٍ طوال، راح الشابان يميتان جسديهما باستماتة، حالمين بانبعاث الروح. تبعا كل الشامانات الذين علما بوجودهم في الجوار، وفي جوار الجوار. طافا على القرى الفلاحية الفقيرة بقصعتي الصدقات، يتسولان القليل من الأرز وبعض الخضروات أو ثمار التين اليابسة. تعلما كل دروس اليوجا من الراجا إلى الجناني للبهاكتي. أمضيا الليالي، الحارة الطويلة، تحت السماء، المتوسعة الفسيحة المتلألئة بملايين الملايين من النجوم، يتناقشان في مفهوم الكارما، ويبحثان في معنى الدارما. أوشكا، حتى، على تعلم السير فوق الماء، وأتقنا، بطبيعة الحال، دروس التنفس الأساسية. هزل العودان وانتصبا، وبدت حياتهما وكأنها قد صادفت وجهتها الصحيحة، واعتلت سنام موجتها المنشودة.
كانت الليلة عند انتصافها حين أحس جوفيندا بيدٍ، خشنة ضامرة، تهز كتفه برفق. أفاق من نومه، ليجد سيدهارتا يبحلق في صفحة وجهه، بتلك النظرة التي لطالما ميَزها بعينيه خلال اللحظات الحاسمة العديدة التي مرا بها معاً. فهم أن ثمة حدثاً جللاً يوشك على الوقوع.
– ما بك؟
– سأرحل عن المعبد الليلة.
– ترحل؟ الليلة؟ إلى أين؟
بمجرد أن نطق بالسؤال، وعى جوفيندا أنه قد أخطأ طرح السؤال، أو أن سؤاله يخلو من كل معنى، أو أن رحيل صديقه، في نهاية المطاف، كان أكثر الاحتمالات التي ظل ينتظرها لسنواتٍ ثلاث، وبصرف النظر عن توقيت الرحيل ووجهته.
– هل تأتي معي؟
– وهل تريدني معك؟
أشاح سيدهارتا بنظرته بعيداً، متفادياً مواجهة نظرة صديقه الموشاة بالتقريع والإدانة. كانا يدركان الآن أن سبيليهما يفترقان، وأنه غدا على كل واحدٍ منهما أن يشق طريقه إلى الخلاص بمفرده، أو أنه، في حقيقة الأمر، ما من أحدٍ إلا ويشق طريقه للخلاص وحده.
– إلى لقاءٍ يا جوفيندا.
– بل وداعاً يا صديقي.
ميَز سيدهارتا في كلمات رفيق الصبا والشباب، وربما لأول مرة، ضرباً من الراحة والخلاص. عضَ بأسنانه على شفته السفلى حتى أدماها، راغباً في معاقبة نفسه على جُرمه الذي ارتكبه بحق هذا الصديق طوال تلك السنين الماضية؛ جُرم أن تسعى كي تحقق خلاصك الفردي، متحرراً من فكرة المثال، هازئاً بكل نموذج سابق، وغافلاً عن وقوعك في هاوية أن تصير أنت المثال، أو تغدو تجربتك هي النموذج.
– إلى لقاء يا جوفيندا.
كررها ثانية، آملاً أن يلتقط صديقه ما فيها من رجاءٍ وأمل، ثم غادر غير ملتفت إلى وراء.
ما كان قد فكَر، مُسبقاً، إلى أين سيذهب، ولعل غاية ما فكَر فيه هو الذهاب، وحسب. لكنه، وعلى عادته، ظل يفضل السير عبر الطرق غير المطروقة؛ تلك التي هجرها الناس منذ زمان، أو بالأحرى تلك التي ما شقها البشر بعد، ولا وطأتها قدم إنسان من قبل. مضى مخترقاً الغابة، التي يقبع المعبد عند طرفها الشرقي، مولياً وجهه صوب الأعماق. تذكر تحذيرات الرهبان المتواترة من التيه إذا ما فكر أحدٌ ما باختيار تلك الوجهة التي لم يعد منها منْ قصدها، ولا يعلم أي إمرئٍ إلام تُفضي.
– التيه الحقيقي هو تعقب خُطى السابقين. مزق خرائطهم القديمة كلها، وارسم لنفسك خريطتك بحسب قياس خطوك.
لثلاث ليالٍ وثلاثة أيامٍ، راح يردد لنفسه، وهو يضرب في متاهة الأشجار المتكاثفة خطوة بعد خطوة، وقد أنهكه المسير، ونال من جسده الضامر الجوع والعطش. في الليلة الرابعة، ارتكن إلى جزع شجرة تين ضخمة، واستسلم لرقاد ثقيل.
– هي بانتظارك، على مسافة شبر لا غير، وقد تزينت وتعطرت للقاء المرتقب.
