الشجر والقمر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 23
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى عطية

    الوقت مبكر على ذهابه لمدرسته الابتدائية، هكذا اعتملت الخاطرة في نفسه، وهو يحمل عن أمه – عاملة النظافة – كيسا ورقيا، وقد علّق على كتفه حقيبته المدرسية القماشية، ثم يدلف معها من باب مدرسة البنات الإعدادية الخاصة التي تعمل بها، تلقي الأمُّ السلام على ” عبد العليم ” الحارس، فيرده  بهمهمة مفهومة وهو جالس في غرفته الملاصقة للبوابة. لا تزال السماء مغبشة ببقابا الغيوم والظلام، في صباح شتائي بارد.

   دخلت الأم غرفة العاملات، وأخرجت الخبز والفلافل ساخنة، وأعدّت لصغيرها عدة سندويتشات لفّتها جيدا بورق أبيض، ودسّتها في حقيبته التي ركنها جانبا، تلفتتْ باحثة عنه، كان قد تسلل بالمقشة ليكنس الفصول، محافظا على ترتيب المقاعد والطاولات. ابتسمت وهي تنادي بصوت منخفض عليه.

    قبل أن تصل أي من طالبات المدرسة، أنهى عمله، وغسل وجهه، ونفّض مريلته الكاكية، وقبّل يد أمه، ثم ذهب إلى مدرسته غير البعيدة، موقنا أن عليه مرافقة أمه في عودتها للبيت، لذا يتأخر حتى تغادر كل طالبات المدرسة، ومن ثم يسرع بكنس ممرات الإدارة وما بين الفصول، على أن يكمل في صباح اليوم التالي.. ستنازعه أمه دوما وتمنعه من التكرار.

   يعلم أن مديرة المدرسة حادة اللسان والمزاج، لذا تلوذ أمه وهي كبيرة السن بالصمت إزاءها، ولا تملك إلا إطراقة الرأس موافقةً على كلامها.

***

     في روحتهما إلى البيت، يحكي لها أنه أكل كل طعامه، واحتفظ بقروش مصروفه فقد أشبعته الفلافل. وأنه سيدرس وينجح ويتفوق، وأنه لا يزال يفكّر ماذا سيكون في المستقبل. يحكي لها كل ما يسرها، وهي تتكئ عليه في سيرها، سعيدة بكلامه المتصل عن زملائه ومدرّسيه. حتى يصلا للمنزل.

     تحمد ربها أن رزقها بـ ” محمود ” وهي التي حُرِمت الذرية، من زواج دام سنوات، أعقبه طلاق وظلت تحمل لقب مطلقة في قريتها المجاورة للبندر. حبلها عزيز هي وأختها الصغرى، إلا أن زوج أختها صبر ودعا، فامتن الله عليه بولد بعد سنوات طالت أوشك فيها العود أن يجفّ.

    زغردت يوم ولدت أختها ولدا، وغزت بيوت القرية بالشربات، ولاذت بالبكاء يوم جاءها نبأ وفاة أختها بحمّى النفاس. واستوت الدنيا والآخرة في عينيها، فلم تفرح كثيرا عندما وجدت نفسها زوجة لزوج أختها، وتحمل ابن شقيقتها – وهو قطعة لحم حمراء – على ذراعيها، وتتفنن في إطعامه، مسترجعة كل ما شاهدته من هدهدة الأطفال، وفن إسعادهم، وانبهرت عندما رأته حاملا ملامح أختها وطباعها ؛ هدوءا وصبرا وقناعة.

***

    منزلهما غرفتان متداخلتان، وفوقهما سطح به عشش الفراخ،  تحمد الأم ربها أن هدى أبا محمود إلى شرائه بكل ما ادّخره طيلة عمله كعامل ” قروانة ” في المعمار، متنقلا بين القرى والمحافظات.

    مات أبو محمود بعد سنوات، و تلاشت الجنيهات التي تركها،وكان عليها أن تعمل فرّاشة بوساطة من ” عبد العليم ” حارس المدرسة، الذي يقطن في قريتها، ويعرف أنها الوحيدة الباقية من أسرتها، فنسلهن قليل.

    يختزن محمود في أعماقه همسات أمه / خالته الليلية، أن تعود إلى قريتها، ويكون لها بيت يجاور الخضرة، ليلتقي في مدّ بصرها الشجر والقمر.

***

    في هذا اليوم كانت مريضة، فتحاملت على محمود وذهبت، لم تتنبه لاستفسار عبد العليم عن سبب تأخرها، أسرعت بالدخول، وأسرع محمود بتنظيف الفصول، امتد الوقت، ووقفت البنات في الطابور الصباحي.

    حين فتحت باب الفصل أولى الطالبات ولوجا، كان محمود ينهي تنظيفه. كلهن تسمّرن لرؤية هذا الصبي، والغبار يصبغ شعره الغزير، أغلقن الباب، وحضرت المعلمة، وتطلعت إلى محمود الذي تحرّك بينهن غير منكّس الرأس، غير مكسور العين، غير مبتسم. نزل لأمه، قبّل يديها المعروّقتين، وحاول الخروج من الباب الخلفي للمدرسة، ولكن عبد العليم الحارس ناداه وفتح له الباب الأمامي، لم يفهم الصبي، وهو يجر حقيبته القماشية، ليدخل إلى مدرسته متأخرا.

 ولا يزال يحتفظ بكلمات أبيه وهو يحتضر : خالتك ” صفية ” هي أمك وأبوك.

***

    عليه أن يعمل في عطلته الصيفية، وأن يتقن حرفة، يستند إليها في صباه وفتوته، ويجابه تقلبات الدنيا التي تجري عليه مثل ما تجريه على الناس جميعا.

^^^^^^^^^^

   تصر أن تتسند عليه، لتخرج وتجلس على الدكة الخشبية أمام البيت الجديد، ظهرها شديد الانحناء، عبث حفيدها بخصلات شعرها فبرزت شديدة البياض من طرحتها السوداء، كلماتها تمتمات، ينصت لها محمود، ويحكي لها عن عمله معلما في المدرسة الإعدادية بالقرية، ويعيد عليها كيف أنه باع البيت في البندر، واشترى بيتا جديدا في القرية.

    يجلسان متجاورين، تشير إليه ألا يسكت، تصدر عنها همهمة، فيمعن في الحكي، يتلاقى في بصرها الشجر والقمر.

    يشير إليها أن تدلف للبيت، فالمساء بارد..، تستجيب له، يطعمها بيديه قبل أن تتمدد في فراشها، وتهمهم مسترجعة : محمود الصبي الذي لم ينكس رأسه أمام البنات كما حكت لها مديرة المدرسة والمعلمات، وأصررن أن يخرج أمام الطالبات من الباب الأمامي، وألا تخبره أمه بشيء عن الحدث، ليكون معها في غدوها ورواحها اليوميّ.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون