الصحفي وضمير الشاعر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى عبادة

... وهكذا قرر الشاعر "عزمي عبد الوهاب" أن يصدر كتابا خارج الشعر.

كنا نلح عليه أن يفعل، ولديه الكثير المهم، الذي يغوص به في تاريخ الثقافة وحركة المثقفين، وكان يصمت، ويسوف، لأنه مخلص، ومدين لجهة واحدة هي: الشعر، ولمن يتصور أن إخلاصه للشعر، يعني خفة في الكتابة الثقافية، فذلك وهم، فمن خلال معرفتي به، ومعرفتي بنهمه المعرفي، فإنه لا يمسك بالقلم، ويقرر الكتابة في موضوع ما، إلا إذا كان لديه جديد، أو إضافة لم يلتفت اليها أحد، أو إنارة زاوية غابت عن البعض، غرضا أو عرضا، ليضع قلمه بوضوح فكري، وموقف ثابت، ودقة معلوماتية.

المعرفي: هم لا يتزحزح من وجدان الشاعر، فإذا كانت المعرفة الوجدانية الباطنية، هي وقود القصيدة، وباعثها، فإن المعرفة العقلية هي الهدف فيما يمكن أن يفكر فيه عزمي عبد الوهاب، ولأنه في القصيدة، يكره الزخارف والمقدمات، يكره المراوحة وعدم الوضوح، يكره تزييف المشاعر، أو التحايل عليها، فهو بالقدر نفسه، يكره في الصحافة الجهل والركاكة، وميوعة الموقف، وكل ما كتبه على مدار عمره، الذي يتجاوز ربع القرن، يصلح كتبا مهمة، تضع الحقائق أمام من يتابعه، فكتابته مربوطة بخيط خفي، لمن لا يعلم، وواضح لمن يتابعه، فكأنها حلقات متصلة لا يغادرها قبل أن يوفيها حقها، ويغمرها بالتأني والفحص، مستفيدا من دقة الباحث، وضمير الشاعر، ومكره في التعامل مع المادة المعرفية والبشرية.

هكذا قرر عزمي عبد الوهاب أن يصدر كتابا يفضح فيه، ويعري مشاعر المثقفين، حين أمسك بمصباح التناقضات ودخل حياتهم، من خلال ثنائيات عاطفية غالبا، وإنسانية غالبا أيضا، فهو يضع رؤية الواحد في مقابل رؤية الواحدة، ويختار من الرؤية، ما يعبر عن كل طرف، دون أن يلفتك إلى التناقض، دون أن يشير إلى بذور الصراع، يتركها تنمو من خلال اختياراته، لتكتشف وحدك أن أغلب المثقفين يتعاملون مع الحب، وتحققه الجسدي كموضوع خاضع للفحص، فيصير بالنسبة لهم سلما إلى المعرفة، سلما إلى غيره، وليس سلما إلى ذاته، سيفضح عزمي، زيف مشاعر المثقف، وتوترها، وعدم استقرارها، ومركزية الغريزة وثباتها، كموضوع قابل للفحص والتأمل، كموضوع قابل لطبقات الوعي، كقنبلة انفجرت في وجه المبدع، فتأمل مكوناتها دون أن يبعدها عنه، أو يلتصق بها.

وعلاقة الكاتب والكاتبة، حبا أو زواجا، من الموضوعات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، دون أن يخضعها أحدهما، أحد المتورطين فيها للعلانية، لاختبارها أو نزع سمومها، ويظل سؤال علاقة المبدعة بزوجها شائكا، سيبقى الأصل الاجتماعي حاكما (عز الدين إسماعيل ونبيلة إبراهيم) وسيبقى الوعي المعرفي بطلا في القصة (محمد الماغوط وسنية صالح) وسيظل الفارق بين الواقع والخيال محيرا، وقلقا وجوديا صادقا، سيبقى الطريق الأمثل للانتحار(سيلفيا بلاث وتيد هيوز) والفارق أن السياق الاجتماعي بين هنا وهناك ما يجعل التعبير عما جرى، وعما ينبغي أن يجرى، بالاعتراف أو الأفكار قائما هناك، وشبحا هنا، نستشفه من القصائد، من النميمة، وأحيانا بالمطابقة بين الكاتب وخيالاته، فتدفع الكتاب إلى التخفي، والإغراق في التعمية، فتظل مشاعرنا أسيرة تصورات الآخرين، عطاء المبدعة هنا، مغموس بالتعالي بالفرادة بالمبالغة في تقدير الذات، بتحقير الذكر، باعتباره جزءا من آلية تضخم ذات المبدعة، بالرغبة في امتلاك الآخر، وإتاحة الذات للآخرين، لكن يظل مثال “سيلفيا بلاث” و”حنه آرندت” خارج السياق، استثناء يؤكد القاعدة ويرسخها.

ما علاقة هذه التأملات بعزمي عبد الوهاب وكتابه؟

أنا أثق في أن الرغبة في الفضح، في المعرفة، في إتاحة فلسفات الآخرين بذواتهم، وبذوات قرنائهم، هي دافع عزمي عبد الوهاب الأساسي من نشر وتحقيق هذه السلسلة من الثنائيات، خصوصا ثنائية المرأة والرجل في الكتاب، كما أثق أنني أكتب إليك الآن، فالموضوع الذي يمر عليه القارئ مرور الكرام، يأخذ عند عزمي حجمه الإنساني والعاطفي، حجمه المعرفي، هو يحاول من خلال معرفة الآخرين معرفة ذاته، ومن خلال فهمهم يحاول فهم ذاته، وهو سعي بشري قديم: “اعرف نفسك” كما صرخ بها من صرخ، وكانت فضيحة الجنس البشري، الذي أعلى الموضوع الواقعي، على الذات، وأعلى الوقائع، فإذا كانت علاقة المبدعين تخضع للخيال، وللقراءة المثالية للاختلاف النوعي، فإن الوقائع اليومية المباشرة، تنسف تلك التصورات، وتضرب الأنساق الذهنية، تلك الوقائع تحتاج إلى التسامح، إلى الاتساع، إلى الرحمة، والتفهم، وإنكار الذات، وإلا ستنتصر على الواقع، وتصورات الذهن، وتلك علامة رصدها عزمي عبد الوهاب في ثنائية “سيلفيا بلاث وتيد هيوز” وحاول المرور عليها في علاقة “نبيلة إبراهيم وعز الدين إسماعيل” ومن نجا نجا بالتواضع والمعرفة، بمحبة الحياة، لا بتأملها، بتقدير فوضاها، لا بتنظيم فلسفتها.

“عزمي عبد الوهاب” أشار ووضع الأمر بين يديك، وأنت من سيختار، عزمي حاول معرفة ما وراء الوجوه، فتعرف إليها من خلال إنتاجها، من خلال ما كتبت عن نفسها، أو ما كتب الآخرون عنها، فعل ذلك مع من اكتملت تجاربهم، مع من ماتوا، لكنه في الواقع ومع الأحياء يفعلها من نظرة واحدة، ومن انطباع واحد، وجملة واحدة يقولها المرء، فيخضع حينها لمقاييس “عزمي عبد الوهاب”.

حينما نعي الشاعر “الخشن” الفرزدق إلى جرير الشاعر الرقيق، بكى جرير، فسئل: ما يبكيك، وقد مات غريمك؟ قال: إني لاحق به، إن العلاقة منزوعة من نقيضها، عداوة أو محبة، تعني الاقتران في المصير، الاقتران في تطابق النهايات، ذلك حين تختار أعداءك، أو من تضع بين أيديهم مشاعرك، جرى ذلك في أغلب الثنائيات التي “نشن” عزمي عليها، ليكتشف من خلالها فلسفة المحبة والعداوة، فلسفة الاختيار الحر، أو المفروض بفعل الظروف، والسعي البشري إلى التحقق والمنافسة، كل النماذج الذكورية هنا، افترقت طرقها أحيانا، وتمازجت أخرى، لكنها جميعا خضعت لمنطق التاريخ، فأبقى من أبقى، وأهال التراب بحكمته على من أهال، هذه النماذج البشرية، حددت مصائرها بنفسها، وصارت علما في سعيها، وعبرة في نهاياتها، ولا يغرنك هنا ما تطالعه من اعترافات، أو من كلام خضع لزمنه، فما بين السطور أقسى وأمر، حدد من تحب، سيتحدد تلقائيا من تكره، تلك رسالة “عزمي عبد الوهاب” إليك في هذا الكتاب.

……………

مقدمة كتاب “أشباح في طريق البيت” للشاعر عزمي عبد الوهاب

 

مقالات من نفس القسم