فتح عينيه، فلاح له أول خيوط ضوء الفجر ينسل من بين أغصان التينة العجوز. ابتسم لنفسه مستبشراً، وأخذ يجمع أشياءه القليلة ليواصل السفر. لم يكن النهار قد انتصف بعد حين بدا له، على مرمى البصر، بنايات عديدة، شاهقة الارتفاع، تلتمع واجهاتها وأسطحها ببريق ذهبي أخاذ، يخطف البصر، وقد أحيطت بأسوار، عالية سميكة، تتناثر على جوانبها الطوابي والقلاع المحروسة بجندٍ شاكي السلاح. جعل يغذ الخطى باتجاه تلك المدينة الخارجة، لتوها، من التيه، أو الحلم ربما، وما هي إلا دقائق من السير النشط، وكان يمرق داخلاً من بين البوابات الخشبية العملاقة. راعه ما كان يبصره، من فخامة وثراء وأبهة، أينما ولى وجهه أثناء سيره في الشوارع، المستقيمة الواسعة المزينة بأشجار النخيل الملوكي، أو عبر الأسواق، الكبيرة العامرة بكل صنوف البضائع والسلع من خضروات وفواكه ومشروبات وملبوسات وأدوات للزينة وأخرى للترفيه وغيرها، ولأول مرة، مذ هرب بليلٍ من قصر أبيه، راح يعيد النظر في رداء الرهبان الأصفر الخشن، وفي قصعة الصدقات الفخارية العتيقة، بل وفي لحيته المشعثة المرسلة بلا قيد، وصندله المجدول من لحاء الشجر، فيستشعر غرابته، ويحوك في صدره شعور ما، بالخجل أو، على الأقل، بعدم الارتياح، الأمر الذي أربكه، حتى دفعه للتفكير في النكوص على عقبيه، والخروج من تلك المدينة المغوية. وبينما هو يجاهد ذاته، متوزعاً بين البقاء والهرب، لمحها تميل لدكان العطور القابع أمام ناظريه، مباشرة، فاختلج قلبه اختلاجة عنيفة لم يعهدها فيه قبلاً. حين همَت بمغادرة الدكان، لاحت من جانب عينيها التفاتة لذلك الراهب، الفقير المتسول غريب الأحوال، وكافأت افتتانه المنذهل بجمالها الأنثوي مكافأة سبته نهائياً، وحسمت تردده وتوزعه للأبد. لم تكن ابتسامتها، المغوية الداعية اللعوب، التي سربتها، بصمت، في دمه الذكوري، الذي كاد يتخثر في عروقه، التي أوشكت على التصلب، مجرد ابتسامة تسبي بها امرأة جميلة رجلاً شاباً، لا يزال، كان يتوهم أن فوران الدم بالقلب قد خمد، بل أكثر من ذلك بكثير. لعلها كانت نداء الحياة، أوقصاصها لذاتها، من ذاك الساكياموني الذي تصور أن الخلاص يكمن في إماتة الحياة بداخله وإخراس نداءاتها.
عشر سنوات كن قد مضين الآن على الساكياموني بعد أن طوح بقصعة الصدقات، وخلع الرداء الأصفر، وتزوج بحسناء العطور التي أنجبت له صبياً صار قرة عينٍ له، وأضحى أكبر تاجر عطورٍ بمدينة القباب المذهبة. عشر سنوات نسى فيهن سنوات المعبد على حافة الغابة، دروس التنفس، أيام الصوم الطويلة، ليالي الصلاة والتأمل والترنيم، تماماً كما نسى في الغابة قصر أبيه، زوجته الجميلة المترملة بحياته، وطفله الأول المتيتم برغبة أبيه في خلاص الروح وفك الارتباطات. إلى أن جاء ذلك اليوم الحزين الذي ابتلع فيه النهر، الطامي الفائض، كل شئ؛ المتجر والدار والزوجة والصبي.
– ها ها ها، لا تصدق أبداً أنها تنتظرك، لا تتوهم أنها تتزين أو تتعطر لك.
فتح سيدهارتا جفنيه المثقلين بنعاس الليلة، الطويلة المشحونة بالأحلام، تحت شجرة التين العجوز الضخمة، ليرى تلك المرأة، القروية النحيلة، تقدم إليه قصعة أرز مسلوق تهبها إلى روح التينة الحارسة؛ ذلك الناسك الشاب الذي تكرمش جلده، وضمرت عظامه، وغارت عيناه في محجريهما، من الصيام المتصل. تناول جوتاما بعضاً من أرز التقدمة وأخذ يمضغ بتلذذ وامتنان. قال للقروية الساكنة أمامه بصوت يمتلئ بالعرفان:
– بُورِكت أيتها المرأة الطيبة، فبحفنة أرزك أدرك سيدهارتا الطريق، ليصير البوذا.
– بُورِكت أنتَ أيها المقدس.
– بل اسمعيني جيداً أيتها المرأة الطيبة، لستُ مقدَساً، حتى وإن كنتُ البوذا، وإنما الحياة هي المقدسة، فهل تفهميني؟
– أفهمك أيها المبجَل جداً، ومن غيري، أنا القروية غير المتعلمة، يمكنه أن يفهمك؟
شيَعها البوذا بابتسامة بالغة العذوبة، وهو يطيل التفكير المتروي في كلماتها الأخيرة. ولسببٍ ما تذكر صديقه جوفيندا، وتمنى لو أنه معه، الآن، ليتعلما درسهما الأهم من هذه القروية الفقيرة غير المتعلمة.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون